في 20 مايو 2024، وبعد مرور ثمانية أشهر على الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي شهدت حملة جوية وبرية مدمرة ضد الفلسطينيين؛ تقدم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، «كريم خان»، بطلب رسمي للمحكمة للموافقة على إصدار أوامر اعتقال دولية، بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، ووزير الدفاع «يوآف غالانت»، ووجه إليهما اتهامات بارتكاب «جرائم حرب»، تتضمن «الإبادة الجماعية، واستخدام التجويع كسلاح، والاستهداف المتعمد للمدنيين، وتعطيل تسليم المساعدات الإنسانية الضرورية».
وإلى جانب الحكم الأولي الصادر عن «محكمة العدل الدولية»، الذي قضى بأن إسرائيل تواجه تهما تتعلق بالإبادة الجماعية ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة؛ شكل طلب المدعي العام للجنائية الدولية، بإصدار أوامر اعتقال بحق «نتنياهو»، و«غالانت»، صفعة قانونية ودبلوماسية كبيرة لإسرائيل. وكان من شأن هذا القرار أن يلزم الدول الموقعة على نظام روما الأساسي، مثل المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وعدة دول غربية أخرى، بالالتزام بأوامر الاعتقال حال دخولهما إلى أراضيها.
ومع ذلك، وبعد ما يزيد على خمسة أشهر من تقديم «خان»، طلبه، لم تُصدر المحكمة الأوامر بعد. ومع انتهائها من إجراءات ما قبل المحاكمة؛ يبقى السؤال مطروحا حول المدة التي سيتعين الانتظار فيها حتى يُحاسب قادة إسرائيل على أفعالهم، التي تسببت في معاناة هائلة لملايين الفلسطينيين.
وفي ظل تأخير هذه الإجراءات القانونية المهمة، وتأكيد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التزامها بـ«وضع حد للإفلات من العقاب»، عن مرتكبي الجرائم ضد القانون الدولي، و«المساهمة في منع هذه الجرائم»؛ طرح خبراء القانون الدولي تساؤلات حول أثر تقاعسها عن تنفيذ أوامر الاعتقال بحق «نتنياهو»، و«غالانت»، وأي إجراء أوسع ضد الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها العسكرية. ووفقًا لموقع «ميدل إيست آي»، استشهد أكثر من 7000 مدني فلسطيني منذ أن قدم خان طلبه إلى المحكمة. ومع غزو إسرائيل للبنان، وتصاعد الصراع مع إيران، تستمر إسرائيل في إلحاق المزيد من الخسائر في الأرواح والإصابات دون بادرة حل قريب.
ووفقًا للمادة «58» من نظام روما، وبعد تقديم المدعي العام طلبه، عُقدت عدة جلسات ما قبل المحاكمة لفحص الأدلة، واتخاذ القرار بشأن متابعتها قانونيًا. ومع ذلك، واجهت هذه العملية سلسلة من التأخيرات؛ ما أثار مقارنات مع إجراءات قانونية أخرى للمحكمة. وأشار موقع «ميدل إيست آي»، إلى أن متوسط المدة المستغرقة في جلسات ما قبل المحاكمة بين طلب المدعي العام لإصدار أوامر الاعتقال، والموافقة عليها، منذ تأسيس المحكمة عام 2002، لا يتجاوز شهرين.
وفي حالة أوامر الاعتقال التي أصدرتها ضد الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، ومفوضته لحقوق الطفل «ماريا أليكسييفنا»، في مارس 2023، كانت هذه العملية أقل من ثلاثة أسابيع. وعليه، ومع استمرار القضية ضد «نتنياهو»، و«غالانت»، فترة طويلة دون حل؛ أبدت «جيوفيا بينزاتي»، من «جامعة ليدن»، قلقها بشأن «التباين الواضح»، في هذه الأوقات.
ومع ذلك، هناك سبب رئيسي وراء تباطؤ عملية اتخاذ القرار من قبل المحكمة، يتمثل في فتح مشاورات «أصدقاء المحكمة»، التي انطلقت في يونيو، حيث قُدم أكثر من 70 طلبًا إليها، بما في ذلك من إسرائيل. وبما أن هذه العملية تتطلب الرد على البيانات المقدمة؛ أوضحت «بينزاتي»، أن هذا أضاف وقتا إضافيا إلى مداولاتها. ومع انتهاء هذه العملية، لا يزال الحكم معلقًا دون توضيح لأسباب التأخير. إضافة إلى ذلك، تسبب تغيير القضاة في تأخير إضافي، إذ تم سحب القاضية الرومانية «إيلينا موتوك»، واستبدالها في 25 أكتوبر، بسبب حالتها الصحية، مما استلزم إطلاع القاضية الجديدة على مسار القضية، وهو ما سيؤخر الحكم النهائي أيضًا.
وعند دراسة الأسباب وراء تأخير حكمها، تساءل «ريتشارد فالك»، من «جامعة برينستون»، ومقرر خاص سابق للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، عما إذا كانت هذه التأخيرات تدعم الانتقادات الموجهة إليها، بأنها «تتعرض لضغوط من الغرب، وبالتالي ليست مؤسسة موضوعية، بل أداة سياسية في يدهم».
ومن المعروف أن إسرائيل وحلفاءها قد فرضوا ضغوطًا هائلة ومتزايدة على «الجنائية الدولية»، لإنهاء تحقيقاتها في الانتهاكات التاريخية والحالية لإسرائيل ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ووثقت تقارير «الجارديان»، ما أسمته «حربًا استمرت تسع سنوات»، من قبل وكالات المخابرات الإسرائيلية، التي استخدمت المراقبة والقرصنة، والتهديدات، وحملات التشهير ضد كبار موظفيها في محاولة متعمدة لتعطيل واجباتها القانونية. ونتيجة لذلك، أوضح «الصحيفة»، أن المحكمة قد «عززت أمنها من خلال (عمليات تفتيش منتظمة لمكتب المدعي العام، وفحوصات أمنية على الأجهزة، ومناطق خالية من الهواتف، وتقييمات أسبوعية للتهديدات، وإدخال معدات متخصصة)؛ لكن هذا لم يمنع المدافعين عن إسرائيل من محاولة تعطيل قراراتها بشأن أوامر الاعتقال لنتنياهو، وغالانت.
وفي تحدٍّ سابق للمحكمة في سبتمبر الماضي، زعمت إسرائيل أنها تنتهك المادة «17» من نظام روما، التي تلزمها بممارسة ولايتها عندما تكون «الدولة غير راغبة» في القيام بذلك. وأشارت إلى أن إسرائيل لم تُعطَ «الفرصة لممارسة حقها في التحقيق بنفسها»، وهي الاتهامات التي كررها وزير الخارجية الأمريكي، «أنطوني بلينكن»، حيث رفض -في وقت طلب خان لأوامر الاعتقال - ما وصفه بـ«العجلة» الظاهرة من المحكمة، مشيرًا إلى ضرورة السماح للنظام القانوني الإسرائيلي بفرصة كاملة، والوقت المناسب للتقدم في القضية.
ويمثل السماح للمحاكم الإسرائيلية -التي تتأثر بشكل كبير بحكومة نتنياهو -بتقرير ما إذا كان ينبغي محاسبة قيادتها السياسية والعسكرية، على اتهامات بارتكاب جرائم حرب؛ «عائقًا واضحًا»، أمام تحقيق العدالة. ومع ذلك، أقر أعضاء البرلمان الأمريكي تشريعات تفرض عقوبات على المحكمة «الجنائية الدولية»؛ بسبب محاولتها محاسبة إسرائيل عن انتهاكاتها المتعددة والموثقة لحقوق الإنسان وخرقها للقانون الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، ففي بيان مكتوب للمحكمة في يونيو، تحدت الحكومة البريطانية ولاية المحكمة الدولية على إسرائيل، رغم أنه لم يتم تقديم أي حجة بشأن الولاية في قضية انتهاكات «روسيا»، للقانون الدولي في أوكرانيا. وعلى الرغم من أن حكومة «كير ستارمر»، تخلت عن هذا الاعتراض بعد شهر؛ فإن «لندن»، لا تزال ترفض اتخاذ إجراءات ذات مغزى ضد محاسبة إسرائيل، مثل تنفيذ حظر شامل على تصدير الأسلحة إليها، وهو ما رفضه وزير الخارجية «ديفيد لامي»، الذي أكد أن لإسرائيل «حق الدفاع عن نفسها».
وفي ظل التأخير المستمر لقرارها النهائي بشأن أوامر الاعتقال، تمت الإشارة إلى أن هذا يمثل «إنكارًا للعدالة»، لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين استشهدوا أو جُرحوا، وللملايين الذين تم تهجيرهم نتيجة الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة. وأثارت «بينزاتي»، تساؤلات حول أن المداولات المستمرة للقضاة «مقلقة بشكل خاص لضحايا هذه الحرب»، مؤكدة أن «العدالة المتأخرة هي عدالة مُنكرة».
وبتوسيع هذه الحجة، أشار «لويجي دانييل»، من جامعة «نوتنغهام ترنت»، إلى أنه «بالنظر إلى جسامة الجرائم التي ارتكبت» حتى قبل أكتوبر 2023، فإن «طلب المدعي العام في مايو»، كان «متأخرًا»، بالفعل في السعي لتحقيق العدالة للمدنيين الفلسطينيين ومحاسبة قادة إسرائيل، مضيفا أن «غياب هذه المحاسبة»، يُعزز الشعور لديهم بأنهم فوق القانون، ويشجعهم على ارتكاب المزيد من الجرائم»، مؤكدا أن الاستمرار في عدم اتخاذ أي إجراء، ليس فقط من قبل الهيئات القانونية الدولية، مثل «الجنائية الدولية»؛ لكن أيضًا من قبل حكومات الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي، يتيح لهذه الانتهاكات أن تحدث بل ويزيد من تفاقمها، كما يتضح من غزو إسرائيل للبنان، الذي أسفر عن استشهاد آلاف المدنيين، وإجبار مئات الآلاف على النزوح.
على العموم، أشار «فالك»، إلى أن «القانون الدولي، إذا تم تطبيقه عمليًا، يلعب دورًا مهمًا في إضفاء الشرعية على تشكيل الرأي العام، وتأثيره على نتائج النزاعات الدولية البارزة». ومع اقتراب صدور حكم نهائي بشأن طلب خان لأوامر الاعتقال لنتنياهو وغالانت -رغم توقع الموافقة عليه- يبقى سؤال آخر بلا إجابة: هل ستلتزم الدول الموقعة على نظام روما بهذا الحكم؟ وإذا لم تفعل، فإن ذلك لن يزيد إلا من قوة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة في مواصلة انتهاك القانون الدولي، محمية من البلدان التي امتنعت عن إدانتها.
وفي الأخير، تسلط هذه الديناميكيات الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجه العدالة الدولية، وتؤكد الحاجة الملحة إلى محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وضرورة تعزيز الالتزام بالقوانين الدولية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك