خلال العام الماضي، هيمنت على التغطية الإعلامية والتحليلات الغربية للحروب الإسرائيلية المدمرة في الشرق الأوسط؛ مناقشات حول جهود حكومة الولايات المتحدة، بالتعاون مع حلفائها في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، لاستخدام نفوذها الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي، في محاولة متكررة وغير ناجحة لإقناع الائتلاف الإسرائيلي اليميني المتطرف، بقيادة بنيامين نتنياهو، بتغيير مساره المدمر تجاه الشعب الفلسطيني.
وفي هذا السياق، أشار ستيفن والت، من جامعة هارفارد، إلى أن واشنطن، تملك نفوذًا أقل على إسرائيل مما كان يُعتقد سابقًا، بينما اعتبر جيريمي بوين، من شبكة بي بي سي، أن تهديد بايدن، في أكتوبر، بتقييد إمدادات الأسلحة الأمريكية لإسرائيل، يعكس غضبه من إخفاق حليفه في الوفاء بوعوده.
وتتناقض هذه التقييمات مع الواقع، حيث تواطأت واشنطن، بشكل مباشر، ليس فقط في حروب إسرائيل ضد غزة ولبنان، التي أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف، وتشريد الملايين من المدنيين، بل أيضًا في القمع المستمر للشعب الفلسطيني على مدى عقود تحت نظام الفصل العنصري، وهو ما يتعارض تمامًا مع القيم والمبادئ التي تدعي الولايات المتحدة أنها تدعمها عالميًا.
وبينما تعكس أغلبية الأمريكيين (61%) -وفقًا لاستطلاع أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العالمية- رأيًا إيجابيًا بشأن دور بلادهم في الشرق الأوسط؛ فقد اعترف مسؤولون سابقون في إدارة بايدن -الذين استقالوا احتجاجًا على تصرفات حكومتهم- بوجود تواطؤ لا يمكن إنكاره من جانب الحكومة الأمريكية وحلفائها في الغرب في الحملة الإسرائيلية الممنهجة لإبادة الشعب الفلسطيني. وتتمثل الطريقة الأكثر وضوحًا لتواطؤ الغرب في حروب إسرائيل التدميرية، في كيفية تزويد تلك الدول لها بالوسائل اللازمة؛ لإلحاق أضرار بشرية ومادية هائلة بغزة، والضفة الغربية، ولبنان، وأهداف أخرى بجميع أنحاء الشرق الأوسط.
ومن المعلوم، أن واشنطن، تُعتبر أكبر داعم عسكري لإسرائيل. وأوضحت بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، أن 69% من إجمالي وارداتها العسكرية بين عامي 2019 و2023، كانت من الولايات المتحدة. ووثق مجلس العلاقات الخارجية، أن إسرائيل -التي تُعد أكبر متلقٍ للمساعدات العسكرية والاقتصادية الأجنبية منذ عام 1948- حصلت على ما يقرب من 310 مليارات دولار؛ أي ما يعادل ضعف ما تتلقاه أي دولة أخرى.
ومن خلال مذكرة تفاهم أقرها الكونجرس، يخصص البيت الأبيض سنويًا ما لا يقل عن 3.8 مليارات دولار من التمويل العسكري لها. وخلال العام الماضي، ارتفع هذا الدعم بشكل كبير ليصل إلى 17.9 مليار دولار، في شكل (قنابل وقذائف وطائرات وصواريخ ومدافع)، جميعها استخدمت ضد أهداف مدنية في غزة. وفي السياق ذاته، سجل معهد واتسون للشؤون الدولية، أنها قدمت لإسرائيل دعمًا عسكريًا إجماليًا تجاوز 22.76 مليار دولار خلال الفترة من أكتوبر 2023 إلى سبتمبر 2024، مؤكدًا أن هذا التقدير متحفظ وغير شامل، ولا يعكس حجم الدعم الأمريكي لها أثناء تدميرها لغزة ولبنان.
ورغم أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن، أرسلا رسالة إلى حكومة نتنياهو في منتصف أكتوبر 2024، يحذران فيها من العواقب المحتملة لشحنات الأسلحة الأمريكية المستقبلية، إذا استمرت القيود الشديدة على المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة؛ إلا أن التساؤلات حول ما إذا كانت الحكومة الأمريكية ستنفذ مثل هذا الإنذار، يجب ألا تغطي على حقيقة أنها قد زودت إسرائيل بالفعل بالأسلحة والذخائر التي تحتاج إليها للقيام بهذه الحروب، وتمكينها من الاستمرار.
وبناءً على ذلك، تبرز الولايات المتحدة، كطرف متورط في الجرائم التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، حيث يعكس إصرار بايدن، وكبار مسؤولي إدارته على التأكيد، أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها؛ أن أي توقعات بشأن تغيير السياسة الأمريكية تظل بعيدة المنال.
من ناحية أخرى، فإن مقاومة واشنطن، الواضحة للدبلوماسية، وسيادة القانون الدولي، أدت أيضًا إلى استشهاد عشرات الآلاف من المدنيين، فضلًا عن الإصابات جراء هجمات الطائرات والدبابات والجنود الإسرائيليين. وخلال الأشهر القليلة الأولى من حرب إسرائيل في غزة، استخدمت حق النقض أكثر من مرة ضد قرارات وقف إطلاق النار، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومع تقديمها مقترحا لمجلس الأمن بوقف إطلاق النار بغزة في يونيو 2024، كان أكثر من 37 ألف فلسطيني قد استشهدوا على يد قوات الاحتلال، وأُجبر جميع السكان المدنيين تقريبًا على الفرار من منازلهم.
في السياق ذاته، تولت الولايات المتحدة، دورًا مباشرًا، لدعم إسرائيل، وتقويض الجهود الدولية الرامية إلى مساءلتها عن الانتهاكات العديدة الموثقة التي ارتكبتها، حيث رفضت الحكم الأولي لـمحكمة العدل الدولية، في يناير 2024، الذي ينص على أن حليفتها لديها قضية تستحق النظر بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة، وكذلك الحكم الاستشاري للمحكمة في يوليو 2024، حول عدم قانونية احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية.
ومع انضمام الكونجرس إلى محاولات إسرائيل لتهديد المدعي العام، والقضاة في المحكمة الجنائية الدولية؛ لإسقاط القضايا المتعلقة بمذكرات الاعتقال الدولية، ضد نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية؛ أشار ريتشارد فالك، من جامعة برينستون، إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها أظهروا مرة أخرى ازدراءهم لسلطة القانون الدولي، عندما تعارضت مع مصالحهم الاستراتيجية.
كما أن أحد الديناميكيات الأخرى، التي تورطت فيها لزيادة معاناة الفلسطينيين، تتعلق بتقييد إسرائيل المتعمد للمساعدات الإنسانية الضرورية إلى غزة. وبالمقارنة مع أكثر من 22 مليار دولار قدمتها لقوات الاحتلال، لتمكينها من تنفيذ هجماتها الجوية المتكررة، وغزوها للأراضي الفلسطينية؛ فإن إدارة بايدن، لم تلتزم سوى بـ1.2 مليار دولار كمساعدات إنسانية للمدنيين الفلسطينيين. ولا ينبغي نسيان كيف دعمت عبر إدارات متعددة الحصار الذي استمر 16 عامًا على غزة، والذي ألحق أضرارًا إنسانية واقتصادية هائلة بالمنطقة.
وتحت رعاية إدارة بايدن، قيدت حكومة نتنياهو، بشدة تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة. ورغم المناشدات المتكررة من بلينكن، وأوستن خلال الفترة من 1 إلى 22 أكتوبر، دخلت غزة 704 شاحنات مساعدات فقط، وهو ما وصفته صحيفة فايننشال تايمز، بأنه انخفاض حاد، مقارنةً بمعدل الشهر السابق الذي بلغ حوالي 3000 شاحنة. وفي الوقت الذي أشار فيه بلينكن، إلى أن المزيد من التقدم مطلوب من الإسرائيليين في إيصال المساعدات، مؤكدا مناقشته خطوات عاجلة ومستدامة مع نتنياهو؛ أوضحت تقارير سكاي نيوز، بأنها منعت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) من الوصول إلى الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي يعكس كيف يتجاهل ائتلاف نتنياهو مطالب الحكومات الغربية.
علاوة على ذلك، اعترف 12 مسؤولًا سابقًا في الإدارة الأمريكية -استقالوا احتجاجًا على سياسة واشنطن تجاه حرب غزة- بأن الدعم الدبلوماسي وتدفق الأسلحة المستمر لإسرائيل، قد ضمنا تورطًا ملموسًا للولايات المتحدة في قتل وتجويع السكان الفلسطينيين المحاصرين في غزة. وعلى الرغم من إعلان بلينكن في 24 أكتوبر، تقديم 135 مليون دولار كمساعدات إنسانية للفلسطينيين في مجالات المياه والصرف الصحي وصحة الأم؛ فإن هذا المبلغ، يظل ضئيلًا أمام الأضرار، التي تُقدّر بمليارات الدولارات، والتي تسببت بها القنابل والذخائر الأمريكية في غزة؛ مما أسهم في استمرار الكارثة الإنسانية الهائلة.
وعليه، تشير هذه الوقائع والشواهد على تورط الولايات المتحدة، في حرب إسرائيل على غزة ومساهمتها بشكل مباشر في تحقيق الطموحات طويلة الأمد لحكومة نتنياهو في تدمير الفلسطينيين. وبالإضافة إلى القيود الاقتصادية الصارمة المفروضة على القطاع طوال السنوات الست عشرة التي سبقت أكتوبر 2023 – والتي بلغت حوالي 35.8 مليار دولار، أي ما يعادل 17 ضعف الناتج المحلي الإجمالي السنوي للمنطقة قبل الحرب– أشار تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، في سبتمبر 2024، إلى أن استعادة غزة لمستوى النمو الاقتصادي، الذي كانت عليه في عام 2022، قد يستغرق 350 عامًا. وعلى الرغم من تأكيد بلينكن على معارضة حكومته للاحتلال العسكري الإسرائيلي لغزة؛ فإن واشنطن لم تتخذ أي خطوات فعلية لوقفه.
ورغم مناشدة المسؤولين السابقين في الإدارة الأمريكية في يوليو 2024، لإدارة بايدن، لتطبيق الضغط الضروري والمتاح، على ائتلاف نتنياهو، لم يُتخذ أي إجراء فعلي بهذا الخصوص. ولا تبدو آفاق الإدارة الأمريكية القادمة أكثر إشراقًا –سواء بقيادة كامالا هاريس، أو دونالد ترامب – حيث يعكس كلا المرشحين التزامًا قويًا بدعم إسرائيل، ما يُضعف احتمالية حدوث أي تغييرات جوهرية في السياسة الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
من جانبه، انتقد فولك، الذي شغل سابقًا منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما وصفه بـالنفاق الأخلاقي، في مواقف الولايات المتحدة وحلفائها، إزاء القانون الدولي وحقوق الإنسان، مسلطًا الضوء على ازدواجية معاييرهم في حالتي غزة وأوكرانيا. وأشار إلى أن مثل هذه المعايير المزدوجة ليست مستغربة، إذ إن الإدارة الأمريكية، فيما يتعلق بإسرائيل والفلسطينيين، تتجاهل باستمرار التزاماتها المعلنة تجاه العدالة والأمن للجميع. بدءًا من سنوات طويلة من الحماية للاحتلال الإسرائيلي وقمع الشعب الفلسطيني، وصولًا إلى تورطها المباشر في قتل آلاف المدنيين، الذين سقطوا ضحايا للعمليات العسكرية الإسرائيلية خلال العام الماضي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك