وعد بلفور الذي شاركت فيه معظم دول الغرب الاستعماري قبل 107 سنوات، كتابة وترجمة، ودعماً وحماية وتغذية، لا تزال على حالها ونواياها واتجاهاتها، في الدعم والحماية والتغذية، وبالتالي فإن وعد بلفور لم يكن سوى رأس حربة الغرب الاستعماري في تحويل اللاهوتي إلى استعماري، وفي تحويل الاستعماري إلى كيان سياسي أصبح له الآن أسنان وأظافر، أصبح معها وبها يهدد أو يحرج بريطانيا نفسها.
ما أريد أن أقوله هنا، بعد 107 سنوات على هذا الوعد القبيح والمجرم الذي غطى السرقة والقتل والتشريد وتفكيك جماعة الشعب الفلسطيني حتى الآن، وحرمه من إقامة دولته ومجتمعه على أرضه، إنما هو الصورة الأوضح والأكثر صراحة لمعنى الاستعمار والعنصرية والأيديولوجية الفاسدة السقيمة التي لا ترى في تقسيم الشعوب وسرقة أراضيها وثرواتها عملاً بغيضاً أو مرفوضاً.
هذا الوعد المجرم إنما هو تعرية أخلاقية وسياسية وحضارية لكل الغرب الاستعماري الذي يتفضل علينا، ويتشدق دائماً بالأخلاقية والديمقراطية وباقي تلك الأكاذيب.
وعد بلفور إثبات فعلي على الفجور الأخلاقي والإنساني والحضاري، ولم يتم حتى الآن إصلاحه أو الاعتذار عنه، بل على العكس من ذلك، فقد تفاخرت رئيسة وزراء بريطانيا قبل عدة سنوات بأن بريطانيا أقامت إسرائيل وذلك في تحدٍ وقح لكل ما هو إنساني وعربي وإسلامي.
المهم أنه وبعد مرور 107 سنوات على هذا الوعد المجرم، فإن الشعب الفلسطيني وجد نفسه أمام ورطة لا مثيل لها، واجه ما لم يكن في الحسبان أو وقع في أخطر ما يمكن للجماعة أن تقع فيه، ألا وهو الاحتلال والنكران والشطب والتجاوز والتفكيك والقتل والتهجير والتشريد والمنع من وسائل الحياة الكريمة.
كان هذا الوعد يعني أن يحمل الفلسطيني عصاه ويرتحل تحت كل كوكب يعاني الإهمال والمحاصرة والإفقار والقتل والنفي والتوجس، كان عليه أن يبقي جمرة الحنين في قلبه وأن يحفر في الصخر من أجل العودة إلى جنته التي طرد منها، وعلى مدى هذه العقود الطويلة تغيرت الدنيا والناس، وتغيرت الأهداف والتحديات وتغيرت الأولويات والزعامات، لهذا كان على الفلسطيني في كل حقبة أن يقدم تعريفات لأجزاء من قلبه وأعضائه الحميمة، كان عليه أن يختار ما بين الوطن كما يحلم به، والوطن الذي تسمح به السياسة، وما بين دولته وما بين ثورته، وما بين شعبه وما بين جمهوره.
كان على الفلسطيني في كل حقبة أن يعيد تعريفاته، وكأنه يعيد تعريف أو تأكيد بنوّته لأمه وأرضه. كان على الفلسطيني خلال هذه العقود أن يقدم – مجبراً - تعريفاً آخر لكل ما يحب بسبب التوازنات أو التسويات أو الضغوط أو التغييرات العالمية.
فما هو وطن الفلسطيني الآن، بين ذلك الذي في قلبه، وذلك الذي على الخريطة السياسية، وما هو تعريف شعبه ذلك الذي يغني له صباح مساء، وبين ذلك الشعب الموزع في المساحات والساحات.
الفلسطيني- خلال كل هذه المدة الطويلة والمريرة - لم يستطع حتى الآن أن يستعيد حقوقه أو يبني دولته، بل على العكس من ذلك، فإنه يجبر الآن على أن يتواضع ويتنازل ويقبل تحت ضغط النار والتهديدات والحصارات تسويات مذلة، إذ إن الدول الاستعمارية التي وقعت على وعد بلفور أصبحت أكثر فجوراً ووقاحة.
ولهذا، فإن وعد بلفور وإن أقام كياناً للصهاينة، ولكن بالتأكيد لم يضمن لهم الأمن، ولا الاستقرار ولا البقاء ربما.
وعد بلفور أساء للشعب الفلسطيني بالتأكيد، ولكنه أضرّ بجماعات اليهود التي كانت آمنة ومطمئنة في بلادها، وألحق أكبر الضرر بأمن واستقرار الإقليم العربي والإسلامي، ومن المؤكد أن كل ذلك يهدد السلم العالمي.
هذا ما فعله بلفور ووعده وكل من ساعده، ثم يأتون متباكين على السلم العالمي.. ليسوا كذبة فقط وإنما فجرة!
{ رئيس مركز الدراسات
المستقبلية بجامعة القدس
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك