العدد : ١٦٩٠٦ - السبت ٠٦ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٣٠ ذو الحجة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٩٠٦ - السبت ٠٦ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٣٠ ذو الحجة ١٤٤٥هـ

قضايا و آراء

يوميات الحياة في مخيم النصيرات في ظل العدوان الإسرائيلي

بقلم: د. رمزي بارود

الخميس ٠٤ يوليو ٢٠٢٤ - 02:00

مازلت‭ ‬أتذكر‭ ‬بكل‭ ‬وضوح‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬تابعة‭ ‬لوكالة‭ ‬الأونروا‭ ‬التابعة‭ ‬لمنظمة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬للاجئين‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭. ‬كان‭ ‬عمري‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬وكنت‭ ‬أشعر‭ ‬وكأن‭ ‬حياتي‭ ‬قد‭ ‬انتهت‭.‬

كانت‭ ‬المسافة‭ ‬من‭ ‬القطعة‭ ‬رقم‭ ‬5‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬النصيرات‭ ‬للاجئين‭ ‬إلى‭ ‬المخيم‭ ‬الجديد‭ ‬الواقع‭ ‬داخل‭ ‬الحدود‭ ‬البلدية‭ ‬للنصيرات‭ ‬طويلة‭ ‬ومرهقة‭ ‬ومرعبة‭.‬

كنت‭ ‬آنذاك‭ ‬أضطر‭ ‬إلى‭ ‬المشي‭ ‬عدة‭ ‬أميال،‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬مليئة‭ ‬بالأتربة‭ ‬مما‭ ‬أضر‭ ‬ببدلتي‭ ‬الحمراء‭ ‬الجديدة‭ ‬المصممة‭ ‬خصيصًا‭ ‬والصنادل‭ ‬البرتقالية‭.‬

وفي‭ ‬الرحلة‭ ‬الشاقة،‭ ‬مروراً‭ ‬ببساتين‭ ‬الحمضيات‭ ‬وأكوام‭ ‬الرمال،‭ ‬رافقني‭ ‬مئات‭ ‬الأطفال،‭ ‬بعضهم‭ ‬أكثر‭ ‬خبرة‭ ‬وثقة،‭ ‬وآخرون‭ ‬مثلي،‭ ‬يبكون‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬الأونروا‭ ‬الابتدائية‭ ‬للبنين‭.‬

وفي‭ ‬الطريق،‭ ‬تعرفت‭ ‬على‭ ‬‮«‬رجل‭ ‬البستان‭ ‬المجنون‮»‬،‭ ‬ذلك‭ ‬الحارس‭ ‬الأشعث‭ ‬الذي‭ ‬يطارد‭ ‬الأطفال‭ ‬المشاغبين‭ ‬كلما‭ ‬حاولوا‭ ‬قطف‭ ‬ثمار‭ ‬البرتقال‭ ‬من‭ ‬الأشجار‭. ‬

وتعرفت‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬الكلاب‭ ‬المطلقة‭ ‬التابعة‭ ‬لبعض‭ ‬القبائل‭ ‬البدوية،‭ ‬والتي‭ ‬قد‭ ‬تؤدي‭ ‬عضاتها‭ ‬إلى‭ ‬حقن‭ ‬الكثيرين‭ ‬منا‭ ‬للوقاية‭ ‬من‭ ‬الإصابة‭ ‬بداء‭ ‬الكلب‭ ‬والشعور‭ ‬بالألم‭ ‬الشديد‭.‬

وعندما‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬الصف،‭ ‬تحولت‭ ‬دموعي‭ ‬إلى‭ ‬بكاء‭. ‬فقد‭ ‬بدأنا‭ ‬نتعلم‭ ‬كيفية‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬وكأنه‭ ‬تمرين‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬له،‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬مخاطر‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬تلميذا‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مدارس‭ ‬الأونروا‭ ‬في‭ ‬غزة‭.‬

للأسف،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬نهاية‭ ‬سعيدة‭ ‬فورية،‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬بالفعل‭ ‬مطاردًا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬‮«‬الرجل‭ ‬المجنون‮»‬،‭ ‬وعضتني‭ ‬الكلاب،‭ ‬وعلقت‭ ‬الأتربة‭ ‬بصندلي‭ ‬وتلطخت‭ ‬بدلتي‭ ‬الحمراء‭ ‬ذات‭ ‬الأزرار‭ ‬الكبيرة‭ ‬ذات‭ ‬اللون‭ ‬الفضي‭.‬

ولكن‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬يستحق‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الجهد‭. ‬زملائي،‭ ‬منذ‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬الدراسي،‭ ‬هم‭ ‬الآن‭ ‬المثقفون‭ ‬العظماء‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬الصحفيون،‭ ‬المعلمون،‭ ‬الأطباء،‭ ‬الآباء،‭ ‬وكل‭ ‬الأشخاص‭ ‬الرائعون‭ ‬الذين‭ ‬جعلوا‭ ‬من‭ ‬غزة‭ ‬المكان‭ ‬العنيد‭ ‬الذي‭ ‬يلهم‭ ‬العالم‭ ‬أجمع،‭ ‬وقد‭ ‬قُتل‭ ‬أو‭ ‬جُرح‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الكثيرون‭ ‬يكافحون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إبقاء‭ ‬غزة‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أعيش‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬النصيرات،‭ ‬فإن‭ ‬علاقتي‭ ‬بالمكان‭ ‬أصبحت‭ ‬أقوى‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭.‬

وفي‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬نقول‭: ‬‮«‬البعيد‭ ‬عن‭ ‬العين‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬القلب‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬غزة‭ ‬تشكل‭ ‬استثناءً،‭ ‬لأن‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬نتركهم‭ ‬خلفنا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬نسيانهم،‭ ‬ولأن‭ ‬معاناتهم،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الحصار‭ ‬والحرب،‭ ‬أشد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نتجاهلها‭.‬

بينما‭ ‬كنت‭ ‬أتصفح‭ ‬هاتفي‭ ‬المحمول‭ ‬يوم‭ ‬الخميس‭ ‬6‭ ‬يونيو‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬أخبار‭ ‬عما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬بعد‭ ‬تسعة‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬بدء‭ ‬الحرب،‭ ‬تصدرت‭ ‬الأخبار‭ ‬العاجلة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭: ‬‮«‬مذبحة‭ ‬النصيرات‮»‬‭ ‬عناوين‭ ‬الأخبار‭.‬

بدت‭ ‬المذبحة‭ ‬فظيعة‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬نشر‭ ‬تفاصيلها‭ ‬الدموية‭.‬

وبعد‭ ‬أيام‭ ‬قليلة،‭ ‬وفي‭ ‬يوم‭ ‬8‭ ‬يونيو‭ ‬الماضي،‭ ‬وقعت‭ ‬مأساة‭ ‬أكبر‭ ‬بكثير،‭ ‬قُتل‭ ‬وجُرح‭ ‬فيها‭ ‬المئات‭. ‬أصبحت‭ ‬كلمتا‭ ‬‮«‬مذبحة‮»‬‭ ‬و«النصيرات‮»‬‭ ‬متشابكتين‭ ‬للغاية‭ ‬في‭ ‬الأشهر‭ ‬الأخيرة‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬العناوين‭ ‬الجديدة‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تحذف‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭.‬

عندما‭ ‬كنت‭ ‬أشاهد‭ ‬صور‭ ‬القتلى‭ ‬والجرحى‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬الصردي‭ ‬ولاحقاً‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬المركزي،‭ ‬خشيت‭ ‬أن‭ ‬أتعرف‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الوجوه‭ ‬المألوفة‭.‬

لقد‭ ‬حدث‭ ‬هذا‭ ‬السيناريو‭ ‬الكارثي‭ ‬المرعب‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وبشكل‭ ‬متكرر،‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬أكتشف‭ ‬أن‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬أو‭ ‬الأصدقاء‭ ‬أو‭ ‬الجيران‭ ‬قتلوا‭ ‬أو‭ ‬أصيبوا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الأخبار‭.‬

وبالتالي،‭ ‬كلما‭ ‬ظهرت‭ ‬صور‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الهجوم‭ ‬على‭ ‬غزة،‭ ‬أكون‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬أهبة‭ ‬الاستعداد‭. ‬وفي‭ ‬حالة‭ ‬مجزرة‭ ‬المدرسة،‭ ‬لم‭ ‬أتعرف‭ ‬على‭ ‬أحد،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬الضحايا‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬المهجرين‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬أو‭ ‬الجنوب‭.‬

فكرت‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬نفسها‭. ‬إن‭ ‬مجموعة‭ ‬مدارس‭ ‬الأونروا‭ ‬التي‭ ‬تعرضت‭ ‬للهجوم‭ ‬الأخير‭ ‬استضافت‭ ‬50?000‭ ‬شخص‭ - ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬والنساء‭.‬

قبل‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر‭ ‬فقط،‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬المدرسة‭ ‬نفسها‭ ‬مصدرًا‭ ‬للفرح‭ ‬والمعرفة‭ ‬والصداقة،‭ ‬لكنها‭ ‬أيضًا‭ ‬مصدر‭ ‬خوف‭ ‬للأطفال‭ ‬الصغار‭ ‬الذين‭ ‬تم‭ ‬انتزاعهم‭ ‬من‭ ‬عائلاتهم‭.‬

ولتخفيف‭ ‬بعض‭ ‬المعاناة،‭ ‬قام‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المتطوعين‭ ‬في‭ ‬المخيم‭ ‬بإقامة‭ ‬جميع‭ ‬أنواع‭ ‬الأنشطة‭ ‬المجتمعية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الملاجئ‭.‬

يؤدي‭ ‬المهرجون‭ ‬المتطوعون‭ ‬عروضهم‭ ‬بانتظام،‭ ‬ويقص‭ ‬الحلاقون‭ ‬المتطوعون‭ ‬الشعر،‭ ‬ويعقد‭ ‬المعلمون‭ ‬الفصول‭ ‬الدراسية،‭ ‬وتخبز‭ ‬النساء‭ ‬معًا،‭ ‬وتنظم‭ ‬نوادي‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬المحلية‭ ‬البطولات‭. ‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬طمأنة‭ ‬الأطفال‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬المعاناة‭ ‬المستمرة‭ ‬وأصوات‭ ‬القنابل‭ ‬من‭ ‬حولهم،‭ ‬فإنهم‭ ‬سيبقون‭ ‬دائمًا‭ ‬آمنين‭ ‬في‭ ‬الداخل‭.‬

ولكن‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأمان،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الكنائس‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المستشفيات‭.‬

أكتب‭ ‬هذا‭ ‬لأنني‭ ‬أخشى‭ ‬أن‭ ‬القراء‭ ‬والمشاهدين‭ ‬لن‭ ‬يربطوا‭ ‬النصيرات‭ ‬إلا‭ ‬بالمجازر،‭ ‬مع‭ ‬الجثث‭ ‬المصفوفة‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬المغطاة‭ ‬بالبطانيات‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬يستخدمونها‭ ‬لتغطية‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬الليل‭.‬

النصيرات،‭ ‬مثل‭ ‬غزة،‭ ‬تمثل‭ ‬ثقافة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬كسرها،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬قوة‭ ‬النيران،‭ ‬أو‭ ‬حجم‭ ‬المجازر‭.‬

بالنسبة‭ ‬إليّ،‭ ‬النصيرات‭ ‬هي‭ ‬حياة‭ ‬عشناها‭ ‬بالكامل،‭ ‬وذكريات‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬نسيانها،‭ ‬ومستقبل‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭. ‬

 

{ أكاديمي‭ ‬وكاتب‭ ‬فلسطيني

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا