زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عملٌ منسيٌّ للطيب صالح (2)
حظيت روايات الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال، وعرس الزين، وبندر شاه، إلى جانب المجموعة القصصية «دومة ود حامد»، برواج مستحق، لكونها متقنة الحبك والسبك، وتحلق بالقارئ في فضاء وسط بين الحقيقة والخيال، ولكن كتابا آخر صدر له، لم يجد ما يستحق من ذيوع ربما لصعوبة تصنيفه كجنس أدبي، هذا الكتاب هو «منسي، شخص النادر على طريقته الخاصة»، كما وصفه الطيب صالح في باكورة سلسلة كتب تحمل اسم (مختارات الطيب صالح)، ومنسي هذا من ذلك النوع من البشر الذي يجعلك تتحسر لكونك لم تكن تعرفه ولم تكن من بين أصدقائه. نعم كان «سبهلليا وفوضويا»، ولا يأخذ الدنيا بجدية، ولكنه كان يحمل فيروس الفرح والمرح المعدي، فما حل في مكان إلا وأصاب الجالسين فيه بتقلصات في الأمعاء من فرط الضحك.
ورغم أن الطيب صالح عايشه على مدى عشرات السنين إلا أنه لا يجزم بأنه يعرف اسمه الأصلي، فهو في مكان ما معروف باسم جوزيف، وفي غيره باسم أحمد أو يوسف، أو مايكل أو بسطاوروس، فقد اعتنق الإسلام بطريقته الخاصة، وأنشأ إذاعة إسلامية في الولايات المتحدة، ولكنه نسي أن يدخل بعض عياله الإسلام. وعاش منسي في لندن على الكفاف، وعندما مات ترك خلفه الملايين في بريطانيا والولايات المتحدة، ومن عجيب ما يحكيه الطيب عن منسي هذا أنه لم يكن حاضرا وفاته، وما أن سمع بالخبر حتى اتصل بأحد أولاده مقدما التعازي، وسأله عن موعد دفن الجثمان، فقال له ابن الفقيد إنه لن يكون هناك دفن بل سيتم حرق الجثمان، وجادله الطيب بأن الرجل مات مسلما ولابد أن يدفن في مقابر المسلمين، ولكن الابن قال إنه «ما عنده خبر عن إسلام أبيه الراحل». ثم أجرى الطيب صالح اتصالات ببعض الأطراف في السعودية، ثم السفارة السعودية في لندن، وتم تدارك الأمر ودفنه بعد أداء صلاة الجنازة عليه في مقابر المسلمين، وبعدها سمع الطيب أن أهل منسي أقاموا قداسا على روحه في كنيسة في مصر.
هكذا عاش منسي بقلب مفتوح ولكنه ظل لغزا. ويؤكد الطيب صالح أن منسي أسلم بقرار ذاتي أي دون أن يحثه أحد على ذلك، بل إنه كان دائم الاستشهاد بالقرآن والحديث قبل أن يعتنق الإسلام بسنوات، ورغم أن الطيب كان بمثابة «الأب القدوة» لمنسي، إلا أن الأخير أوقعه في مشكلات بلا حصر، بل لعب دورا كبيرا في إنهاء علاقة الطيب صالح بهيئة الإذاعة البريطانية، فقد كان الطيب وأسرة الإذاعة يسندون إليه أدوارا صغيرة في المسرحيات الإذاعية ليكسب منها ما يعينه على متطلبات الحياة، وذات مرة انعقد مجلس محاسبة للطيب بعد أن أتضح أن منسي تقاضى مبالغ كبيرة لا يستحقها، مقابل دوره في المسرحيات، فما لم يكن يعرفه الطيب هو أن منسي كان موظفا في نفس هيئة الإذاعة (بي بي سي). بل كان يشغل وظيفتين فيها باسمين مختلفين، بل كان في الوقت نفسه مدرسا للغة الإنجليزية في مدرسة في لندن باسم ثالث. ولكنه تقاضى أجورا بوصفه من خارج الإذاعة، ورغم ذلك لم تنقطع المودة بين الرجلين.
ولا يريد الطيب صالح من القارئ أن يخرج بانطباع بأن منسي هذا جشع، بالعكس فهناك في الكتاب حكايات كثيرة عن كرمه وحرصه على الوقوف مع الضعفاء بالمال والتشجيع المعنوي، ورغم العديد من الحكايات التي يسرد فيها الطيب صالح المواقف المحرجة التي أوقعه فيها منسي إلا أنك لا تملك إلا أن تحب الرجل على علاته.
ذات مرة رافق الطيب صالح الذي كان في مهمة رسمية إلى بيروت، أيام عمله في اليونسكو، وفي المطار فتح موظفو الجمارك صندوقين ضخمين يحملان اسم الطيب وكانت فيهما كميات ضخمة من الملابس النسائية الداخلية، واتضح أن منسي استغل حقيقة أن بعثة دبلوماسية ستستقبل الطيب فقرر الاستفادة من (الحصانة الدبلوماسية) لتهريب تلك الملابس باسمه.. ليس حبا في النقود بل حبا في (الفهلوة).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك