زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
أبو شلاخ البرمائي (1)
تواصلت معي أكثر من مرة قارئة لمست فيها سعة الاطلاع، وسداد الرأي ودقة وصحة العبارة، وسألتني عن بعض الأدبيات الساخرة فاقترحت عليها رواية له أصدرها الحبيب الراحل د. غازي القصيبي، رحمه الله، هي «أبو شلاخ البرمائي»، وعنّ لي ان اتطرق اليوم إلى هذه الرواية، والشلاخ هو الكذاب المحترف وكذبه مصحوب بنفخات كاذبة «فعلت وسويت وتعشيت ويا الوزير وقلت له بصراحة كيت وكيت»، مع أن حلم الشلاخ قد يكون مصادقة سائق عربة أي وزير، وعلى غلاف الكتاب شخص أنيق الملبس يجلس على كرسي فخم، ولكن الشخص بدون رأس (وهنا رمزية تكاد تكون تقريرية وعندما نقول في العامية إن شخصا بدون رأس فإننا نقصد أنه يفتقر إلى المخ/العقل).
ورغم أن القصيبي وصف «أبو شلاخ البرمائي» بأنها رواية، فإن القصيبي استطاع من خلالها أن يقول رأيه في العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، مستترا وراء المجني عليه أبي شلاخ الذي مارس القصيبي من خلاله الشلخ، وهو الكذب الجسيم والمبالغة، تفادياً للمباشرة والتقريرية الفجة.
يبدأ القصيبي روايته بكذبة بلقاء عن مولد أبي شلاخ بعد أن سحبته القابلة/الداية من يده، بدلا من رأسه، ولم يحدد القصيبي سنة الميلاد، لأن التلاعب بالتاريخ والجغرافيا وقوانين الطبيعة هو جوهر التشليخ القصيبي، فالمؤلف سافر بأبي شلاخ إلى الماضي ثم عاد به إلى المستقبل، مستخدماً أدوات لم تكن قد اختُرعت، ليلتقي بهتلر والرئيس الأمريكي الأسبق جونسون وغيرهما، ويلعن أبو شلاخ سنسفيلنا بلا هوادة ولكن بغير إقذاع، ذلك ان القصيبي ساخر مطبوع تحدثا ونثرا وشعرا، ولم تفلح قيود المناصب الوزارية في لجم لسانه، ولعل أقذع النقد الاجتماعي في الكتاب هو الذي بذله عبر وقائع سريالية، عن مسألة العمالة الوافدة ونظام الكفيل والخادمات الآسيويات والعصبية القبلية والأسرية.
ومن أجمل إشراقات أبي شلاخ أنه استغل ولع الناس بالأصل والفصل، وأقام شركة لإعداد وتسويق أشجار الأنساب، وقد أعجبتني الفكرة، لأن بعض أهل السودان يعايرونني وأهلي النوبيين بعدم الانتماء إلى «أشراف» العرب، وبما أنني جعفر بن عباس بن السيد بن أحمد وأخواتي يحملن اسماء ذات دلالات تاريخية وشقيقي الأكبر زين العابدين، فإن ذلك يؤهلني لإنتاج شجرة عائلة، تمتد عروقها في تربة الحجاز (بس اللون مشكلة!)
وأعتقد ان القيمة الكبرى لـ«أبو شلاخ البرمائي» هي كونه أول عمل أدبي ساخر بالكامل في قالب روائي في تاريخ الأدب العربي (لا مجال للمقارنة بمؤلفات الجاحظ لأنها رصد سردي في معظمها، لأحوال عصره وناس وبهائم ذلك العصر، ولا بأعمال القصيبي الأخرى التي لا تقوم كليا على السخرية)، وقد نجح القصيبي في إضفاء الترابط على تشليخاته التي رمى بها يعقوب أبو شلاخ وانسل، بأن جعل هناك خيطاً رفيعاً كخيط المسبحة، يشد الوقائع إلى بعضها، فهناك «وديعة روزفلت» الرئيس الأمريكي الأسبق الذي كان يستعين بأبي شلاخ في الملمات، ومن ثم أوصى خلفاءه به خيرا، وهكذا أصبح في مقدور أبي شلاخ ان يزور الولايات المتحدة في مختلف العهود، ناصحا ومحللا وناقدا، وبذلك نجح القصيبي في إقناع جون كينيدي بأن يعمل في شركة وكمارا وهي ارامكو (قلب حروفها)، وبذلك تسنى له ان يربط الأحداث المحلية بالعالمية، فخلق بالتشليخ عالما بهيا من الفنتازيا.
وبرغم ان الكتاب يقوم على الشلخ الذي هو الكذب والمبالغة كما أسلفنا، فإن جوهره ابعد ما يكون عن الشلخ، فالقصيبي استغل مولده ونشأته في أعوام الرمادة، حين كان حال عرب الجزيرة يحنن قلب الكافر، ومعاصرته للتحولات الكبرى التي أحدثتها الطفرة النفطية، في السعودية وجاراتها، لتشريح أحداث الحقبتين مستعيناً بخبراء أفذاذ من «تأليفه وإخراجه»، وأدهشني أن الرجل الذي قرأت اكثر من مقال صحفي يصفه بأنه صنيعة للغرب رصد بدقة شديدة الوقائع التي تثبت مدى تآمر الغرب على الشعوب المستضعفة، وكال لأمريكا النقد بالطن المتري، وحسبت قبل ان اكمل الكتاب ان القصيبي كادر شيوعي سري، وخاصة ان هناك قواسم فسيولوجية مشتركة بينه وبين غورباتشوف، (الهيكل العام والصلعة البهية).
فعندما التقى متخفيا بطاقية أبي شلاخ بالمناضل الفيتنامي الجسور هوشي منه كان واضحاً انه يكن احتراماً بلا حدود للرجل، ومعركته ضد الوجود الأمريكي في جنوب فيتنام، وحدث نفس الشيء عندما قابل ارنستو تشي غيفارا، ذلك الثوري الحالم، وكاد القصيبي ينشد مع أحمد فؤاد نجم: غيفارا مات يا انتيكات... يا دفيانين ومولعين الدفايات.. يا بتوع نضال آخر زمن في العوامات... ولكن يبدو أن الذي حال بين القصيبي والانضمام إلى الحركة الشيوعية هو ما عاناه أبو شلاخ في السجن في كوبا، وخيبة أمله في الزعيم الصيني الراحل ماوتسي تونغ، الذي سكر و«لبخ» كلما تحركت الصين نحو الغنى، ودشن «ثورة ثقافية» تعيدها إلى الفقر.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك