العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عندما يختل ميزان العدالة

أعتقد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬أهلني‭ ‬لدخول‭ ‬عالم‭ ‬الصحافة‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬قارئا‭ ‬نهما،‭ ‬فقد‭ ‬دخلت‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬الشباك،‭ ‬أي‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أدرس‭ ‬الصحافة‭ ‬والإعلام،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬اختبرني‭ ‬أرباب‭ ‬ورؤساء‭ ‬تحرير‭ ‬الصحف‭ ‬وقبلوا‭ ‬بي‭ ‬محررا‭ ‬للأخبار‭ ‬وكاتبا‭ ‬للافتتاحيات،‭ ‬ولسنوات‭ ‬طوال‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬طقوس‭ ‬حياتي‭ ‬اليومية،‭ ‬قراءة‭ ‬نحو‭ ‬ست‭ ‬صحف‭ ‬عربية‭ ‬وصحيفة‭ ‬إنجليزية‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬مجلتي‭ ‬تايم‭ ‬ونيوزويك‭ ‬الأسبوعيتين‭ ‬الأمريكيتين،‭ (‬وبالمناسبة‭ ‬فإنني‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬لا‭ ‬يرتاح‭ ‬لقراءة‭ ‬النسخ‭ ‬الإلكترونية‭ ‬للصحف‭).‬

قل‭ ‬عني‭ ‬انني‭ ‬مصاب‭ ‬بعقدة‭ ‬الخواجات،‭ ‬وستكون‭ ‬قد‭ ‬ظلمتني،‭ ‬فحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬هي‭ ‬ان‭ ‬قراءة‭ ‬صحيفة‭ ‬إنجليزية‭ ‬واحدة،‭ ‬يستغرق‭ ‬مني‭ ‬ضعف‭ ‬المدة‭ ‬التي‭ ‬أقضيها‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬ست‭ ‬صحف‭ ‬عربية‭ ‬مجتمعة،‭ ‬وليس‭ ‬سرا‭ ‬أن‭ ‬أفضل‭ ‬وسيلة‭ ‬لمعرفة‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الذي‭ ‬يخصنا‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬هي‭ ‬مطالعة‭ ‬الصحف‭ ‬الأجنبية،‭ ‬ولو‭ ‬أردت‭ ‬معرفة‭ ‬تفاصيل‭ ‬حدث‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬بلدك‭ ‬أيها‭ ‬العربي‭ ‬النشمي‭ ‬فعليك‭ ‬ب‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬أو‭ ‬سي‭ ‬إن‭ ‬إن،‭ ‬أو‭ ‬وكالات‭ ‬رويترز‭ ‬وأسوشيتد‭ ‬برس‭ ‬وفرانس‭ ‬برس‭ ‬إلخ‭.‬

في‭ ‬كل‭ ‬الجرائد‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬وأمريكا‭ ‬الشمالية،‭ ‬صفحة‭ ‬كاملة‭ ‬مخصصة‭ ‬للوفيات،‭ ‬ويشرف‭ ‬عليها‭ ‬صحفي‭ ‬حانوتي،‭ (‬الحانوتي‭ ‬هو‭ ‬متعهد‭ ‬تجهيز‭ ‬الموتى‭ ‬للدفن‭ ‬نظير‭ ‬أجر‭ ‬معلوم‭)‬،‭ ‬والغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يوكل‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الصفحة‭ ‬إلا‭ ‬لمحرر‭ ‬مثقف‭ ‬وواسع‭ ‬الاطلاع،‭ ‬وتحمل‭ ‬تلك‭ ‬الصفحة‭ ‬دائما‭ ‬عنوانا‭ ‬ثابتا‭ ‬هو‭ ‬أبتشاريز obituaries  وتعني‭ ‬حرفيا‭ ‬‮«‬النعي‮»‬‭ ‬وتهتم‭ ‬بسير‭ ‬الشخصيات‭ ‬المعروفة‭ ‬التي‭ ‬تنتقل‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬الأرض‭ ‬الى‭ ‬تحتها،‭ ‬وعندما‭ ‬عملت‭ ‬في‭ ‬تلفزيون‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬كلفوني‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭ ‬بإعداد‭ ‬‮«‬نعي‮»‬‭ ‬شخصيات‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬وأحسست‭ ‬بالضيق،‭ ‬لأنني‭ ‬أحسست‭ ‬بأنني‭ ‬كمن‭ ‬يستعجل‭ ‬موت‭ ‬بعض‭ ‬الشخصيات‭ ‬البارزة‭ ‬المحبوبة‭ ‬سياسيين‭ ‬كانوا‭ ‬أم‭ ‬أدباء‭ ‬أم‭ ‬مخترعين،‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أتضايق‭ ‬من‭ ‬تكليفي‭ ‬بتلك‭ ‬المهمة،‭ ‬فحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬هي‭ ‬اننا‭ ‬جميعا‭ ‬سنموت،‭ ‬ولا‭ ‬ينبغي‭ ‬لوسيلة‭ ‬إعلامية‭ ‬تلفزيونية‭ ‬أن‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬الهلع‭ ‬عند‭ ‬حدوث‭ ‬وفاة‭  -‬ولو‭ ‬فجائية‭- ‬لشخصية‭ ‬عامة‭ ‬معروفة،‭ ‬وتضطر‭ ‬الى‭ ‬نعيه‭ ‬فقط‭ ‬ببعض‭ ‬الكلمات‭. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬شخصية‭ ‬ذات‭ ‬وزن‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬معين‭ ‬فمت‭ ‬مطمئنا‭ ‬واترك‭ ‬أمر‭ ‬ذكر‭ ‬محاسنك‭ ‬لأبي‭ ‬الجعافر‭ ‬ورفاقه‭ (‬بصراحة‭ ‬فإننا‭ ‬كعاملين‭ ‬في‭ ‬شبكات‭ ‬تلفزيونية،‭ ‬عندما‭ ‬نجهز‭ ‬النعي‭ ‬لأي‭ ‬شخصية‭ ‬عامة،‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نغفل‭ ‬سيئاته‭ ‬بل‭ ‬نوردها‭ ‬لأن‭ ‬الأمر‭ - ‬وفي‭ ‬التحليل‭ ‬الأخير‭ - ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭). ‬خذ‭ ‬مثلا‭ ‬نائب‭ ‬الرئيس‭ ‬العراقي‭ ‬الأسبق‭ ‬طارق‭ ‬عزيز،‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬بحقه‭ ‬حكمان‭ ‬بالإعدام‭ ‬بعد‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكي‭ ‬للعراق،‭ ‬فبمجرد‭ ‬صدور‭ ‬الحكمين‭ ‬تبارت‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬قنوات‭ ‬التلفزة‭ ‬لبث‭ ‬تقارير‭ ‬مطولة‭ ‬عن‭ ‬سيرته‭ ‬ومسيرته،‭ ‬بما‭ ‬لها‭ ‬وما‭ ‬عليها‭.‬

أسوأ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬الأجنبية‭ ‬هو‭ ‬أخبار‭ ‬الجرائم‭. ‬ومازال‭ ‬العالم‭ ‬يذكر‭ ‬حكاية‭ ‬النمساوي‭ ‬جوزيف‭ ‬فيرتزل‭ ‬الذي‭ ‬احتجز‭ ‬بنته‭ ‬الوحيدة‭ ‬طوال‭ ‬25‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬قبو‭ ‬وأنجب‭ ‬منها‭ ‬8‭ ‬عيال‭.. ‬وقبل‭ ‬مرور‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الجريمة‭ ‬أدانت‭ ‬محكمة‭ ‬في‭ ‬شيفيلد‭ ‬بإنجلترا‭ ‬رجلا‭ ‬إنجليزيا‭ ‬باغتصاب‭ ‬بنتيه‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة،‭ ‬وأنجب‭ ‬منهما‭ ‬تسعة‭ ‬أطفال‭ (‬هناك‭ ‬عشرة‭ ‬أطفال‭ ‬آخرين‭ ‬ماتوا‭ ‬قبل‭ ‬او‭ ‬بعد‭ ‬الولادة‭). ‬وحكمت‭ ‬عليه‭ ‬المحكمة‭ ‬بالسجن‭ ‬المؤبد‭ ‬25‭ ‬مرة،‭ (‬يعني‭ ‬نظريا‭ ‬25‭ ‬في‭ ‬25‭) ‬ولكن‭ ‬القاضي‭ ‬العادل‭ ‬قال‭ ‬لهذا‭ ‬الحيوان‭: ‬ستقضي‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬19‭ ‬سنة‭ ‬ونصف‭ ‬السنة‭ ‬في‭ ‬السجن‭.. ‬يحيا‭ ‬العدل‭.. ‬طيب‭ ‬ما‭ ‬لزوم‭ ‬الفيلم‭ ‬الهندي‭ ‬بالخمسة‭ ‬والعشرين‭ ‬حكما‭ ‬بالمؤبد‭. ‬أتعرفون‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬شعور‭ ‬هذا‭ ‬الخنزير‭ ‬إزاء‭ ‬انفضاح‭ ‬أمره؟‭ ‬كتب‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬أنا‭ ‬اللي‭ ‬رحت‭ ‬فيها‭ ‬أوانطة‭. ‬البنتان‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬نالتا‭ ‬مني‭ ‬تسعة‭ ‬أطفال‭ ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فنصيبي‭ ‬السجن‭.. ‬أين‭ ‬العدل؟‭ ‬صحيح‭ ‬أين‭ ‬العدل؟‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬عدل‭ ‬لقضت‭ ‬المحكمة‭ ‬بإعدامه‭ ‬25‭ ‬مرة،‭ ‬يتم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬قطع‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬جسمه‭ ‬ابتداء‭ ‬بما‭ ‬يجعله‭ ‬ينتمي‭ ‬الى‭ ‬جنس‭ ‬الرجال،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬ينتمي‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬العقل‭ ‬والأخلاق‭ ‬الى‭ ‬أحط‭ ‬مراتب‭ ‬البهائم‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا