زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وقفة أخيرة في محطة العربية
رغم أنني من العرب المستعربة، إلا أنني أحس بالسعادة لأن الله أعانني على امتلاك ولو جانب من ناصية العربية، فقد بذلت ومازلت أبذل كل جهد ممكن للارتقاء بلساني عربياً، فقد أتى عليّ حين من الدهر كنت فيه أرفع يدي في حجرة الدراسة، لأقول لمدرسي أبو شنب معقوف: «ممكن تشرحي الكلام دي تاني يا شيخة»، أو يحاول بعضنا مجاراة عيال الخرطوم فنقول عندما نرى فتاة جميلة: «يا هلو (حلو) أنت يا شطة».
على كل أحسب أن لي تجربة جديرة بالتوثيق مع اللغة العربية، لأنني مستفرق بحكم أنني نوبي/ إفريقي (على وزن مستشرق)، فطوال مراحل الدراسة كانت دروس اللغة العربية هي الأثقل على نفسي، فقد بدت لي دروس قواعد النحو ضربا من طلاسم السحر الأسود، وبما أنني تلقيت تعليمي في ظل نظام «الضرب ينفعهم والعلم يرفعهم»، فقد نلت حظا غير طيب من الضرب بسبب عدم استيعابي لدروس النحو، وإلى يومنا هذا أردد كلما استشكل عليّ أمر نحوي: تفكَّرت في النحو حتى مللت / وأتعبت نفسي به والبدن.
مع تقدم مسيرتي التعليمية انتقلت إلى بيئة حضرية ناطقة بالعربية، ساعدتني على إتقان المخاطبة بالعربية العامية الى حد كبير، وفي المرحلة الثانوية انتبهت إلى أنني أحصل على درجات عالية في مادة التعبير/ الإنشاء، رغم أن إلمامي بقواعد النحو اقتصر على ما هو غير مستتر من فاعل ومفعول به ومبتدأ وخبر؛ وجار ومجرور، ولاحقا صقلت لساني العربي بالشعر، بيد أنه لم يكن صقلا يدعو الى التباهي، فقد كنت ألْحَنُ كثيرا عند قراءة نصوص عربية بصوت مسموع، وفاقم تلك المشكلة عندي البون الشاسع بين الفصحى والدارجة، فكما جميع الناطقين بالعربية كانت إجادتي للغة العامية تسبق إلمامي بالفصحى بأميال كثيرة، ولكن بمواصلة الاطلاع على كتب كثيرة كُتِبَت بعربية فصحى جميلة وسلسة وسهلة، أحسست بأن لساني تعرَّب بدرجة يصعب معها على آل قحطان وعدنان اكتشاف «أعجميتي».
ومازلت ضعيف الإلمام بالكثير من قواعد النحو، ولكنني لا أحس بأن ذلك يسبب لي قعودا لغويا، ولا أعرف كثير شيء عن المفعول المطلق والمفعول لأجله ومعه، ولكنني أحسب أنه صارت لي حاسة سادسة تجعلني أحس بالخطأ والصواب اللغوي، ولن أنسى حيرتي عندما زجرني معلم اللغة العربية، عندما قرأت نصا يقول «حدث كذا وكذا في بيتِ لحم»، وكسرت التاء في «بيت» لأنها مسبوقة بحرف جر، قائلا إن بيت لحم ممنوعة من الصرف، ومنذ يومها وأنا أجاهد كي أفهم ما جاء في كتب اللغة عن الممنوع من الصرف: اسم معرب لا يدخله تنوين التمكين، ويجر بالفتحة نيابة عن الكسرة إلا إذا كان مضافا أو دخلته أل التعريف فإنه يجر بالكسرة. ثم تأتي قائمة الأسماء التي تمنع من الصرف: الأسماء التي تحوي ألف التأنيث الممدودة أو المقصورة مثل ليلى، شقراء. والاسم الذي على صيغة منتهى الجموع أي كل جمع تكسير بعد ألف تكسيره حرفان أو ثلاثة أحرف بشرط أن يكون الحرف الأوسط من هذه ساكنا. وتكون على وزن (مفاعل، مفاعيل، فواعل) مثل: مساجد، مجاميع، سواعد، والعلم المركب تركيبا مزجيا مثل حضرموت، بعلبك. يا مثبت العقول يا الله.
الله يعطي العافية لمن اجتهدوا وصاغوا قواعد اللغة، فمن المؤكد أن استيعاب وصياغة تلك القواعد لا يقدر عليه إلا عقل ثاقب ومتوقد، ولكن إذا تذكرنا ان تلخيص تلك القواعد ليسهل فهمها تطلُب ألف بيت من الشعر من ابن مالك، لا حيلة لنا سوى أن نناشد واضعي المناهج الدراسية في البلدان الناطقة العربية أن يرحموا عيالنا بعدم حشو المقررات المدرسية بقواعد نحوية ينبغي أن تترك فقط لأهل «التخصص«.
ولا آتي بجديد عندما أدعو الى تبسيط مناهج اللغة العربية المدرسية، فقد كان هناك على مر الزمان من يدعون إلى ذلك؛ بعضهم من منطلق كره قواعد النحو، ومنهم عمار الكلبي الذي قال بعد أن عابوا عليه خطأً نحويا:
ماذا لقينا من المستعربيـــن ومن * قياس نحـــــــــوهم الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكرا يكـــــــون بها * بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قالوا لحنت وهذا ليس منتصـــــبا * وذاك خفض وهـــذا ليس يرتفع
كم بين قوم قد احتالوا بمنطـــقهم * وبين قوم على إعرابهـــم طبعـوا
ما كل قولي مشروحا لكم فخـذوا * ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعـوا
ليت من هم أكثر مني اقتدارا في مجال اللغة يعنون بأمر تبسيط العربية وتحريرها من قبضة المنبطحين على النصوص من جماعة »قُل ولا تقل«، من دون التضحية بقوانينها الأساسية، ليسهل استيعابها، فلا »يستعر« عيالنا منها، ويستعيرون مفردات إفرنجية لتزويق الكلام.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك