العدد : ١٦٩٨٣ - السبت ٢١ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٨ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٣ - السبت ٢١ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٨ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

لندن مدينة عالمية والمهاجرون أبناؤها

بقلم: فاروق يوسف

الجمعة ٠٦ سبتمبر ٢٠٢٤ - 02:00

منذ‭ ‬أن‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬وبريطانيا‭ ‬تتعثر‭ ‬بأزمات،‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تواجهها‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تستجب‭ ‬لنداء‭ ‬العاطفة‭ ‬الوطنية‭ ‬والقومية‭ ‬الساذجة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عنوانا‭ ‬لاعترافها‭ ‬بأنها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬بريطانيا‭ ‬العظمى‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬عن‭ ‬أراضيها‭ ‬الشمس‭ ‬وأنها‭ ‬صارت‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬بركة‭ ‬ضيقة‭ ‬وضحلة‭ ‬تعجز‭ ‬عن‭ ‬استقبال‭ ‬وإيواء‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬السمك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬قد‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬لندن‭ ‬عاصمة‭ ‬عالمية‭.‬

من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬بريطانيا‭ ‬منذ‭ ‬نهاية‭ ‬عام‭ ‬2016‭ ‬قد‭ ‬ألقت‭ ‬بظلالها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬توقع‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬فقراء‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬الفقير‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الإحصاءات‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬الفقراء‭ ‬والمشردين‭ ‬تزداد‭ ‬باطّراد‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬خطط‭ ‬حكومية‭ ‬لإيقافها‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬ارتفع‭ ‬مستوى‭ ‬التضخم‭ ‬إلى‭ ‬المستوى‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬بالكثيرين‭ ‬إلى‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بشراء‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬تتعلق‭ ‬بالعيش‭ ‬المباشر‭. ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تختفي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المقاهي‭ ‬والمطاعم‭ ‬وأسواق‭ ‬الثياب‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أسواقا‭ ‬للملابس‭ ‬والأغذية‭ ‬مثل‭ ‬محلات‭ ‬‮«‬ماركس‭ ‬أند‭ ‬سبنسر‮»‬‭ ‬العريقة‭ ‬قد‭ ‬أغلقت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬فروعها‭ ‬خشية‭ ‬ظروف‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬أقوى‭ ‬منها‭.‬

بعد‭ ‬وقت‭ ‬قصير‭ ‬أدرك‭ ‬البريطانيون‭ ‬أنهم‭ ‬أخطأوا‭ ‬حين‭ ‬صوتوا‭ ‬لصالح‭ ‬بريكست،‭ ‬وهو‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭. ‬ولكن‭ ‬حزب‭ ‬المحافظين‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحكم‭ ‬بريطانيا‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬تدوير‭ ‬الأزمة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تغيير‭ ‬رؤسائه‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يثبت‭ ‬أيّ‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬أنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬حل‭ ‬عبقري‭ ‬يعيد‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬توازنها‭. ‬

الأدهى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الحزب‭ ‬العريق‭ ‬سمح‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬وزرائه‭ ‬بتحميل‭ ‬المهاجرين‭ ‬مسؤولية‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬باعتبارهم‭ ‬حملا‭ ‬فائضا‭ ‬وهو‭ ‬الحل‭ ‬المريح‭ ‬الذي‭ ‬استفادت‭ ‬منه‭ ‬أحزاب‭ ‬اليمين‭ ‬في‭ ‬تعبئة‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬تمهيدا‭ ‬لتسلمها‭ ‬السلطة‭. ‬

صارت‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬المهاجرين‭ ‬هي‭ ‬الشعار‭ ‬المضلل‭ ‬الذي‭ ‬تسلمه‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرف‭ ‬بيسر‭ ‬لينجز‭ ‬انقلابه‭ ‬الذي‭ ‬بدأه‭ ‬ببريكست‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬البريطانيين‭ ‬صوتوا‭ ‬لليسار‭ ‬متمثلا‭ ‬بحزب‭ ‬العمال‭ ‬لكي‭ ‬يكون‭ ‬قائدا‭ ‬للمرحلة‭ ‬المقبلة‭.‬

كانت‭ ‬خسارة‭ ‬حكومة‭ ‬المحافظين‭ ‬اليمينية‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬الأخيرة‭ ‬مدوية‭ ‬وتجاوزت‭ ‬كل‭ ‬التوقعات‭. ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬حدث‭ ‬يعيد‭ ‬اليمين‭ (‬ومعه‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرف‭) ‬إلى‭ ‬الواجهة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التلويح‭ ‬بخطر‭ ‬المهاجرين‭ ‬على‭ ‬بريطانيا‭. ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬نغمته‭ ‬التي‭ ‬أفسدها‭ ‬الانتصار‭ ‬العمالي‭.‬

تقع‭ ‬الجريمة‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬مؤخرا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الإطار‭. ‬وهي‭ ‬جريمة‭ ‬لا‭ ‬يشكّل‭ ‬المهاجرون‭ ‬الذين‭ ‬حصل‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬الجنسية‭ ‬البريطانية‭ ‬طرفا‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالهجرة‭ ‬التي‭ ‬سعى‭ ‬حزب‭ ‬المحافظين‭ ‬إلى‭ ‬إخراجها‭ ‬عن‭ ‬إطارها‭ ‬الإنساني‭ ‬حين‭ ‬أقرّ‭ ‬قانون‭ ‬ترحيل‭ ‬اللاجئين‭ ‬الجدد‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬ثالثة‭ ‬هي‭ ‬رواندا‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬فشل‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬مبتغاه‭.‬

وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬حيثيات‭ ‬الجريمة‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬مقتل‭ ‬ثلاث‭ ‬فتيات‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬رجل‭ ‬لم‭ ‬تعلن‭ ‬الشرطة‭ ‬إلا‭ ‬عن‭ ‬اسمه‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يدل‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬مسلمة‭ ‬فإن‭ ‬الشعارات‭ ‬التي‭ ‬رفعها‭ ‬المتطرفون‭ ‬في‭ ‬تظاهراتهم‭ ‬التي‭ ‬تخللتها‭ ‬أعمال‭ ‬تخريب‭ ‬ونهب‭ ‬وحرق‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬ضغينة‭ ‬مبيتة‭ ‬ضد‭ ‬المهاجرين،‭ ‬المسلمين‭ ‬منهم‭ ‬بالتحديد‭. ‬

تلك‭ ‬ظاهرة‭ ‬تحرج‭ ‬بريطانيا‭ ‬لا‭ ‬أمام‭ ‬مواطنيها‭ ‬المسلمين‭ ‬بحسب،‭ ‬بل‭ ‬وأيضا‭ ‬أمام‭ ‬تاريخها‭ ‬الديمقراطي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬حكم‭ ‬المؤسسات‭ ‬واستقلالها‭. ‬فليس‭ ‬من‭ ‬المعقول‭ ‬أن‭ ‬تسبق‭ ‬جهة‭ ‬ما‭ ‬الشرطة‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬القضاء‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬التهمة‭ ‬إلى‭ ‬شريحة‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬البريطاني،‭ ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬قرينة‭ ‬تؤكد‭ ‬صلتها‭ ‬بالموضوع‭.‬

أما‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬المهاجر‭ ‬إلى‭ ‬متهم‭ ‬جاهز‭ ‬فتلك‭ ‬هي‭ ‬مشكلة‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬السياسي‭ ‬البريطاني‭ ‬أن‭ ‬يواجهها‭ ‬بعمق‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬الحلول‭ ‬الوسطية‭. ‬ذلك‭ ‬لأنها‭ ‬تمس‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬جوهره‭. ‬كان‭ ‬المتظاهرون‭ ‬قد‭ ‬أدركوا‭ ‬حجم‭ ‬الهوة‭ ‬فعرّضوا‭ ‬تاريخ‭ ‬بلادهم‭ ‬السياسي‭ ‬إلى‭ ‬السخرية‭ ‬حين‭ ‬وضعوا‭ ‬المهاجرين‭ ‬خارج‭ ‬منطقة‭ ‬التعامل‭ ‬الديمقراطي‭. ‬إنهم‭ ‬ديمقراطيون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إلا‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالقادمين‭ ‬إلى‭ ‬بلادهم‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬الأرض‭.‬

في‭ ‬لحظة‭ ‬طيش‭ ‬بلهاء‭ ‬وغبية‭ ‬نسي‭ ‬المتطرفون‭ ‬أن‭ ‬ملايين‭ ‬من‭ ‬مواطنيهم‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬هاجروا‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬بعيدة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يعيشوا‭ ‬حياة‭ ‬أفضل‭ ‬وليساهموا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬تحسين‭ ‬شروط‭ ‬العيش‭ ‬البشري‭.‬

وهو‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يفعله‭ ‬المهاجرون‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭. ‬وما‭ ‬يحاول‭ ‬المتطرفون‭ ‬القفز‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬قد‭ ‬تغير‭. ‬بدليل‭ ‬أن‭ ‬لندن‭ ‬وهي‭ ‬عاصمة‭ ‬بلادهم‭ ‬هي‭ ‬مدينة‭ ‬غرباء،‭ ‬التقوا‭ ‬في‭ ‬نقطة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬ليخلقوا‭ ‬تاريخا‭ ‬للبشرية،‭ ‬لا‭ ‬تعكّره‭ ‬الأديان‭ ‬والأعراق‭ ‬وسواهما‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬العزلة‭.‬

لندن‭ ‬مدينة‭ ‬مفتوحة‭. ‬وما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كذلك‭ ‬فإنها‭ ‬ستقفل‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬عالميتها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خسرت‭ ‬أوروبا‭.‬

{ كاتب‭ ‬عراقي

 

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا