لم يسبق لدولة إسرائيل على مدى تاريخها الملطخ بالحروب والاحتلال العسكري أن كانت عاجزة إلى هذا الحد عن تطوير خطة متماسكة لمستقبلها ومستقبل ضحاياها.
يكفي أن نلقي نظرة سريعة على العناوين الرئيسية التي تتصدر وسائل الإعلام الدولية حتى ندرك عمق المعضلة الإسرائيلية. وبينما تواصل تل أبيب شن حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، يبدو أنه ليس لديها أي فكرة عما يجب فعله بخلاف مجرد تدمير القطاع وتقتيل شعبه والتنكيل به.
وحتى وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، الذي قد يكون قريبا مطلوبا رسمياً من قبل المحكمة الجنائية الدولية، أشار في مناسبات متعددة إلى أن إسرائيل ليس لديها خطة لما بعد الحرب في غزة.
في شهر مايو الماضي قال جالانت بأوضح لغة ممكنة: «منذ شهر أكتوبر، وأنا أثير هذه القضية باستمرار في مجلس الوزراء، ولم أتلق أي رد».
ويشير آخرون إلى أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة قد يكون لديهما خطة، ولكن بلغة صحيفة واشنطن بوست، فهي «خطة غير قابلة للتنفيذ» أو، وفقًا لمحطة فوكس نيوز الإخبارية: «ليست خطة على الإطلاق».
إن الخطة التي وضعها بنيامين نتنياهو، التي تعتبر «غير القابلة للتنفيذ»، والتي لا ترتقي إلى مستوى «الخطط الحقيقية» تتعارض مع ما ترغب فيه وما تطرحه الإدارة الأمريكية من أفكار ورؤى.
صحيح أن إسرائيل والولايات المتحدة على اتفاق تام فيما يتعلق بالحرب نفسها. وحتى بعد أن بدأت واشنطن مؤخراً في تغيير موقفها من الرغبة في استمرار الحرب، إلى مطالبة نتنياهو بإنهاء مهمته الدموية، استمرت الأسلحة الأمريكية في التدفق بالوتيرة نفسها.
ومع ذلك، فإن الأمريكيين غير مقتنعين بأن تدمير حركة حماس، وتجريد غزة من السلاح بشكل كامل، والسيطرة على الحدود بين غزة ومصر، وإغلاق وكالة غوث اللاجئين التابعة للأونروا، و«نزع التطرف» عن السكان الفلسطينيين المحاصرين هو النهج الصحيح.
لكن لا بد أن بنيامين نتنياهو نفسه كان يعرف ذلك بالفعل، إن لم يكن في بداية الحرب، فعلى الأقل بعد مرور عام تقريبًا على بدء الإبادة الجماعية. فقد ظل جيشه المنهك ينتقل من مرحلة إلى أخرى، معلناً «انتصارات تكتيكية»، من دون أن يحقق هدفاً استراتيجياً واحداً في غزة.
أما التقدير الأكثر تفاؤلاً للجيش الإسرائيلي هو أن حربه، التي دمرت عملياً كل قطاع غزة، قد وصلت إلى طريق مسدود. والقراءة الأكثر رصانة للحرب، وفقاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق الجنرال إيهود باراك، هي أن إسرائيل يجب أن تضع حداً لها قبل أن «تغرق في هاوية أخلاقية».
لكن المزيد من الخطط الوهمية، المتعلقة بقطاع غزة والضفة الغربية، لا تزال تتسرب إلى وسائل الإعلام باستمرار. كان التسريب الرئيسي الأول عبارة عن تسجيل مسجل لخطاب ألقاه الوزير الإسرائيلي المتطرف والمؤثر للغاية في حكومة نتنياهو، بتسلئيل سموتريتش.
في التسجيل المذكور قال بتسلئيل سموتريتش مخاطبا مجموعة من المستوطنين اليهود الإسرائيليين في يونيو الماضي، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز: «أنا أقول، إنه أمر درامي للغاية. مثل هذه التغييرات تغير الحمض النووي للنظام».
ويرتكز «برنامج الوزير المنسق بعناية» على نقل سلطة الضفة الغربية من جيش الاحتلال إلى مجموعة من المدنيين بقيادة بتسلئيل سموتريتش نفسه.
أما الهدف الذي يرمي إليه بتسلئيل سموتريتش فهو يتمثل أساس في الاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتوسيع المستوطنات غير القانونية، ومنع أي استمرارية محتملة لدولة فلسطينية قابلة للحياة.
وفي الحقيقة، فإن هذه الخطة التي يتحدث عنها بتسلئيل سموتريتش جار تنفيذها فعلا على أرض الواقع بالفعل. ففي 29يوم مايو 2024، عينت إسرائيل هيليل روث، وهو حليف مقرب من سموتريش، نائبا في الإدارة المدنية في الضفة الغربية.
ومما لا شك فيه أن الخطة التي تستهدف قطاع غزة وسكانه إنما تمثل حلقة أخرى من أعمال البطش والتنكيل، ولكنها أيضا خطة وهمية. جاء ذلك في مقال بقلم رئيس تحرير صحيفة هآرتس الإسرائيلية، في عددها الصادر بتاريخ 9 سبتمبر.
كتب ألوف بن في ذلك المقال المذكور يقول إن خطة نتنياهو تتضمن أيضًا تعيين «حاكم غزة» الإسرائيلي، العميد إيلاد غورين، الذي أصبح «رئيس الجهود الإنسانية والمدنية» في القطاع في 28 أغسطس الماضي.
وباستخدام مزيج من التكتيكات، بما في ذلك التجويع والضغط العسكري وما شابه، يريد بنيامين نتنياهو دفع سكان شمال قطاع غزة إلى الجنوب استعدادًا لضم المنطقة رسميًا وإعادة المستوطنين اليهود.
ولم تكن هذه هي الخطط الوحيدة التي تم تسريبها، أو التي تم الإعلان عنها، في بعض الأحيان علنًا، من قبل المسؤولين الإسرائيليين.
في بداية الحرب العدوانية، كانت أفكار مثل التطهير العرقي لسكان غزة في سيناء يؤيدها المسؤولون الإسرائيليون علنًا، وكانت أيضًا الموضوع الرئيسي للمناقشة في البرامج الإخبارية المسائية الإسرائيلية.
وتحدث بعض المسؤولين الإسرائيليين عن احتلال غزة بالكامل، في حين طرح آخرون، مثل وزير التراث الإسرائيلي أميخاي إلياهو، فكرة إسقاط قنبلة نووية وتدمير القطاع.
إن خطة إخلاء غزة بالكامل لم تنجح ببساطة لأن الفلسطينيين لن يغادروا، ورفضت مصر التلميح بأن التطهير العرقي لسكان غزة كان خيارا.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عملية إخلاء شمال غزة من السكان لم تنجح أيضاً، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن إسرائيل كانت تبيد السكان المدنيين الفلسطينيين في كل من الشمال والجنوب بمعدلات مماثلة وبذات الوتيرة.
لن تنجح خطط إسرائيل الجديدة في تحقيق ما فشلت الخطط الأصلية في تحقيقه، وذلك ببساطة لأن إسرائيل لا تزال تواجه العقبة نفسها: صمود الشعب الفلسطيني.
ومع ذلك، لا يزال من الممكن تعلم الكثير من طبيعة المخططات الإسرائيلية، القديمة والجديدة، وأهمها حقيقة أن إسرائيل تنظر إلى الشعب الفلسطيني باعتباره العدو اللدود الذي يتهدد وجودها.
وهذا الاستنتاج لا يمكن استخلاصه فقط من خلال تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم الرئيس إسحق هرتسوغ نفسه، عندما قال إن «شعبا بأكمله هناك (..) مسؤول».
ويبدو أن كل المخططات الإسرائيلية تقريباً تنطوي على قتل الفلسطينيين بأعداد كبيرة، أو تجويعهم أو تهجيرهم بشكل جماعي.
وهذا يعني أن الحرب الإسرائيلية كانت دائما حربا ضد الشعب الفلسطيني، والفلسطينيون أنفسهم يعرفون ويدركون ذلك. ألا ينبغي لبقية العالم أن يعرف ويدرك ذلك أيضا الآن؟
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك