العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

قضايا و آراء

التطرف الصهيوني والمأزق الأمريكي في الشرق الأوسط

بقلم: د. حسن نافعة {

الثلاثاء ٢٠ فبراير ٢٠٢٤ - 02:00

تبنّي‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬برهان،‭ ‬فمن‭ ‬المسلّم‭ ‬به‭ ‬أنها‭ ‬أنقذته‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬مفصلية‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬تطوره،‭ ‬ولولاها‭ ‬لما‭ ‬أمكن،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر،‭ ‬تمرير‭ ‬قرار‭ ‬الجمعية‭ ‬العامة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬بتقسيم‭ ‬فلسطين‭ ‬عام‭ ‬1947،‭ ‬والذي‭ ‬استند‭ ‬إليه‭ ‬إعلان‭ ‬قيام‭ ‬‮«‬الدولة‭ ‬اليهودية‮»‬‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬14‭ ‬مايو‭ ‬1948‭.‬

أسباب‭ ‬هذا‭ ‬التبني‭ ‬معروفة‭ ‬للكافة،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬موضع‭ ‬خلاف‭ ‬يذكر‭ ‬بين‭ ‬الباحثين،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الخلاف‭ ‬مازال‭ ‬محتدماً‭ ‬بين‭ ‬الباحثين‭ ‬بشأن‭ ‬المدى‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إليه‭ ‬هذا‭ ‬التبني،‭ ‬أي‭ ‬حول‭ ‬طبيعة‭ ‬وحدود‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتطابق‭ ‬مصالحه‭ ‬مع‭ ‬مصالح‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أو،‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬ترى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أن‭ ‬دعمه‭ ‬لا‭ ‬يشكل‭ ‬عبئا‭ ‬استراتيجيا‭ ‬عليها‭.‬

فحتى‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬مضت،‭ ‬كان‭ ‬بمقدور‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬أن‭ ‬تتأقلم‭ ‬باستمرار‭ ‬مع‭ ‬طموحات‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني،‭ ‬ومع‭ ‬تحولات‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬جموح‭ ‬هذه‭ ‬الطموحات‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬وصول‭ ‬اليمين‭ ‬الديني‭ ‬المتطرف‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬بات‭ ‬يشكل‭ ‬عبئاً‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تحمّله‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬المرحلة‭ ‬الحالية‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬تطور‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬والتي‭ ‬تتسم‭ ‬باشتداد‭ ‬المنافسة‭ ‬الكونية‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬روسيا‭ ‬والصين،‭ ‬وتلك‭ ‬مسألة‭ ‬مهمة‭ ‬لم‭ ‬تحظ‭ ‬بعد‭ ‬بما‭ ‬تستحقه‭ ‬من‭ ‬نقاش‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬والجيوسياسي‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬حين‭ ‬راحت‭ ‬تهيئ‭ ‬نفسها‭ ‬للعب‭ ‬دور‭ ‬كوني‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬عالمي‭ ‬ثنائي‭ ‬القطبية‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬أن‭ ‬تضبط‭ ‬علاقاتها‭ ‬بأطراف‭ ‬الصراع‭ ‬العربي‭-‬الإسرائيلي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬هدنة‭ ‬1949،‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الأهداف‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬التي‭ ‬سعت‭ ‬لتحقيقها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬احتواء‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬ومحاصرة‭ ‬نفوذه‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تطويقه‭ ‬بسلسلة‭ ‬من‭ ‬الأحلاف‭ ‬العسكرية‭.‬

ولأن‭ ‬موسكو‭ ‬سارعت‭ ‬إلى‭ ‬الاعتراف‭ ‬بـ«الدولة‮»‬‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬فور‭ ‬إعلان‭ ‬قيامها‭ ‬عام‭ ‬1948،‭ ‬فقد‭ ‬تصورت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أن‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬احتواء‭ ‬النفوذ‭ ‬السوفيتي‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬تتوقف‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬التوسط‭ ‬لإيجاد‭ ‬تسوية‭ ‬للصراع‭ ‬العربي‭ ‬‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬بالطرق‭ ‬السلمية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حاولته‭ ‬فعلاً‭ ‬مع‭ ‬مصر‭ ‬الناصرية‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬1953‭-‬1955‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ميلها‭ ‬الطبيعي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬حال‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬لعب‭ ‬دور‭ ‬الوسيط‭ ‬النزيه،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬فشلها‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الهدفين‭ ‬معاً،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬تسوية‭ ‬الصراع‭ ‬العربي‭ ‬‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬واحتواء‭ ‬النفوذ‭ ‬السوفيتي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬واضحاً‭ ‬عقب‭ ‬إقدام‭ ‬مصر‭ ‬على‭ ‬إبرام‭ ‬صفقة‭ ‬الأسلحة‭ ‬التشيكية‭ ‬عام‭ ‬1955‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬تصاعد‭ ‬المد‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭ ‬بقيادة‭ ‬مصر‭ ‬الناصرية‭ ‬فرض‭ ‬على‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ضرورة‭ ‬توخي‭ ‬الحذر‭ ‬في‭ ‬علاقتها‭ ‬بـ«إسرائيل‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تجلى‭ ‬بوضوح‭ ‬إبان‭ ‬أزمة‭ ‬السويس‭ ‬عام‭ ‬1956،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فقد‭ ‬شهدت‭ ‬العلاقات‭ ‬الأمريكية‭ -‬العربية‭ ‬بعض‭ ‬التحسن‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬أزمة‭ ‬السويس‭ ‬وحتى‭ ‬قرب‭ ‬منتصف‭ ‬الستينيات‭.‬

حينها،‭ ‬بدت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬الظهور‭ ‬بمظهر‭ ‬الحليف‭ ‬الرئيسي‭ ‬لـ«إسرائيل‮»‬،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يمنعها‭ ‬من‭ ‬تشجيع‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬على‭ ‬تلبية‭ ‬كل‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬من‭ ‬السلاح‭ ‬الغربي،‭ ‬لكن‭ ‬العلاقات‭ ‬الأمريكية‭ ‬‭ ‬العربية‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬عادت‭ ‬إلى‭ ‬التوتر‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬عقب‭ ‬مصرع‭ ‬الرئيس‭ ‬جون‭ ‬كيندي‭ ‬وتولي‭ ‬جونسون‭ ‬السلطة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬ذروة‭ ‬توترها‭ ‬إبان‭ ‬حرب‭ ‬67‭ ‬التي‭ ‬انحازت‭ ‬فيها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بشكل‭ ‬مطلق‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬حرب‭ ‬67،‭ ‬بما‭ ‬أسفرت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬جيوسياسية‭ ‬بالغة‭ ‬الخطورة،‭ ‬شكلت‭ ‬نقطة‭ ‬تحول‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العلاقات‭ ‬الأمريكية‭ ‬الإسرائيلية‭. ‬فقد‭ ‬عدّت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الانتصار‭ ‬الذي‭ ‬حققته‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬انتصاراً‭ ‬للسلاح‭ ‬الغربي‭ ‬على‭ ‬السلاح‭ ‬السوفيتي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يؤهل‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬للعب‭ ‬دور‭ ‬الحليف‭ ‬الأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬كبح‭ ‬جماح‭ ‬النفوذ‭ ‬السوفيتي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬الانتصار‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬1973‭ ‬تحقق‭ ‬باستخدام‭ ‬سلاح‭ ‬سوفيتي،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬سعى‭ ‬لاحتواء‭ ‬نتائج‭ ‬هذا‭ ‬الانتصار،‭ ‬حين‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬السادات‭ ‬بأن‭ ‬بوسع‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬أن‭ ‬يقدّم‭ ‬سلاحاً‭ ‬للعرب‭ ‬لن‭ ‬يحقق‭ ‬لهم‭ ‬النصر‭ ‬الكامل‭ ‬على‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬فهي‭ ‬الدولة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬يمكنها‭ ‬المساعدة‭ ‬في‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬تسوية‭ ‬متوازنة،‭ ‬محققاً‭ ‬بذلك‭ ‬أهم‭ ‬اختراق‭ ‬استراتيجي‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬منذ‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭.‬

فبعد‭ ‬حرب‭ ‬73‭ ‬تراجع‭ ‬النفوذ‭ ‬السوفياتي‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬ثم‭ ‬راح‭ ‬يتراجع‭ ‬بمعدلات‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬متفرقة‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اختفى‭ ‬نهائياً‭ ‬مع‭ ‬تفكك‭ ‬وانهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬التسعينيات،‭ ‬ما‭ ‬مكّن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬ولأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬تاريخها،‭ ‬من‭ ‬الهيمنة‭ ‬المنفردة‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭.‬

بوسع‭ ‬كل‭ ‬متأمل‭ ‬لمسار‭ ‬العلاقات‭ ‬الأمريكية‭ ‬‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬اتسم‭ ‬بوجود‭ ‬ظاهرتين‭ ‬متوازيتين‭ ‬في‭ ‬التوقيت‭ ‬ومتناقضتين‭ ‬في‭ ‬النتائج،‭ ‬الأولى‭: ‬ترسخ‭ ‬الاعتقاد‭ ‬لدى‭ ‬الإدارات‭ ‬الأميركية‭ ‬المتعاقبة‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحقق‭ ‬مصلحة‭ ‬لـ«إسرائيل‮»‬‭ ‬ينطوي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬مصلحة‭ ‬أمريكية‭ ‬مؤكدة،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬تسابق‭ ‬الرؤساء‭ ‬الأمريكيين‭ ‬على‭ ‬خدمة‭ ‬المصالح‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬أولاً،‭ ‬والاستجابة‭ ‬بشكل‭ ‬أعمى‭ ‬لكل‭ ‬مطالبها‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬النخبة‭ ‬الحاكمة‭ ‬في‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭.‬

الثانية‭: ‬تحول‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬تدريجياً‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬يميني‭ ‬متطرف‭ ‬يسعى‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل‭ ‬المتاحة‭ ‬لتصفية‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬تسويتها،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬شكله‭ ‬الحالي‭ ‬كنظام‭ ‬فصل‭ ‬عنصري‭ ‬توسعي‭ ‬استيطاني‭ ‬يرفض‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المبدأ‭ ‬كفالة‭ ‬حق‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬مصيره،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إلى‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭.‬

الآن،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬استمرار‭ ‬الانحياز‭ ‬الأمريكي‭ ‬المطلق‭ ‬لـ«إسرائيل‮»‬،‭ ‬والذي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬ذرى‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬بات‭ ‬على‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أن‭ ‬تقرر‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬بمقدورها‭ ‬تحمل‭ ‬النتائج‭ ‬المترتبة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الانحياز‭ ‬الأعمى‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تحولات‭ ‬عميقة‭ ‬طرأت‭ ‬مؤخراً‭ ‬على‭ ‬النظامين‭ ‬العالمي‭ ‬والشرق‭ ‬أوسطي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تفرض‭ ‬عليها‭ ‬إدخال‭ ‬تعديلات‭ ‬جوهرية‭ ‬على‭ ‬سياستها‭ ‬الشرق‭ ‬أوسطية‭ ‬إذا‭ ‬أرادت‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بما‭ ‬تبقى‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬وفي‭ ‬العالم‭.‬

ولأن‭ ‬إدارة‭ ‬بايدن‭ ‬بدأت‭ ‬تشعر‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بمقدورها‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬دفع‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬ترشيد‭ ‬سياساتها،‭ ‬فقد‭ ‬بدأت‭ ‬قطاعات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬النخبة‭ ‬الأمريكية‭ ‬تشعر‭ ‬بعمق‭ ‬المأزق‭ ‬الذي‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬بسبب‭ ‬سياستها‭ ‬المنحازة‭ ‬لـ«إسرائيل‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬أصبحت‭ ‬تتناقض‭ ‬بشكل‭ ‬صارخ‭ ‬مع‭ ‬المصالح‭ ‬القومية‭ ‬الأميركية‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬حرص‭ ‬إدارة‭ ‬بايدن‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬دعم‭ ‬غير‭ ‬مشروط‭ ‬لـ«إسرائيل‮»‬،‭ ‬عقب‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬،‭ ‬بالأمر‭ ‬المستغرب،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يشي‭ ‬سياق‭ ‬الأحداث‭ ‬اللاحقة‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬الإدارة‭ ‬بنت‭ ‬حساباتها‭ ‬على‭ ‬افتراض‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الجيش‮»‬‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬سيتمكن‭ ‬من‭ ‬تدمير‭ ‬حركة‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬وإسقاط‭ ‬حكمها‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬وتحرير‭ ‬الأسرى‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬وجيزة،‭ ‬ما‭ ‬دفعها‭ ‬إلى‭ ‬القيام‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬وسعها‭ ‬لمساعدة‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬على‭ ‬بلوغ‭ ‬تلك‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬اعتقدت‭ ‬أنها‭ ‬تحقق‭ ‬مصالحها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬انتهاز‭ ‬الفرصة‭ ‬لوضع‭ ‬الخطط‭ ‬اللازمة‭ ‬لإدارة‭ ‬‮«‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬حماس‮»‬‭.‬

اليوم،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأهداف،‭ ‬رغم‭ ‬مرور‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬أشهر،‭ ‬بل‭ ‬وارتكبت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬أعمال‭ ‬إبادة‭ ‬جماعية‭ ‬ضد‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬وضعتها‭ ‬في‭ ‬قفص‭ ‬الاتهام‭ ‬وأصبحت‭ ‬تحاكم‭ ‬بموجبها‭ ‬أمام‭ ‬محكمة‭ ‬العدل‭ ‬الدولية‭.‬

ولأن‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬المسؤولين‭ ‬الأميركيين،‭ ‬على‭ ‬رأسهم‭ ‬بايدن‭ ‬نفسه،‭ ‬شاركوا‭ ‬بأنفسهم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬اجتماعات‭ ‬مجلس‭ ‬الحرب‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬المستبعد‭ ‬أن‭ ‬توجه‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬رسمياً‭ ‬تهمة‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬ارتكاب‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬فضيحة‭ ‬أخلاقية‭ ‬وقانونية‭ ‬وسياسية‭.‬

فإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدم‭ ‬أن‭ ‬سياسة‭ ‬الدعم‭ ‬غير‭ ‬المشروط‭ ‬لـ‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬انخراط‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬حالياً‭ ‬في‭ ‬عمليات‭ ‬عسكرية‭ ‬مباشرة‭ ‬مع‭ ‬أطراف‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬سورية‭ ‬وعراقية‭ ‬ويمنية‭ ‬ولبنانية‭ ‬وغيرها،‭ ‬ما‭ ‬يهدد‭ ‬باندلاع‭ ‬حرب‭ ‬إقليمية‭ ‬شاملة‭ ‬ربما‭ ‬تشارك‭ ‬فيها‭ ‬إيران‭ ‬وربما‭ ‬تمتد‭ ‬لتشمل‭ ‬أطرافاً‭ ‬أخرى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يريده‭ ‬الشعب‭ ‬الأميركي‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال،‭ ‬لتبين‭ ‬لنا‭ ‬عمق‭ ‬المأزق‭ ‬الذي‭ ‬تواجهه‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الحالية‭.‬

لم‭ ‬تجرؤ‭ ‬إدارة‭ ‬بايدن‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬تطلب‭ ‬من‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬وقف‭ ‬عملياتها‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬لأنها‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬سيؤدي‭ ‬حتماً‭ ‬إلى‭ ‬انتصار‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬وتمكينها‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬القطاع،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ترفضه‭ ‬بالمطلق‭ ‬وتتفق‭ ‬فيه‭ ‬كلياً‭ ‬مع‭ ‬حكومة‭ ‬نتنياهو‭.‬

غير‭ ‬أنها‭ ‬تدرك‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬استحالة‭ ‬عودة‭ ‬الأوضاع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬قبل‭ ‬اندلاع‭ ‬عملية‭ ‬الطوفان،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تعتقد‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬منح‭ ‬حكومة‭ ‬نتنياهو‭ ‬ما‭ ‬تحتاج‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬حماس‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬هدن‭ ‬إنسانية،‭ ‬مع‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬دولة‭ ‬فلسطينية‭ ‬منزوعة‭ ‬السلاح‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬مضافاً‭ ‬إليها‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬شريطة‭ ‬أن‭ ‬تحكمهما‭ ‬معاً‭ ‬سلطة‭ ‬فلسطينية‭ ‬مجددة‭ ‬وأكثر‭ ‬فاعلية‭.‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬بايدن‭ ‬يسعى‭ ‬حالياً‭ ‬لتقديم‭ ‬إغراءات‭ ‬لنتنياهو‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬قبول‭ ‬حل‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الحلول‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬قابلاً‭ ‬للتطبيق‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬وسيقابل‭ ‬بالرفض‭ ‬حتماً،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬حكومة‭ ‬نتنياهو‭ ‬المتطرفة‭ ‬فحسب‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الفصائل‭ ‬والقوى‭ ‬الحية‭ ‬في‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭.‬

لذا،‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬ستظل‭ ‬عالقة‭ ‬برقبة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يغوصا‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬رمال‭ ‬غزة،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تحوّلت‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬تشاركان‭ ‬فيها‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن،‭ ‬والتي‭ ‬يتسع‭ ‬نطاقها‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬إقليمية‭ ‬شاملة،‭ ‬وهو‭ ‬الاحتمال‭ ‬الذي‭ ‬يزداد‭ ‬ترجيحا‭ ‬مع‭ ‬استمرار‭ ‬العدوان‭.‬

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية

‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا