يشهد عام 2024 ظاهرة عالمية تثير كثيرا من الجدل حول أسبابها بين المفكرين وعلماء السياسة والإعلام، وهي ظاهرة الصعود الكبير لليمين المتطرف في أوروبا ودول عديدة أخري في أنحاء العالم. هذه الظاهرة يعزوها أغلب المحللين إلي تنامي شعور قوي لدى هذه الدول بفقدان الهوية وتحللها أمام تضخم موجات المهاجرين الوافدين إليها من دول العالم الثالث، سواء بسبب تردي الأحوال الاقتصادية والسياسية في بلادهم أو لأسباب مناخية دفعتهم إلى الهجرة.
وقد تمكنت الأحزاب اليمينية إزاء ظاهرة الهجرة من تشكيل ائتلافات قوية في إيطاليا وفرنسا والنمسا وهولندا وغيرها، تدعو إلى التخلص من المهاجرين بكل الطرق، كما تمكنت من إقناع الرأي العام في بلادها بأن مشكلات ارتفاع تكاليف المعيشة فيها مردها مشكلة الهجرة وانعكاسها على تغير التركيبة السكانية.
وثمة من يضيف عاملا آخر لهذه الظاهرة وهو فشل الأحزاب السياسية التقليدية التي كان النصر الانتخابي دائما حليفا لها في تحقيق وعودها بالرخاء لشعوبها، وهي الأحزاب التي سعت جاهدة إلي سد كل المنافذ أمام اليمين المتطرف نحو الوصول إلى سدة السلطة.
ولئن خففت التيارات اليمينية المتطرفة من حدة بعض مواقفها الراديكالية حول المشكلات التي غالبا ما كانت تتسع بشأنها شقة الخلاف بينها وبين الأحزاب التقليدية، كمشكلة المناخ والمشكلة الفلسطينية التي تغير الحزب اليميني الفرنسي لمارين لوبان بشأنها من موقف تقليدي مناهض للصهيونية إلى موقف مناصر لها، فمما لا شك فيه أن الصعود اليميني المتطرف قد بات قاب قوسين أو أدنى من الإمساك بمقاليد الحكم والسلطة في أوروبا، خاصة بعد انتصاره المدوي في الانتخابات الأوروبية الأخيرة.
ولا يخفى على أحد أن الأحزاب اليمينية المتطرفة بعد فوزها في هذه الانتخابات قد بدأت تجذب إلي صفوفها رموزا كانت تنتمي في الأصل إلى أحزاب معارضة لها.
ولئن يكن ثمة اختلاف في بعض الأفكار التي تعتنقها الأحزاب اليمينية الأوروبية فهي تشترك جميعا في قواسم مهمة بينها، أهمها انعدام ثقتها في مؤسسة الاتحاد الأوروبي ونفورها من القواعد المالية التي يسير عليها، كما أنها في أغلبها تدعم السياسات الحمائية للدولة.
وإذا كان عدد منها يدافع عن حلف الأطلنطي فإن عددا كبيرا من بينها يؤثر الاحتفاظ بعلاقات قوية مع روسيا ولا يتحمس مطلقا لمساندة أوكرانيا.
إن تنامي النزعة اليمينية المتطرفة في القرن الواحد والعشرين، وتمكنها من السلطة في الغرب يثير في الواقع أسئلة سياسية وفلسفية مهمة.
فمن الزاوية السياسية ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة: كيف ستكون العلاقة بين الدول الأوروبية والبلاد العربية والإفريقية التي تخرج منها أغلب موجات الهجرة إلي أوروبا؟. إن عداء اليمين الأوروبي المتطرف للمهاجرين لن يصب في المستقبل لمصلحة الأوروبيين أنفسهم، فبالإضافة إلى أن هناك مهنا ووظائف حيوية يحجم الأوروبيون عن ممارستها ويعتمدون فيها كليا على المهاجرين، فهناك على الجانب الآخر في إفريقيا اتجاه يزداد قوة نحو التوجه إلى دول كبرى أخرى مثل الصين وروسيا بديلا عن الدول الأوروبية التي تعتمد اعتمادا كليا على إفريقيا كمصدر حيوي للطاقة المتنوعة والثروة المعدنية اللازمة لمصانعها.
ومن الزاوية الفلسفية فإن نزعة العداء للآخر حينما تكون مرتبطة بالعنصر والنوع ومشوبة بالبغض والعنف لن تؤجج في المقابل إلا نزعة مماثلة لدى الآخر المختلف الذي تعيش الدول الغربية على موارده الطبيعية غير المستغلة، وترتبط مستويات المعيشة فيها بما يمدها من جناته.
وثمة سؤال فلسفي يحتاج في الواقع إلى بحث معمق ويتعلق بنكوص العقلية الأوروبية إلى فكرة القومية والأمة خالصة العرق والعنصر وهما فكرتان وهميتان تتناقضان تماما مع أفكار الديمقراطية والعلمانية والليبرالية وحقوق الإنسان التي أفرزها عصرا التنوير والحداثة..
ولعل من أخطر ما تواجهه النزعة اليمينية المتطرفة حينما تربط مثلا بين ظاهرتي الهجرة والإرهاب الأصولي من أجل إغواء العامة والتأثير فيها هو إحداث شقوق عميقة داخل جسد المجتمع الأوروبي، بل وداخل صفوف اليمين المتطرف نفسه التي يندر أن نجد فيها من هو نقي الجنس والعرق إذ إن عددا كبيرا من المنتمين إليه هم في الواقع أحفاد لمهاجرين. فكيف يفسر الفلاسفة الأوروبيون المتنورون هذا النكوص الحضاري؟
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي
بكلية الآداب – جامعة حلوان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك