العدد : ١٦٨٤٥ - الاثنين ٠٦ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤٥ - الاثنين ٠٦ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ شوّال ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عملٌ منسيٌّ للطيب صالح (2)

حظيت‭ ‬روايات‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال،‭ ‬وعرس‭ ‬الزين،‭ ‬وبندر‭ ‬شاه،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬المجموعة‭ ‬القصصية‭ ‬‮«‬دومة‭ ‬ود‭ ‬حامد‮»‬،‭ ‬برواج‭ ‬مستحق،‭ ‬لكونها‭ ‬متقنة‭ ‬الحبك‭ ‬والسبك،‭ ‬وتحلق‭ ‬بالقارئ‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬وسط‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والخيال،‭ ‬ولكن‭ ‬كتابا‭ ‬آخر‭ ‬صدر‭ ‬له،‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬من‭ ‬ذيوع‭ ‬ربما‭ ‬لصعوبة‭ ‬تصنيفه‭ ‬كجنس‭ ‬أدبي،‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬‮«‬منسي،‭ ‬شخص‭ ‬النادر‭ ‬على‭ ‬طريقته‭ ‬الخاصة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬وصفه‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬باكورة‭ ‬سلسلة‭ ‬كتب‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ (‬مختارات‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭)‬،‭ ‬ومنسي‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬الذي‭ ‬يجعلك‭ ‬تتحسر‭ ‬لكونك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعرفه‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أصدقائه‭. ‬نعم‭ ‬كان‭ ‬‮«‬سبهلليا‭ ‬وفوضويا‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬يأخذ‭ ‬الدنيا‭ ‬بجدية،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬فيروس‭ ‬الفرح‭ ‬والمرح‭ ‬المعدي،‭ ‬فما‭ ‬حل‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬إلا‭ ‬وأصاب‭ ‬الجالسين‭ ‬فيه‭ ‬بتقلصات‭ ‬في‭ ‬الأمعاء‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬الضحك‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬عايشه‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عشرات‭ ‬السنين‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يجزم‭ ‬بأنه‭ ‬يعرف‭ ‬اسمه‭ ‬الأصلي،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬معروف‭ ‬باسم‭ ‬جوزيف،‭ ‬وفي‭ ‬غيره‭ ‬باسم‭ ‬أحمد‭ ‬أو‭ ‬يوسف،‭ ‬أو‭ ‬مايكل‭ ‬أو‭ ‬بسطاوروس،‭ ‬فقد‭ ‬اعتنق‭ ‬الإسلام‭ ‬بطريقته‭ ‬الخاصة،‭ ‬وأنشأ‭ ‬إذاعة‭ ‬إسلامية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬ولكنه‭ ‬نسي‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬بعض‭ ‬عياله‭ ‬الإسلام‭. ‬وعاش‭ ‬منسي‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬على‭ ‬الكفاف،‭ ‬وعندما‭ ‬مات‭ ‬ترك‭ ‬خلفه‭ ‬الملايين‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬ومن‭ ‬عجيب‭ ‬ما‭ ‬يحكيه‭ ‬الطيب‭ ‬عن‭ ‬منسي‭ ‬هذا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حاضرا‭ ‬وفاته،‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬سمع‭ ‬بالخبر‭ ‬حتى‭ ‬اتصل‭ ‬بأحد‭ ‬أولاده‭ ‬مقدما‭ ‬التعازي،‭ ‬وسأله‭ ‬عن‭ ‬موعد‭ ‬دفن‭ ‬الجثمان،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬ابن‭ ‬الفقيد‭ ‬إنه‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬دفن‭ ‬بل‭ ‬سيتم‭ ‬حرق‭ ‬الجثمان،‭ ‬وجادله‭ ‬الطيب‭ ‬بأن‭ ‬الرجل‭ ‬مات‭ ‬مسلما‭ ‬ولابد‭ ‬أن‭ ‬يدفن‭ ‬في‭ ‬مقابر‭ ‬المسلمين،‭ ‬ولكن‭ ‬الابن‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬ما‭ ‬عنده‭ ‬خبر‭ ‬عن‭ ‬إسلام‭ ‬أبيه‭ ‬الراحل‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬أجرى‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬اتصالات‭ ‬ببعض‭ ‬الأطراف‭ ‬في‭ ‬السعودية،‭ ‬ثم‭ ‬السفارة‭ ‬السعودية‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬وتم‭ ‬تدارك‭ ‬الأمر‭ ‬ودفنه‭ ‬بعد‭ ‬أداء‭ ‬صلاة‭ ‬الجنازة‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬مقابر‭ ‬المسلمين،‭ ‬وبعدها‭ ‬سمع‭ ‬الطيب‭ ‬أن‭ ‬أهل‭ ‬منسي‭ ‬أقاموا‭ ‬قداسا‭ ‬على‭ ‬روحه‭ ‬في‭ ‬كنيسة‭ ‬في‭ ‬مصر‭.‬

هكذا‭ ‬عاش‭ ‬منسي‭ ‬بقلب‭ ‬مفتوح‭ ‬ولكنه‭ ‬ظل‭ ‬لغزا‭. ‬ويؤكد‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬أن‭ ‬منسي‭ ‬أسلم‭ ‬بقرار‭ ‬ذاتي‭ ‬أي‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحثه‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬دائم‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بالقرآن‭ ‬والحديث‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعتنق‭ ‬الإسلام‭ ‬بسنوات،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬الطيب‭ ‬كان‭ ‬بمثابة‭ ‬‮«‬الأب‭ ‬القدوة‮»‬‭ ‬لمنسي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الأخير‭ ‬أوقعه‭ ‬في‭ ‬مشكلات‭ ‬بلا‭ ‬حصر،‭ ‬بل‭ ‬لعب‭ ‬دورا‭ ‬كبيرا‭ ‬في‭ ‬إنهاء‭ ‬علاقة‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬بهيئة‭ ‬الإذاعة‭ ‬البريطانية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الطيب‭ ‬وأسرة‭ ‬الإذاعة‭ ‬يسندون‭ ‬إليه‭ ‬أدوارا‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬المسرحيات‭ ‬الإذاعية‭ ‬ليكسب‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يعينه‭ ‬على‭ ‬متطلبات‭ ‬الحياة،‭ ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬انعقد‭ ‬مجلس‭ ‬محاسبة‭ ‬للطيب‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أتضح‭ ‬أن‭ ‬منسي‭ ‬تقاضى‭ ‬مبالغ‭ ‬كبيرة‭ ‬لا‭ ‬يستحقها،‭ ‬مقابل‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬المسرحيات،‭ ‬فما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرفه‭ ‬الطيب‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬منسي‭ ‬كان‭ ‬موظفا‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬هيئة‭ ‬الإذاعة‭ (‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭). ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يشغل‭ ‬وظيفتين‭ ‬فيها‭ ‬باسمين‭ ‬مختلفين،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬مدرسا‭ ‬للغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬باسم‭ ‬ثالث‭. ‬ولكنه‭ ‬تقاضى‭ ‬أجورا‭ ‬بوصفه‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬الإذاعة،‭ ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬تنقطع‭ ‬المودة‭ ‬بين‭ ‬الرجلين‭.‬

ولا‭ ‬يريد‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬من‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬بانطباع‭ ‬بأن‭ ‬منسي‭ ‬هذا‭ ‬جشع،‭ ‬بالعكس‭ ‬فهناك‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬حكايات‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬كرمه‭ ‬وحرصه‭ ‬على‭ ‬الوقوف‭ ‬مع‭ ‬الضعفاء‭ ‬بالمال‭ ‬والتشجيع‭ ‬المعنوي،‭ ‬ورغم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الحكايات‭ ‬التي‭ ‬يسرد‭ ‬فيها‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬المواقف‭ ‬المحرجة‭ ‬التي‭ ‬أوقعه‭ ‬فيها‭ ‬منسي‭ ‬إلا‭ ‬أنك‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تحب‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬علاته‭.‬

ذات‭ ‬مرة‭ ‬رافق‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬رسمية‭ ‬إلى‭ ‬بيروت،‭ ‬أيام‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬اليونسكو،‭ ‬وفي‭ ‬المطار‭ ‬فتح‭ ‬موظفو‭ ‬الجمارك‭ ‬صندوقين‭ ‬ضخمين‭ ‬يحملان‭ ‬اسم‭ ‬الطيب‭ ‬وكانت‭ ‬فيهما‭ ‬كميات‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬الملابس‭ ‬النسائية‭ ‬الداخلية،‭ ‬واتضح‭ ‬أن‭ ‬منسي‭ ‬استغل‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬بعثة‭ ‬دبلوماسية‭ ‬ستستقبل‭ ‬الطيب‭ ‬فقرر‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ (‬الحصانة‭ ‬الدبلوماسية‭) ‬لتهريب‭ ‬تلك‭ ‬الملابس‭ ‬باسمه‭.. ‬ليس‭ ‬حبا‭ ‬في‭ ‬النقود‭ ‬بل‭ ‬حبا‭ ‬في‭ (‬الفهلوة‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا