يظل الحديث عن النفط وتحولات الطاقة موضوعًا متجددًا. ففي بعض الأحيان، يُنظر إليه كمورد طبيعي يقترب من النفاد، ما يستدعي البحث عن بدائل توفر احتياجات العالم من الطاقة، فيما يرتبط أيضا بالعوامل الجيوسياسية، التي تؤثر في إمداداته واستدامة تدفقها، كما أن التداعيات السلبية لاستهلاكه، مثل تزايد الانبعاثات الكربونية والغازات الدفيئة؛ تُعزز من دعوات البحث عن مصادر طاقة نظيفة وموثوقة.
وفي ظل هذا الوضع، تزايدت جهود البحث عن مصادر طاقة نظيفة وموثوقة، حيث تسارعت خطوات الدول نحو الاستثمار في الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية، مع تخصيص ميزانيات ضخمة لهذا الغرض. ومع ذلك، لا يزال النفط يحتفظ بمكانته كأهم مصدر للطاقة عالميًّا، بينما تبقى المصادر المتجددة، محدودة التأثير على المدى القريب.
وفي خمسينيات القرن العشرين، طرح عالم الجيولوجيا الأمريكي «ماريون هوبرت»، نظرية «قمة الإنتاج النفطي»، التي تشير إلى بلوغ إنتاج النفط العالمي أعلى مستوياته قبل أن يبدأ تدريجيًا في الانخفاض حتى نفاد الحقول. وطُبقت نظريته على حقل بعد آخر وفقًا لدورة تبدأ بالارتفاع، تليها مرحلة القمة، ثم التراجع نحو النضوب. وفي عام 1956، توقع أن تصل «الولايات المتحدة»، إلى ذروة إنتاجها النفطي بين عامي 1965، ثم يبدأ في التراجع بعد عام 1970، وهو ما تحقق بالفعل؛ إلا أن اكتشاف النفط الصخري وتطور تقنيات استخراجه وانخفاض تكاليفها، قد غيّر المعادلة. وفي عام 2009، مع بلوغ إنتاجها نحو 5 ملايين برميل يوميًا؛ قفز إنتاجها بفضل النفط الصخري إلى 12.23 مليون برميل يوميًا، محققة زيادة بنسبة 144.6% خلال عقد، لتصبح بذلك أكبر منتج للنفط عالميًا، ما شكّل تناقضًا واضحًا مع توقعات «هوبرت».
من جانب آخر، واصلت شركات النفط عمليات التنقيب في مختلف أنحاء العالم، وبرزت دول جديدة في إنتاج النفط، وانضمت بعض الدول إلى قائمة المنتجين للمرة الأولى؛ مما زاد من تنوع خريطة إنتاج النفط. وفي عام 2023، تم اكتشاف حقل نفطي عملاق في المياه العميقة قبالة سواحل «ناميبيا» -وهو الأكبر من نوعه حتى الآن- ما جعل منظمة «أوبك»، تتطلع إلى ضمها، بعد أن أصبحت رابع أكبر منتج للنفط في إفريقيا. ومع هذا التطور، ارتفع إنتاج الدول الإفريقية النفطية إلى 6.77 ملايين برميل يوميًا، حيث شكلت نحو 8% من الإنتاج العالمي واحتياطياته.
علاوة على ذلك، أصبحت مياه غرب إفريقيا بؤرة اهتمام لشركات الحفر، خاصة بعد اكتشافات النفط والغاز في مياه كوت ديفوار، بينما تعد الاكتشافات أمام سواحل «أرض الصومال»، من أسباب التنافس الإقليمي والدولي على المنطقة. وفي الوقت الحالي، تضم القارة الإفريقية 10 دول منتجة للنفط، وقد ساهمت هذه الاكتشافات في تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية لهذه البلدان بشكل ملحوظ.
وفي أمريكا اللاتينية، برزت «غيانا» في عام 2015، كأحد أكبر المنتجين الجدد للنفط، محققةً نقلة نوعية من دولة فقيرة إلى واحدة من أغنى دول العالم، حيث يقدر إنتاجها المستقبلي بنحو 1.8 مليون برميل يوميًا، رغم أن عدد سكانها لا يتجاوز 800 ألف نسمة. ويعود جزء من توتر العلاقات بين «الولايات المتحدة»، و«فنزويلا»، إلى النزاع على منطقة غنية بالنفط تقع على الحدود بين «فنزويلا»، و«غيانا»، حيث تدعم واشنطن»، غيانا في هذا الخلاف.
وتشير تقديرات الخبراء إلى أن «سورينام»، القريبة من غيانا، تملك هي الأخرى فرصًا واعدة لاكتشافات نفطية مماثلة، مما يعزز مكانة منطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية كمنطقة ذات أغلبية في الاكتشافات النفطية الجديدة. ووفقًا لبيانات «وحدة أبحاث الطاقة»، ارتفعت كميات الغاز والسوائل النفطية المكتشفة عالميًا بنسبة تزيد على 130% على أساس شهري، لتصل إلى 310 ملايين برميل نفط مكافئ في فبراير، مقارنةً بـ134 مليون برميل في يناير. ومن هذا الرقم، تشكل السوائل النفطية نحو 97%، مما يعزز استمرارية هيمنة النفط على مصادر الطاقة، ويؤكد أن الموارد النفطية لم تُستنفد بعد كما توقعت نظرية «هوبرت».
نتيجة لذلك، قلصت كبرى شركات النفط العالمية من التزاماتها بخفض إنتاج النفط والغاز، مؤكدةً استعدادها لمواصلة إمداد العالم بهذين الموردين ما دامت الحاجة إليهما قائمة. وبينما تزيد هذه الشركات استثماراتها في استخراج كميات أكبر من النفط، يبقى الوقود التقليدي مسيطرًا على نسبة 82% من مصادر الطاقة الأولية. وعلى الرغم من وصول حجم الانبعاثات الكربونية الناتجة عن قطاع الطاقة إلى أكثر من 34 مليار طن سنويًا؛ إلا أن واقع أمن الطاقة العالمي يستدعي الاستمرار في تأمين إمدادات النفط والغاز، باعتبارهما عنصرين لا غنى عنهما لضمان استقرار أسواق الطاقة الحالية.
ويظل التوازن بين تأمين إمدادات الطاقة، خاصة النفط، وبين تحمل تكاليف التحول إلى مصادر بديلة، «ضرورة حيوية»، في وقت تتزايد فيه التحديات البيئية، والحاجة إلى كفاءة استهلاك الطاقة. ورغم الجهود المبذولة للتحول إلى الطاقة المتجددة، إلا أن هذا لم يعد أولوية قصوى بعد، مع بقاء النفط في الصدارة كوقود رئيسي، إذ يُتوقع أن يصل الطلب العالمي عليه إلى 103.5 ملايين برميل يوميًا خلال العام الحالي، ما يرسخ مكانته كمصدر أساسي لتلبية احتياجات النقل والصناعة لعقود قادمة.
من جهة أخرى، تُظهر الاستثمارات المتواضعة لشركات النفط والغاز في الطاقة المتجددة (أقل من 1% من إجمالي الإنفاق العالمي)، قصورًا عن التوقعات. وبينما من المفترض أن يرتفع إنفاقها من 2.5% في عام 2020، إلى 50% بحلول عام 2030، وفقًا لـ«وكالة الطاقة الدولية؛ إلا أن الواقع الحالي، يشير إلى هيمنة النفط والغاز على مشهد الطاقة العالمي. وفيما تتوقع منظمة «أوبك»، زيادة الطلب العالمي على الطاقة بنسبة 24% بحلول عام 2050؛ سيظل النفط والغاز يلعبان دورًا محوريًا في تلبية هذا الطلب.
وتُعد التكلفة المرتفعة لتحول الطاقة من أبرز العقبات التي تواجه الحكومات في العالم، إذ إن التقديرات تشير إلى أن التحول للطاقة النظيفة بين عامي 2021 و2050، سيحتاج إلى استثمارات هائلة تقدر بحوالي 275 تريليون دولار، وفقًا لمعهد «ماكنزي» العالمي. ويعادل هذا المبلغ نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مدة ثلاثة عقود، ويعكس صعوبة التحول في ظل عدم استعداد الدول ذات الدخل المنخفض لتحمل هذه التكاليف؛ بسبب محدودية مواردها، مما يحمّل الدول ذات الدخل المرتفع عبئًا أكبر، حيث يتوقع أن تخصص هذه الدول ما بين 15% و20% من ناتجها المحلي الإجمالي لتمويل هذا التحول.
وخلال «أسبوع الطاقة»، الذي نظمته «سنغافورة» مؤخرًا، أوضح رئيس «أرامكو» السعودية، «أمين بن حسين الناصر»، أن تكلفة تحول الطاقة عالميًا ستتراوح بين 100 و200 تريليون دولار حتى عام 2050، مؤكدا أن هذا سيضع عبئًا كبيرًا على الدول النامية، التي ستحتاج إلى استثمارات تصل إلى 6 تريليونات دولار سنويًا، لتحقيق هذه الأهداف. ويعكس هذا التحدي الصعوبة العملية في تنفيذ هذا التحول.
وأمام هذا الواقع، يُعتبر الاستثمار في تقنيات تقليل انبعاثات الكربون في عمليات إنتاج واستهلاك الوقود الأحفوري، «خيارًا عمليًا»، وأكثر تحقيقًا للبيئة المستدامة، إلى جانب تعزيز كفاءة الاستهلاك وترشيده. وعلى سبيل المثال، بلغ إجمالي الإنفاق العالمي على تحول الطاقة منذ 2013 حتى الآن، حوالي 9.5 تريليونات دولار فقط. وفي مقابل التكلفة الكبيرة لتحول الطاقة حتى 2050، فإن قطاع النفط والغاز يحتاج فقط استثمارات بقيمة نحو 14 تريليون دولار بحلول 2045. ويظل تحول الطاقة بهذه التكلفة العالية، فضلاً عن تأثيره السلبي في اقتصادات ورفاهية الدول المنتجة للنفط والغاز، تحديًا يحتاج إلى تغيير الخطط الحالية، واستبدالها بخطة جديدة أكثر واقعية وتلائم الدول النامية خاصة.
على العموم، يظل النفط حجر الزاوية في أمن الطاقة العالمي على المدى القريب، وتظل دول الخليج هي مفتاح تحقيق هذا الأمن، باعتبارها كمجموعة أكبر مورد للنفط عالميًا، وتستأثر «السعودية»، وحدها بنحو 16.2% من صادراته عالميا، فضلاً عن امتلاكها لما يقرب من 13% من احتياطياته. وبينما تواصل هذه الدول الاستثمار في تقنيات خفض الانبعاثات الكربونية والطاقة المتجددة، وتلتزم بأهداف الحياد الكربوني ومداها الزمني؛ فإنها تدرك أيضًا أهمية النفط والغاز في اقتصادها وفي أمن الطاقة العالمي.
وعليه، تدفع الأرباح المستقرة والنمو المستمر في الطلب العالمي، «السعودية»، إلى توسيع طاقتها الإنتاجية إلى 13 مليون برميل يوميًا بحلول 2027، ما يعكس توجهًا عالميًا للعودة إلى استثمارات النفط والغاز، كخيار أكثر واقعية واستدامة، خاصة في ظل التكاليف المرتفعة لتحولات الطاقة. وفي وقت تتخلى فيه بعض الجهات عن استثمارات الطاقة البديلة، يظل النفط والغاز خيارًا حيويًا لأمن الطاقة العالمي على الأقل حتى منتصف القرن الحالي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك