العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

قضايا و آراء

من جحيم غزة: وحشٌ يترصدنا حتى في أحلامنا!

بقلم: د. هيا فريج

الأحد ٢٥ فبراير ٢٠٢٤ - 02:00

كل‭ ‬البلاد‭ ‬قلق،‭ ‬وخوف،‭ ‬وترقّب‭ ‬لموت‭ ‬لا‭ ‬يستأذن‭. ‬وكلمة‭ ‬‮«‬كلنا‭ ‬بخير‮»‬‭ ‬كذبة‭ ‬يسامح‭ ‬الله‭ ‬مشاريع‭ ‬الشهداء‭ ‬عليها‭. ‬غادر‭ ‬والدي‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬شهر‭ ‬تشرين‭ ‬الثاني‭/‬نوفمبر‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب؛‭ ‬لاستكمال‭ ‬عمله‭ ‬الإغاثي‭ ‬مع‭ ‬وكالة‭ ‬‮«‬الأنروا‮»‬‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬إيواء‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬رفح‭. ‬بعدها‭ ‬نصب‭ ‬جيش‭ ‬الاحتلال‭ ‬حاجز‭ ‬التفتيش‭ ‬والذل‭ ‬على‭ ‬شارع‭ ‬صلاح‭ ‬الدين،‭ ‬وهجّر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مليون‭ ‬فلسطيني‭ ‬من‭ ‬الشمال‭ ‬نحو‭ ‬الجنوب،‭ ‬فيما‭ ‬تقطعت‭ ‬أوصال‭ ‬غزة،‭ ‬وأصبح‭ ‬النازحون‭ ‬ورقة‭ ‬ضغط‭ ‬بيد‭ ‬الاحتلال،‭ ‬إذ‭ ‬مُنعوا‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الهدنة‭ ‬الإنسانية‭. ‬

أبي‭ ‬رجلٌ‭ ‬شرقيّ‭ ‬بامتياز،‭ ‬صامتٌ‭ ‬أغلب‭ ‬الوقت،‭ ‬وكلماته‭ ‬محدودة‭ ‬يحسب‭ ‬لها‭ ‬ألف‭ ‬حساب،‭ ‬حادٌّ‭ ‬كالسيف‭ ‬في‭ ‬قراراته،‭ ‬عيناه‭ ‬عينا‭ ‬صقر،‭ ‬وتنبؤاته‭ ‬تصيب‭. ‬لم‭ ‬يضحك‭ ‬في‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬تشرين‭ ‬كما‭ ‬ضحكنا‭ ‬جميعًا،‭ ‬وأخذتنا‭ ‬نشوة‭ ‬الانتصار،‭ ‬وآمنّا‭ ‬بالغلبة‭ ‬والتمكين‭ ‬حين‭ ‬ندخل‭ ‬عليهم‭ ‬الباب،‭ ‬فكانت‭ ‬الانتكاسة‭ ‬فيما‭ ‬نراه‭ ‬من‭ ‬العذاب،‭ ‬إذ‭ ‬دخلوا‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأبواب؛‭ ‬وحده‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬بعينه‭ ‬الثاقبة‭ ‬نفسها‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭ ‬الأغبر؛‭ ‬نكسة‭ ‬غزة‭ ‬الثانية‭.‬

كان‭ ‬يعرف‭ ‬بخبرته،‭ ‬وحنكته‭ ‬أن‭ ‬الجيش‭ ‬المدعوم‭ ‬دوليًّا،‭ ‬لن‭ ‬يقبل‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬بتعدي‭ ‬الحدود،‭ ‬وغزة‭ ‬ستدفع‭ ‬الثمن‭ ‬باهظاً،‭ ‬والجيش‭ ‬الذي‭ ‬دخل‭ ‬غزة‭ ‬غازياً،‭ ‬وداس‭ ‬برجله‭ ‬كل‭ ‬شوارعنا‭ ‬وبيوتنا،‭ ‬فقَتل‭ ‬من‭ ‬قتل،‭ ‬واعتَقل‭ ‬من‭ ‬اعتقل،‭ ‬لن‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭ ‬بوقف‭ ‬إطلاق‭ ‬نار‭ ‬هزيلٍ،‭ ‬وبهدنة‭ ‬مقطّعة‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬الأسبوع‭. ‬أبي‭ ‬منذ‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬تشرين‭: ‬لا‭ ‬يأكل،‭ ‬ولا‭ ‬يشرب‭ ‬إلا‭ ‬قليلًا،‭ ‬شاب‭ ‬أكثر،‭ ‬ونحل‭ ‬جسمه‭ ‬وشعره،‭ ‬وكبر‭ ‬عشرين‭ ‬سنةً‭ ‬فوق‭ ‬عمره‭. ‬صرت‭ ‬أخاف‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬والدي،‭ ‬صرتُ‭ ‬أهاب‭ ‬نظرة‭ ‬الوداع‭ ‬في‭ ‬عينيه،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يبكي‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬يشهق‭ ‬ببكائه‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬أره‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬ودّع‭ ‬جدي‭ ‬قبل‭ ‬ثمانية‭ ‬عشر‭ ‬عاماً‭. ‬كنت‭ ‬صادقًا‭ ‬يا‭ ‬أبي؛‭ ‬وكنا‭ ‬ساذجين‭ ‬أغبياء،‭ ‬ها‭ ‬نحن‭ ‬تحت‭ ‬النار‭ ‬والرصاص‭ ‬الطائش،‭ ‬والاستهداف‭ ‬المباشر،‭ ‬والقنابل‭ ‬شبه‭ ‬الذريّة،‭ ‬والإبادة‭ ‬الجماعية،‭ ‬ننتظر‭ ‬دورنا‭ ‬في‭ ‬طابور‭ ‬القتل،‭ ‬وندعو‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬نموت‭ ‬دون‭ ‬أنين‭ ‬وجع،‭ ‬ولا‭ ‬صراخ‭ ‬استغاثة‭ ‬لا‭ ‬يسمعه‭ ‬أحد،‭ ‬وأن‭ ‬تُكرّم‭ ‬جثثنا‭ ‬بدفنها‭ ‬سريعاً،‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬البقاء‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض‭ ‬تنهشنا‭ ‬الكلاب،‭ ‬ويأكلنا‭ ‬الذباب‭.‬

بعد‭ ‬منع‭ ‬النازحين‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الهدنة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬اجتاح‭ ‬الاحتلال‭ ‬المخيم‭ ‬بعد‭ ‬الهدنة‭ ‬بأقل‭ ‬من‭ ‬يومين‭. ‬الدبابات‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬أمتار‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬منزلنا،‭ ‬تمامًا‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الغربية‭ ‬التي‭ ‬أسكن‭ ‬فيها‭.  ‬أمعن‭ ‬الاحتلال‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام؛‭ ‬في‭ ‬قصف‭ ‬السوق‭ ‬المقابل‭ ‬لبيتنا،‭ ‬وحرق‭ ‬المحالّ‭ ‬التجارية‭ ‬والمخازن‭ ‬فيه،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ينطفئ‭ ‬الحريق‭ ‬حتى‭ ‬تُشعل‭ ‬الدبابات‭ ‬والمدفعيات‭ ‬حريقًا‭ ‬آخر،‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬النار‭ ‬المشتعلة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقدر‭ ‬أحد‭ ‬منا‭ ‬على‭ ‬الاقتراب‭ ‬منها؛‭ ‬لأننا‭ ‬بتنا‭ ‬جميعًا‭ ‬تحت‭ ‬الاستهداف،‭ ‬وفي‭ ‬مرمى‭ ‬النيران‭.‬

هل‭ ‬تذكرون‭ ‬جارتي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشرب‭ ‬النسكافيه‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬سابق؟‭ ‬كانت‭ ‬إحدى‭ ‬مقومات‭ ‬صمودي،‭ ‬وبقائنا‭ ‬في‭ ‬الشمال‭.  ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬التهدئة‭ ‬المؤقتة،‭ ‬نَشرتُ‭ ‬الغسيل‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬كعادتي‭ ‬اليومية،‭ ‬رأيتُ‭ ‬جاراتي‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬يتكلمن،‭ ‬ويضحكن،‭ ‬لوحت‭ ‬لهنّ،‭ ‬ولم‭ ‬أتوقع‭ ‬لحظة‭ ‬أن‭ ‬فاجعة‭ ‬ستحل‭ ‬على‭ ‬الحي‭.  ‬كلمتني‭ ‬عمتي‭ ‬يومها؛‭ ‬لتحذرنا‭ ‬من‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬لخطورة‭ ‬منطقة‭ ‬جباليا،‭ ‬قلتُ‭ ‬إننا‭ ‬سنبقى‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬وعلّلتُ‭ ‬لها‭ ‬لتطمئن‭ ‬أنّ‭ ‬جيراننا‭ ‬في‭ ‬منزلهم،‭ ‬وإن‭ ‬رحلوا‭ ‬فسنرحل‭ ‬معهم‭. ‬يوم‭ ‬السبت‭: ‬وفيما‭ ‬نحن‭ ‬نستعد‭ ‬لتناول‭ ‬الإفطار،‭ ‬ارتجّ‭ ‬البيت‭ ‬بصاروخ‭ ‬قريب‭ ‬جدًّا،‭ ‬خرج‭ ‬الشباب‭ ‬لتفقد‭ ‬الحارة،‭ ‬سمعت‭ ‬صراخ‭ ‬إخوتي‭ ‬وهم‭ ‬يتصايحون‭ ‬بانهيار‭ ‬عمارة‭ ‬جيراننا‭ ‬التي‭ ‬تؤوي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مئتي‭ ‬شخص،‭ ‬في‭ ‬جريمة‭ ‬إبادة‭ ‬يندى‭ ‬لها‭ ‬جبين‭ ‬الإنسانية،‭ ‬صاروخ‭ ‬واحد‭ ‬كان‭ ‬كفيلًا‭ ‬بتحطيم‭ ‬عمارة‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬طوابق،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬طابق‭ ‬أربع‭ ‬شقق،‭ ‬فوق‭ ‬رؤوس‭ ‬ساكنيها‭. ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬طواقم‭ ‬الإنقاذ‭ ‬انتشالهم؛‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬معدات‭. ‬كان‭ ‬الشباب‭ ‬يحفرون‭ ‬بأيديهم،‭ ‬في‭ ‬محاولات‭ ‬يائسة‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬أحياء‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭. ‬

في‭ ‬مرمى‭ ‬النيران‭: ‬صواريخ‭ ‬

وقنص‭ ‬واقتحامات‭.. ‬ونزوح

في‭ ‬يوم‭ ‬الإثنين،‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬كانون‭ ‬الأول‭/‬ديسمبر،‭ ‬الساعة‭ ‬الواحدة‭ ‬والنصف‭ ‬منتصف‭ ‬الليل،‭ ‬اهتز‭ ‬الجوال،‭ ‬وصلتني‭ ‬رسالة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬عمتي‭ ‬النازحة‭ ‬في‭ ‬خيمة‭ ‬بجنوب‭ ‬غزة،‭ ‬تسألني‭ ‬عن‭ ‬حالنا،‭ ‬آثرتُ‭ ‬طلوع‭ ‬الصباح‭ ‬للاتصال،‭ ‬وإذ‭ ‬بصاروخين‭ ‬يهزان‭ ‬أرجاء‭ ‬البيت،‭ ‬غبارٌ‭ ‬كثيف‭ ‬يملأ‭ ‬المكان،‭ ‬وحجارة‭ ‬تتساقط،‭ ‬صرختُ،‭ ‬جريمة‭ ‬أخرى‭ ‬وقصف‭ ‬جديد‭ ‬لمربع‭ ‬سكني‭ ‬مجاور،‭ ‬وقعت‭ ‬بقايا‭ ‬الشبابيك‭ ‬فوقنا،‭ ‬وطارت‭ ‬الأبواب‭ ‬على‭ ‬أجسادنا،‭ ‬وتناثرت‭ ‬الحجارة‭ ‬علينا،‭ ‬ونجونا‭ ‬بأعجوبة،‭ ‬لا‭ ‬يصدق‭ ‬أحد‭ ‬أننا‭ ‬خرجنا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الغبار‭ ‬والدمار‭ ‬أحياء‭. ‬استُشهد‭ ‬جيراننا‭ ‬ودمرت‭ ‬أغلب‭ ‬مساكننا،‭ ‬وبقي‭ ‬الشباب‭ ‬حتى‭ ‬ساعات‭ ‬الصباح‭ ‬يفتشون‭ ‬عن‭ ‬الجثث‭ ‬تحت‭ ‬الركام،‭ ‬حاولوا‭ ‬إسعاف‭ ‬بعض‭ ‬المصابين،‭ ‬وفوجئوا‭ ‬برصاصٍ‭ ‬كثيف‭ ‬موجه‭ ‬عليهم؛‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬وقتها‭ ‬أن‭ ‬القوات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬قريبة‭ ‬منا‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭. ‬في‭ ‬الصباح،‭ ‬حاول‭ ‬أحد‭ ‬الجيران‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬محله،‭ ‬رصاصة‭ ‬أصابت‭ ‬جسده‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬بيتنا،‭ ‬وصرخ‭ ‬مستغيثًا‭ ‬بأخي‭ ‬لكي‭ ‬يسعفه،‭ ‬ومنه‭ ‬عرفنا‭ ‬بوجود‭ ‬قوة‭ ‬راجلة‭ ‬من‭ ‬جيش‭ ‬الاحتلال‭ ‬في‭ ‬الحي‭. ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬نختار‭ ‬بين‭ ‬الموت‭ ‬والتعذيب‭ ‬والاعتقال‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬أو‭ ‬النزوح‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬أقاربنا‭. ‬فتش‭ ‬الاحتلال‭ ‬بعدها‭ ‬بساعات‭ ‬منزلنا‭ ‬في‭ ‬المخيم،‭ ‬وأطلق‭ ‬رصاصه‭ ‬الحاقد‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فيه،‭ ‬وكسّر‭ ‬جنوده‭ ‬بغلّهم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬تحت‭ ‬أيديهم‭. ‬بدأ‭ ‬طريق‭ ‬النزوح،‭ ‬الرحلة‭ ‬التي‭ ‬رفضناها‭ ‬طيلة‭ ‬الحرب،‭ ‬وفي‭ ‬درب‭ ‬الوداع‭ ‬كانت‭ ‬القذائف‭ ‬الدخانية‭ ‬تلاحقنا،‭ ‬حتى‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬تابعة‭ ‬لوكالة‭ ‬‮«‬الأنروا‮»‬‭. ‬ركبنا‭ ‬بعدها‭ ‬على‭ ‬عربة‭ ‬يجرها‭ ‬حِمار‭ ‬نحو‭ ‬منزل‭ ‬قريبنا‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬جباليا،‭ ‬لكن‭ ‬القذائف‭ ‬المدفعية‭ ‬ضربت‭ ‬المنزل‭ ‬الذي‭ ‬نزحنا‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬المخيم،‭ ‬فاضطررنا‭ ‬للخروج‭ ‬منه‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬الثامن‭ ‬من‭ ‬كانون‭ ‬الأول‭/‬ديسمبر‭. ‬حاولنا‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬منزلنا‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬الرمال‭ ‬بمدينة‭ ‬غزة،‭ ‬لكن‭ ‬الاحتلال‭ ‬أطلق‭ ‬الرصاص‭ ‬المباشر‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬السرايا‭ ‬أمام‭ ‬المسجد،‭ ‬ومقابل‭ ‬مشفى‭ ‬الوفاء‭ ‬بقلب‭ ‬مدينة‭ ‬غزة‭. ‬تكرر‭ ‬إطلاق‭ ‬الرصاص‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬القناصة‭ ‬هناك،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬طائرة‭ ‬مسيرة‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬‮«‬كواد‭ ‬كابتر‮»‬‭ ‬أطلقت‭ ‬نيرانها‭ ‬الحاقدة‭ ‬علينا،‭ ‬وعلى‭ ‬جموع‭ ‬المارة‭ ‬من‭ ‬النازحين‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الجيش‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬قد‭ ‬دعا‭ ‬السكان‭ ‬إلى‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬الملاجئ،‭ ‬وحدد‭ ‬شارع‭ ‬الوحدة‭ ‬ممرًا‭ ‬آمنًا،‭ ‬لكنهم‭ ‬لم‭ ‬يتورعوا‭ ‬عن‭ ‬قصف‭ ‬السكان‭ ‬فيه‭. ‬ذهبت‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬جدي‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬الشيخ‭ ‬رضوان،‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬وجودنا‭ ‬هناك‭ ‬عرفنا‭ ‬باقتحام‭ ‬الاحتلال‭ ‬منزلنا،‭ ‬وتفتيشه‭ ‬وتخريبه‭ ‬وتكسيره،‭ ‬مع‭ ‬حرق‭ ‬وتدمير‭ ‬لمعظم‭ ‬البيوت‭ ‬في‭ ‬الحارة‭. ‬

وحش‭ ‬يترصدنا

خرجت‭ ‬من‭ ‬المخيم‭ ‬أسبوعًا‭ ‬واحدًا،‭ ‬وعدت‭ ‬إليه‭ ‬وصرتُ‭ ‬بعدها‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬غريبا‮»‬‭ ‬الفتاة‭ ‬الأمازيغية‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬الأسطورة‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬جبال‭ ‬الأوراس،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬ترج‭ ‬أساورها‭ ‬ليعرف‭ ‬والدها‭ ‬‮«‬بابا‭ ‬إينوفا‮»‬‭ ‬بأنها‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬يطرق‭ ‬الباب‭ ‬وليس‭ ‬وحش‭ ‬الغابة‭. ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬ليلة‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نواجه‭ ‬غولًا‭ ‬يكبرُ‭ ‬في‭ ‬وجهنا،‭ ‬ويلاحقنا‭ ‬في‭ ‬أحلامنا،‭ ‬ولا‭ ‬مناص‭ ‬من‭ ‬مقاومته‭ ‬بأظافرنا‭.  ‬تتأجج‭ ‬نارٌ‭ ‬من‭ ‬الغضب‭ ‬في‭ ‬صدري،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تقيني‭ ‬برد‭ ‬الشتاء،‭ ‬أتلحف‭ ‬الأغطية‭ ‬وأرتجف‭ ‬بردًا‭ ‬ورعباً‭.‬

لا‭ ‬أنيس‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬الحارة،‭ ‬كل‭ ‬البيوت‭ ‬داستها‭ ‬أحذية‭ ‬الجنود؛‭ ‬للتفتيش‭ ‬عن‭ ‬المطلوبين،‭ ‬أو‭ ‬السلاح،‭ ‬أو‭ ‬الرجال،‭ ‬ثمّ‭ ‬كسّرت‭ ‬مع‭ ‬سبق‭ ‬الإصرار‭ ‬والترصد‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬المنازل،‭ ‬وبكل‭ ‬ما‭ ‬أوتوا‭ ‬من‭ ‬غضبٍ‭ ‬وانتقام‭ ‬حرقوا‭ ‬البيوت‭ ‬الواقفة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬طائراتهم‭ ‬الحربية‭ ‬تدميرها،‭ ‬ولم‭ ‬تتمكن‭ ‬دباباتهم‭ ‬من‭ ‬حصد‭ ‬أهلها‭ ‬المظلومين‭. ‬انقطع‭ ‬التواصل‭ ‬بشكل‭ ‬كامل،‭ ‬وحوصر‭ ‬شمال‭ ‬غزة،‭ ‬وأُطبق‭ ‬الحصار‭ ‬على‭ ‬جباليا‭ ‬تحديدًا،‭ ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬نعلم‭ ‬أي‭ ‬خبر‭ ‬عن‭ ‬أقاربنا‭. ‬لم‭ ‬نستطع‭ ‬الاتصال‭ ‬بأحد،‭ ‬حتى‭ ‬وصلتنا‭ ‬رسالة‭ ‬مكتوبة‭ ‬بخط‭ ‬اليد‭ ‬من‭ ‬مشفى‭ ‬الشفاء،‭ ‬وفيها‭ ‬يذكر‭ ‬صاحب‭ ‬الأمانة‭ ‬أنّ‭ ‬الاحتلال‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينسحب‭ ‬من‭ ‬حي‭ ‬الرمال،‭ ‬حرق‭ ‬العمارة‭ ‬التي‭ ‬نملك‭ ‬فيها‭ ‬شقتنا‭ ‬السكنية،‭ ‬ولم‭ ‬نسكنها‭ ‬سوى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬إسقاطهم‭ ‬صاروخاً،‭ ‬اخترق‭ ‬شقتنا‭ ‬وشقق‭ ‬الجيران،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬ينفجر‭ ‬في‭ ‬العمارة‭. ‬ننتظر‭ ‬الدفاع‭ ‬المدني‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يسحب‭ ‬المتفجرات‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭. ‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬فُك‭ ‬الحصار‭ ‬عن‭ ‬المخيم،‭ ‬استطعنا‭ ‬التواصل‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت،‭ ‬وصلتنا‭ ‬صورة‭ ‬لوالدي،‭ ‬أختي‭ ‬الصغيرة‭ ‬لم‭ ‬تعرفه،‭ ‬قالت‭: ‬من‭ ‬هذا؟‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الأطفال‭ ‬يعرفون‭ ‬آباءهم؛‭ ‬لأن‭ ‬آباءهم‭ ‬شابوا‭. ‬ماذا‭ ‬فعلنا‭ ‬كي‭ ‬نخسر‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الخسارات؟

 

{‭ ‬الدكتورة‭ ‬هيا‭ ‬فريج‭ ‬باحثة‭ ‬فلسطينية‭ ‬من‭ ‬غزة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا