يُعرف التضليل الإعلامي بأنه المعلومات الكاذبة المقصودة، والتي تصدر من جهات إعلامية بهدف إدخال أفراد المجتمع في متاهات، إذ يتم التلاعب في الأفراد والتحكم في سلوكياتهم وعقولهم، وبالتالي تكوين رأي عام يتوافق مع الماكينة الإعلامية التي تقوم بذلك.
يقول الدكتور فريد حاتم الشحف في كتابه (الدعاية والتضليل الإعلامي): «بدأ الاستخدام المنتظم للدعاية، في الأهداف الإيديولوجية والسياسة الخارجية – أي التضليل الإعلامي بمعنى آخر– منذ قرون مضت مع ظهور الطبقات والدول»، ويؤكد المؤرخ النمساوي شتورمينغير أن الدعاية السياسية المنظمة بمعناها المعاصر موجودة منذ آلاف السنين، وهذا ما ذكره في كتابه (3000 عام على الدعاية السياسية).
ويواصل المؤلف ويقول: «استخدمت الدعاية السياسية، كوسيلة للصراع الإيديولوجي، أثناء الحرب بشكل واسع، وبخاصة الحروب المتعلقة بالصدامات الفكرية، حيث حاولت الطبقات المسيطرة استخدام وسائل الإعلام للتأثير ليس في السكان المحليين فحسب، بل وعلى سكان الدول الأخرى لجذبهم وحشدهم إلى جانبها».
واليوم يُعد التضليل الإعلامي من أهم وسائل التأثير في الرأي العام والجماهير والأفراد، حيث تستخدم لتسويق الأفكار والتوجهات وربما الترويج للأنظمة والأفراد، إذ إن الفكرة النابعة من التضليل الإعلامي ترمي إلى الوصول إلى أكبر مساحة من القاعدة الجماهيرية وإقناعها بأفكار معينة وربما برؤية محددة وجديدة. إلا أن التضليل الإعلامي لا يتم بصورة عشوائية وإنما عبر ماكينة إعلامية منظمة ومنتظمة، ذات خطة طويلة المدى، وآليات عمل لا تمل ولا تكل، وتسير وفق منهجية محددة لدى العاملين، وربما تسير ببطء إلا أنها يجب أن تكون ذات رؤية وأهداف واضحة تتمحور حوله برنامج العمل كله، لذلك فإنها تصل في النهاية، إلا إذا كانت الجماهير فطنة لتدرك أنه يتم التلاعب فيها.
وأثناء حرب الإبادة الجماعية في غزة (2023 – 2024) حاولت ماكينة إعلام الكيان المحتل والإعلام الغربي أن تروج لمفهوم (الجيش الأكثر أخلاقية)، فقد كانت تحاول بكل ثقة أن تنزع الصفة الإنسانية عن الضحايا، وتبرر العنف والقتل الجماعي، ليس ذلك فحسب وإنما كانت تحاول أن تبث الشكوك بهدف تكميم الدعوات المنادية بالتدخل ووقف القتال.
تقول دراسة بعنوان (ماكينة التضليل الإعلامي) صدرت في مارس 2024: إنه حتى تاريخه قتلت قوات الاحتلال ما يزيد على 30 ألف فلسطيني في غزة والضفة الغربية، منذ أكتوبر 2023، وقد استُهدفت المستشفيات والمدارس والمدنيون الفارون من منازلهم. لا يتميز العدوان بحجم عنفه الممارس وحسب، بل بالتدفق غير المسبوق للمعلومات المضللة المنشورة لتبرير العدوان.
تواصل الدراسة وتقول: إن الدعاية والتضليل الإعلامي الذي تنتهجه الحكومة والمصادر العسكرية لجيش الاحتلال على نطاق واسع تكتسب الشرعية والدعم بفضل شبكة واسعة من الصحفيين ومحللي استخبارات المصادر المفتوحة الذين يتجاهلون ما تبقى لديهم من موضوعية ودقة تحليلية في تغطيتهم.
وتشير دراسة أخرى للكاتب خضر حيدر إلى أن المصادر العسكرية لجيش الاحتلال تسيطر على كثير من وسائل الإعلام الغربي، ففي بريطانيا على سبيل المثال سيطروا على عشرات الصحف مثل (التايمز)، و(الصنداي تايمز)، و(صن)، ومجلة (سيتي ماغازين) وغيرها، وتشير بعض الإحصائيات أن مجموع ما توزعه كل يوم 15 صحيفة بريطانية واقعة تحت السيطرة الصهيونية في بريطانيا وخارجها يبلغ حوالي 33 مليون نسخة. وفي أمريكا تقذف المطابع يوميًا نحو 1759 صحيفة يتلقفها حوالي 61 مليون أمريكي، بالإضافة إلى 668 صحيفة أسبوعية تصدر يوم الأحد.
وتقول الدراسة إن الاستحواذ الصهيوني لم يقتصر على الصحافة المكتوبة، بل تعداها إلى ميادين الفن والإعلان بصنوفه المختلفة، لذلك يشهد العالم وبالتحديد الأمريكي والأوروبي سيطرة صهيونية تامة على صناعة السينما والتلفزيون والمسرح والثقافة، إذ تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 90% من مجموع العاملين في الحقل السينمائي الأمريكي: إنتاجًا وإخراجًا وتمثيلاً وتصويرًا ومونتاجًا، هم من اليهود، هذا فضلاً عن امتلاكهم شبكات التلفزيون الأمريكية وغيرها من وسائل الإعلام المختلفة.
في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد بزعامة تيودور هرتزل في مدينة بازل بسويسرا يوم 29 أغسطس 1897، تمخضت آراء المجتمعين عن عدة قرارات خاصة بالإعلام أدرجت تحت البند الثاني عشر من مقررات المؤتمر، وهي كالتالي:
1. إن القنوات (أي وسائل الإعلام) التي يجد فيها الفكر الإنساني ترجمانًا له يجب أن تكون خالصة في أيدينا.
2. إن أي نوع من أنواع النشر أو الطباعة يجب أن يكون تحت سيطرتنا.
3. الأدب والصحافة هما أعظم قوتين إعلاميتين وتعليميتين خطيرتين، ويجب أن تكونا تحت سيطرتنا.
4. يجب ألا يكون لأعدائنا وسائل صحفية يعبرون فيها عن آرائهم، وإذا وجدت فلا بد من التضييق عليها بجميع الوسائل لكي نمنعها من مهاجمتنا.
5. لن يصلَ طرَفٌ من خبر إلى المجتمع من غير أن يمرَّ علينا؛ فالأخبار تتسلمها وكالات قليلة تتركز فيها الأخبار من كل أنحاء العالم، وحينما نسيطر عليها، لن تنشر إلا ما نختاره نحن من هذه الأخبار.
6. لا بد لنا من الهيمنة على الصحافة الدورية حتى تصبح طوع بناننا، تُهيجُ عواطف الناس حين نريد، وتثير المجادلات الحزبية الأنانية التي تخدُمُ مصالحنا حين نريد، ونسيطر بواسطتها على العقل الإنساني.
7. ستكون لنا جرائد (صحف) شتى تؤيد الطوائف المختلفة، من أرستقراطية وجمهورية وثورية، بل وفوضوية أيضًا، وستكون هذه الجرائد مثل الإله الهندي فشنو، لها مئات الأيدي، وكل يد ستجُسُّ لنا نبض الرأي العام المتقلِّب.
8. سنصدر نشراتٍ تهاجمنا، وتعارضنا، ولكن بتوجيه اتهامات زائفة ضدنا، مما سيتيح لنا الفرصة لكي نقنع الرأي العام بأن كل من يعارضنا لا يملِكُ أساسًا حقيقيًّا لمناهضتنا، وإنما يعتمدون على الاتهامات الزائفة.
9. يجب أن نكون قادرين على إثارة عقل الشعب عندما نريد، وتهدئته عندما نريد، وسنفعل ذلك بطبع أخبار صحيحة أو زائفة حسبما يوافق غرضنا، وسننشر الأخبار بطُرقنا الخاصة، بحيث يتقبلها الشعب ويصدقها، ولكننا يجب أن نحتاط جيدًا قبل ذلك لجسِّ الأرض قبل السير عليها.
10. يجب أن نشجع ذوي السوابق الخُلقية على تولي المهام الصحفية الكبرى، وخاصة في الصحف المعارضة لنا، فإذا تبيَّن لنا ظهور أية علامات للعصيان من أيِّ واحد منهم، سارعنا فورًا إلى الإعلان عن مخازيه الخُلقية التي نتستر عليها، وبذلك نقضي عليه، ونجعله عبرةً لغيره.
وهل يحق لنا أن نسأل، هل نجحوا في ذلك؟
نعود إلى دراسة (ماكينة التضليل الإعلامي) التي صدرت في مارس 2024 والتي تشير إلى أنه: تنظر دولة الاحتلال إلى الساحة الإعلامية كجبهةٍ حاسمة في المعركة لتبرير نظم القمع الدائمة للاحتلال والفصل العنصري. وتتجسد نظرتها في كلمة (الهسبرة) العبرية التي تعني (الشرح أو التوضيح) باللغة العربية. تقوم الهسبرة على مفاهيم سابقة متجذرة متمثلة في الدعاية، والتحريض، والحرب الإعلامية الرسمية، وتهدف إلى تشكيل معايير الخطاب المقبول. وينطوي ذلك على جهد منسَّق بين مؤسسات الدولة والمنظمات غير الحكومية لتعزيز الوحدة الداخلية لدولة الاحتلال، وتأمين الدعم من الحلفاء، والتأثير في طريقة تناول الاحتلال في وسائل الإعلام ومن جانب المثقفين والمؤثرين في الرأي العام.
تواصل الدراسة وتقول: دأبت الجهات الحكومية لدولة الاحتلال منذ سنوات على تنسيق جهود الهسبرة. وبعد إغلاق الوزارة المعنية في 2021، وافق مجلس وزراء دولة الاحتلال على مشروع بقيمة 100 مليون شيكل (30 مليون دولار) يهدف إلى تكييف الدعاية الصهيونية مع الجمهور العالمي المتطور. قامت هذه المبادرة، التي قادها وزير الخارجية آنذاك (يائير لابيد)، بتحويلات مالية غير مباشرة إلى كيانات أجنبية، شملت مؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي ومنظمات معنية بمراقبة وسائل الإعلام، كي تنشرَ الدعاية المؤيدة لإسرائيل بينما تخفي علاقتها المباشرة بالحكومة الإسرائيلية. وهذه الجهود المتضافرة تسعى إلى إرساء مُرشِّحات معرفية تثبت صحة المصالح الإسرائيلية بموازاة تشويه الروايات المخالفة حول الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وعنفه الممنهج.
وفي إطار التكيف مع وفرة المعلومات المتاحة، لا يسعى مروجو الدعاية الإسرائيلية إلى منع الوصول إلى المعلومات فحسب، بل يعملون على توجيه جمهور المتلقين نحو تفسيرات انتقائية. وقد ظل هؤلاء المروِّجون، منذ ما يزيد على 75 عامًا، يصورون إسرائيل كضحية، على الرغم من هيمنتها العسكرية ودورها كمحتل، وهم الآن يستخدمون الأساليب ذاتها لتبرير الإبادة الجماعية في غزة. وتهدف الدعاية الإسرائيلية إلى تبرير ما لا يمكن تبريره من خلال اتهام المقاومة باستخدام الفلسطينيين في غزة كدروع بشرية أو تصوير فصائل المقاومة الفلسطينية كتهديدات وجودية مرادفة للنازية وتنظيم داعش، أو بوصف ضحايا الغارات الجوية الإسرائيلية كممثلي أزمات.
وهذا يعني ببساطة أن دولة الاحتلال تدرك تمام الإدراك أنه لا يمكن أن تستمر مع كل تلك الجرائم المرتكبة والإفلات من العقاب، إلا باستخدام كل هذه الماكينة الإعلامية الضخمة المنتشرة على الكرة الأرضية، فالدعاية والتضليل الإعلامي سبيلها في تبرير كل ما تقوم به، وهذا ليس بغريب، وإنما الغريب في الموضوع أن الكثير من وسائل الإعلام العربية وقعت ضحية أو أصبحت تروسا في هذه الماكينة، تتحدث بلسانها وتنطق بمنطوقها.
ولكننا على الرغم من ذلك نسأل: أين الإعلام العربي من كل هذا الهيمنة؟!
zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك