العدد : ١٧٠٢٩ - الأربعاء ٠٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٢٩ - الأربعاء ٠٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الأزمة الحضارية في المجتمعات الغربية

بقلم: د. عصام عبدالفتاح

الثلاثاء ٠٥ نوفمبر ٢٠٢٤ - 02:00

يشهد‭ ‬عام‭ ‬2024‭ ‬ظاهرة‭ ‬عالمية‭ ‬تثير‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الجدل‭ ‬حول‭ ‬أسبابها‭ ‬بين‭ ‬المفكرين‭ ‬وعلماء‭ ‬السياسة‭ ‬والإعلام،‭ ‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬الصعود‭ ‬الكبير‭ ‬لليمين‭ ‬المتطرف‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬ودول‭ ‬عديدة‭ ‬أخري‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭. ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬يعزوها‭ ‬أغلب‭ ‬المحللين‭ ‬إلي‭ ‬تنامي‭ ‬شعور‭ ‬قوي‭ ‬لدى‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬بفقدان‭ ‬الهوية‭ ‬وتحللها‭ ‬أمام‭ ‬تضخم‭ ‬موجات‭ ‬المهاجرين‭ ‬الوافدين‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬الثالث،‭ ‬سواء‭ ‬بسبب‭ ‬تردي‭ ‬الأحوال‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬في‭ ‬بلادهم‭ ‬أو‭ ‬لأسباب‭ ‬مناخية‭ ‬دفعتهم‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬تمكنت‭ ‬الأحزاب‭ ‬اليمينية‭ ‬إزاء‭ ‬ظاهرة‭ ‬الهجرة‭ ‬من‭ ‬تشكيل‭ ‬ائتلافات‭ ‬قوية‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬وفرنسا‭ ‬والنمسا‭ ‬وهولندا‭ ‬وغيرها،‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬بكل‭ ‬الطرق،‭ ‬كما‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬إقناع‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬بلادها‭ ‬بأن‭ ‬مشكلات‭ ‬ارتفاع‭ ‬تكاليف‭ ‬المعيشة‭ ‬فيها‭ ‬مردها‭ ‬مشكلة‭ ‬الهجرة‭ ‬وانعكاسها‭ ‬على‭ ‬تغير‭ ‬التركيبة‭ ‬السكانية‭.‬

وثمة‭ ‬من‭ ‬يضيف‭ ‬عاملا‭ ‬آخر‭ ‬لهذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬وهو‭ ‬فشل‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬النصر‭ ‬الانتخابي‭ ‬دائما‭ ‬حليفا‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬وعودها‭ ‬بالرخاء‭ ‬لشعوبها،‭ ‬وهي‭ ‬الأحزاب‭ ‬التي‭ ‬سعت‭ ‬جاهدة‭ ‬إلي‭ ‬سد‭ ‬كل‭ ‬المنافذ‭ ‬أمام‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرف‭ ‬نحو‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬سدة‭ ‬السلطة‭. ‬

ولئن‭ ‬خففت‭ ‬التيارات‭ ‬اليمينية‭ ‬المتطرفة‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬بعض‭ ‬مواقفها‭ ‬الراديكالية‭ ‬حول‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تتسع‭ ‬بشأنها‭ ‬شقة‭ ‬الخلاف‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الأحزاب‭ ‬التقليدية،‭ ‬كمشكلة‭ ‬المناخ‭ ‬والمشكلة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬التي‭ ‬تغير‭ ‬الحزب‭ ‬اليميني‭ ‬الفرنسي‭ ‬لمارين‭ ‬لوبان‭ ‬بشأنها‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬تقليدي‭ ‬مناهض‭ ‬للصهيونية‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬مناصر‭ ‬لها،‭ ‬فمما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬الصعود‭ ‬اليميني‭ ‬المتطرف‭ ‬قد‭ ‬بات‭ ‬قاب‭ ‬قوسين‭ ‬أو‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬الإمساك‭ ‬بمقاليد‭ ‬الحكم‭ ‬والسلطة‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬انتصاره‭ ‬المدوي‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬الأوروبية‭ ‬الأخيرة‭. ‬

ولا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬الأحزاب‭ ‬اليمينية‭ ‬المتطرفة‭ ‬بعد‭ ‬فوزها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الانتخابات‭ ‬قد‭ ‬بدأت‭ ‬تجذب‭ ‬إلي‭ ‬صفوفها‭ ‬رموزا‭ ‬كانت‭ ‬تنتمي‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬إلى‭ ‬أحزاب‭ ‬معارضة‭ ‬لها‭.‬

‭ ‬ولئن‭ ‬يكن‭ ‬ثمة‭ ‬اختلاف‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬تعتنقها‭ ‬الأحزاب‭ ‬اليمينية‭ ‬الأوروبية‭ ‬فهي‭ ‬تشترك‭ ‬جميعا‭ ‬في‭ ‬قواسم‭ ‬مهمة‭ ‬بينها،‭ ‬أهمها‭ ‬انعدام‭ ‬ثقتها‭ ‬في‭ ‬مؤسسة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬ونفورها‭ ‬من‭ ‬القواعد‭ ‬المالية‭ ‬التي‭ ‬يسير‭ ‬عليها،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬أغلبها‭ ‬تدعم‭ ‬السياسات‭ ‬الحمائية‭ ‬للدولة‭.‬

‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬منها‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬حلف‭ ‬الأطلنطي‭ ‬فإن‭ ‬عددا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬يؤثر‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بعلاقات‭ ‬قوية‭ ‬مع‭ ‬روسيا‭ ‬ولا‭ ‬يتحمس‭ ‬مطلقا‭ ‬لمساندة‭ ‬أوكرانيا‭.‬

إن‭ ‬تنامي‭ ‬النزعة‭ ‬اليمينية‭ ‬المتطرفة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين،‭ ‬وتمكنها‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬يثير‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬أسئلة‭ ‬سياسية‭ ‬وفلسفية‭ ‬مهمة‭.‬

فمن‭ ‬الزاوية‭ ‬السياسية‭ ‬ثمة‭ ‬سؤال‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭ ‬بقوة‭: ‬كيف‭ ‬ستكون‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬والبلاد‭ ‬العربية‭ ‬والإفريقية‭ ‬التي‭ ‬تخرج‭ ‬منها‭ ‬أغلب‭ ‬موجات‭ ‬الهجرة‭ ‬إلي‭ ‬أوروبا؟‭. ‬إن‭ ‬عداء‭ ‬اليمين‭ ‬الأوروبي‭ ‬المتطرف‭ ‬للمهاجرين‭ ‬لن‭ ‬يصب‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬لمصلحة‭ ‬الأوروبيين‭ ‬أنفسهم،‭ ‬فبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مهنا‭ ‬ووظائف‭ ‬حيوية‭ ‬يحجم‭ ‬الأوروبيون‭ ‬عن‭ ‬ممارستها‭ ‬ويعتمدون‭ ‬فيها‭ ‬كليا‭ ‬على‭ ‬المهاجرين،‭ ‬فهناك‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬اتجاه‭ ‬يزداد‭ ‬قوة‭ ‬نحو‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬دول‭ ‬كبرى‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬الصين‭ ‬وروسيا‭ ‬بديلا‭ ‬عن‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬اعتمادا‭ ‬كليا‭ ‬على‭ ‬إفريقيا‭ ‬كمصدر‭ ‬حيوي‭ ‬للطاقة‭ ‬المتنوعة‭ ‬والثروة‭ ‬المعدنية‭ ‬اللازمة‭ ‬لمصانعها‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬الزاوية‭ ‬الفلسفية‭ ‬فإن‭ ‬نزعة‭ ‬العداء‭ ‬للآخر‭ ‬حينما‭ ‬تكون‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالعنصر‭ ‬والنوع‭ ‬ومشوبة‭ ‬بالبغض‭ ‬والعنف‭ ‬لن‭ ‬تؤجج‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬إلا‭ ‬نزعة‭ ‬مماثلة‭ ‬لدى‭ ‬الآخر‭ ‬المختلف‭ ‬الذي‭ ‬تعيش‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬موارده‭ ‬الطبيعية‭ ‬غير‭ ‬المستغلة،‭ ‬وترتبط‭ ‬مستويات‭ ‬المعيشة‭ ‬فيها‭ ‬بما‭ ‬يمدها‭ ‬من‭ ‬جناته‭.‬

وثمة‭ ‬سؤال‭ ‬فلسفي‭ ‬يحتاج‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬بحث‭ ‬معمق‭ ‬ويتعلق‭ ‬بنكوص‭ ‬العقلية‭ ‬الأوروبية‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬القومية‭ ‬والأمة‭ ‬خالصة‭ ‬العرق‭ ‬والعنصر‭ ‬وهما‭ ‬فكرتان‭ ‬وهميتان‭ ‬تتناقضان‭ ‬تماما‭ ‬مع‭ ‬أفكار‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والعلمانية‭ ‬والليبرالية‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬التي‭ ‬أفرزها‭ ‬عصرا‭ ‬التنوير‭ ‬والحداثة‭.. ‬

ولعل‭ ‬من‭ ‬أخطر‭ ‬ما‭ ‬تواجهه‭ ‬النزعة‭ ‬اليمينية‭ ‬المتطرفة‭ ‬حينما‭ ‬تربط‭ ‬مثلا‭ ‬بين‭ ‬ظاهرتي‭ ‬الهجرة‭ ‬والإرهاب‭ ‬الأصولي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إغواء‭ ‬العامة‭ ‬والتأثير‭ ‬فيها‭ ‬هو‭ ‬إحداث‭ ‬شقوق‭ ‬عميقة‭ ‬داخل‭ ‬جسد‭ ‬المجتمع‭ ‬الأوروبي،‭ ‬بل‭ ‬وداخل‭ ‬صفوف‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرف‭ ‬نفسه‭ ‬التي‭ ‬يندر‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬نقي‭ ‬الجنس‭ ‬والعرق‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬عددا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬المنتمين‭ ‬إليه‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬أحفاد‭ ‬لمهاجرين‭. ‬فكيف‭ ‬يفسر‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الأوروبيون‭ ‬المتنورون‭ ‬هذا‭ ‬النكوص‭ ‬الحضاري؟‭ ‬

 

{ أستاذ‭ ‬فلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‭ ‬الفرنسي

‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬–‭ ‬جامعة‭ ‬حلوان‭. ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا