العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

ابن تيمية يقف بشجاعة في مواجهة الطوفان

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ٠٣ ديسمبر ٢٠٢٣ - 02:00

ذات‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬الشباب‭ ‬الجميل‭ ‬قدمنا‭ ‬مسرحية‭ ‬بعنوان‭ (‬في‭ ‬وجه‭ ‬الطوفان‭) ‬للكاتب‭ ‬محمد‭ ‬عبدالحميد‭ ‬أحمد،‭ ‬المسرحية‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬فترة‭ ‬اجتياح‭ ‬المغول‭ ‬التتار‭ ‬للشام‭ ‬ودور‭ ‬شيخ‭ ‬الإسلام‭ ‬ابن‭ ‬تيمية‭ ‬في‭ ‬التصدي‭ ‬لهذا‭ ‬الزحف‭ ‬المغول‭ ‬التتري‭ ‬الهمجي‭ ‬الغاشم‭.‬

تروي‭ ‬لنا‭ ‬المسرحية‭ ‬وكتب‭ ‬التاريخ‭ ‬أيضًا‭ ‬إن‭ ‬هولاكو‭ ‬حفيد‭ ‬جنكيز‭ ‬خان‭ ‬‭ ‬خرج‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬بجيوش‭ ‬جرارة‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ ‬الأقصى‭ ‬متجهًا‭ ‬نحو‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬بهدف‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬غير‭ ‬وهو‭ ‬تدمير‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمت‭ ‬للإسلام‭ ‬بصلة،‭ ‬ولكنه‭ ‬أمام‭ ‬البشرية‭ ‬كان‭ ‬ينادي‭ ‬أن‭ ‬جيوشه‭ ‬حاملة‭ ‬الحضارة‭ ‬وأنه‭ ‬سيقدم‭ ‬تلك‭ ‬الحضارة‭ ‬إلى‭ ‬دول‭ ‬الشرق‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭.‬

اجتاح‭ ‬هولاكو‭ ‬فارس‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬بغداد،‭ ‬وفي‭ ‬طريقه‭ ‬دمر‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬الحضارة‭ ‬والفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وفي‭ ‬بغداد‭ ‬عاث‭ ‬فسادًا،‭ ‬فدمر‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تطاله‭ ‬يده‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬ذلك‭ ‬الشيء،‭ ‬وتروي‭ ‬لنا‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬قائمة‭ ‬ببعض‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬هذا‭ ‬الديكتاتور‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬الإسلامي‭ ‬ليحمل‭ ‬نور‭ ‬الحضارة،‭ ‬منها‭:     ‬

{‭ ‬دمر‭ ‬مكتبة‭ ‬بغداد،‭ ‬وكانت‭ ‬المكتبة‭ ‬الكبيرة،‭ ‬وتحوي‭ ‬وثائق‭ ‬تاريخية‭ ‬ثمينة‭ ‬وكتبا‭ ‬علمية‭ ‬كثيرة‭ ‬تتراوح‭ ‬مواضيعها‭ ‬من الطب‭ ‬إلى‭ ‬علم الفلك‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬تدميرها‭ ‬كاملة،‭ ‬وقال‭ ‬المتبقون‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬إن‭ ‬مياه‭ ‬نهر‭ ‬دجلة‭ ‬أصبحت‭ ‬سوداء‭ ‬نتيجة‭ ‬لكمية‭ ‬الحبر‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬تناثرت‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬ألقي‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬النهر‭.‬

{‭ ‬حاول‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬مواطني‭ ‬بغداد‭ ‬الهرب،‭ ‬ولكن‭ ‬تم‭ ‬اعتراضهم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬قوات المغول،‭ ‬وتراوحت‭ ‬أعداد‭ ‬القتلى‭ ‬من‭ ‬مائتي‭ ‬ألف‭ ‬حتى‭ ‬مليون‭ ‬قتيل‭.‬

{‭ ‬المساجد،‮ ‬القصور،‭ ‬المكتبات‭ ‬العامة،‮ ‬المستشفيات والبنايات‭ ‬الضخمة‭ ‬التي‭ ‬استغرق‭ ‬بناؤها‭ ‬وقتًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬نهبها‭ ‬المغول‭ ‬جميعها‭ ‬ثم‭ ‬أحرقوها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

{‭ ‬تم‭ ‬أسر‭ ‬الخليفة‭ ‬وأجبر‭ ‬على‭ ‬مشاهدة‭ ‬دمار‭ ‬المدينة،‭ ‬ثم‭ ‬أمر‭ ‬هولاكو‭ ‬جنوده‭ ‬فقاموا‭ ‬بلفه بسجاد‮ ‬وأوسعوه‭ ‬ضربًا‭ ‬ودهسًا‭ ‬بالخيول‭ ‬حتى‭ ‬مات‭ ‬لأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬إراقة‭ ‬دماء‭ ‬ملكية‭.‬

{‭ ‬اضطر‭ ‬هولاكو‭ ‬إلى‭ ‬تحريك‭ ‬معسكره‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬المدينة‭ ‬نتيجة‭ ‬للرائحة‭ ‬الكريهة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتصاعد‭ ‬من‭ ‬الموتى‭ ‬والمدينة‭ ‬المدمرة‭.‬

{‭ ‬وظلت‭ ‬المدينة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬مدمرة‭ ‬وخالية‭ ‬من‭ ‬السكان‭ ‬عدة سنوات‭.‬

وما‭ ‬أشبه‭ ‬اليوم‭ ‬بالبارحة،‭ ‬فاليوم‭ ‬تُدمر‭ ‬غزة‭ ‬عن‭ ‬بكر‭ ‬أبيها‭ ‬ولسان‭ ‬حال‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬والشرقي‭ ‬حاملي‭ ‬الحضارة‭: ‬‮«‬من‭ ‬حق‭ ‬إسرائيل‭ ‬أن‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬نفسها‮»‬‭.‬

ويروي‭ ‬عن‭ ‬الفيزيائي‭ ‬الفرنسي‭ ‬بيير‭ ‬كوري‭ ‬أنه‭ ‬قال‭: ‬بثلاثين‭ ‬كتابًا‭ ‬بقيت‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬الأندلس‭ ‬تمكنا‭ ‬من‭ ‬تقسيم‭ ‬الذرة،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬متاحًا‭ ‬لنا‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬المسلمين‭ ‬التي‭ ‬دمرت‭ ‬لكنا‭ ‬اليوم‭ ‬نتنقل‭ ‬بين‭ ‬المجرات،‭ ‬وفي‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬لكنا‭ ‬الآن‭ ‬نلعب‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬بين‭ ‬المجرات‮»‬‭.‬

وعندما‭ ‬بدأ‭ ‬زحف‭ ‬جيوش‭ ‬المغول‭ ‬نحو‭ ‬الشام،‭ ‬زحف‭ ‬الخوف‭ ‬واليأس‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬البشر‭ ‬سكان‭ ‬تلك‭ ‬المناطق،‭ ‬وبدأت‭ ‬الأسر‭ ‬تهرب‭ ‬من‭ ‬الشام‭ ‬إلى‭ ‬الدول‭ ‬الأخرى‭ ‬المجاورة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬أحد‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يقومون‭ ‬بتدريس‭ ‬علوم‭ ‬التوحيد‭ ‬والعقيدة‭ ‬والفقه،‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬‭ ‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬تيمية‭ ‬‭ ‬عندما‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬المغول‭ ‬لا‭ ‬محال‭ ‬سيجتاحون‭ ‬الشام‭ ‬وضع‭ ‬محبرته‭ ‬وكتبه‭ ‬جانبًا،‭ ‬وأخذ‭ ‬سيفه‭ ‬وامتطى‭ ‬جواده‭ ‬ويذهب‭ ‬يحث‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬الجهاد‭.‬

لم‭ ‬يتردد‭ ‬ابن‭ ‬تيمية‭ ‬كثيرًا،‭ ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬أو‭ ‬أمام‭ ‬الناس‭ ‬‮«‬هل‭ ‬من‭ ‬المعقول‭ ‬أن‭ ‬نقف‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬جيوش‭ ‬التتار‭ ‬المغولي‭ ‬الزاحف‭ ‬المنتصر‭ ‬ونحن‭ ‬حفنة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يتدربوا‭ ‬على‭ ‬حمل‭ ‬السلاح؟‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يكرر‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الجمل‭ ‬وهذه‭ ‬العبارات‭ ‬التي‭ ‬تولد‭ ‬الخور‭ ‬في‭ ‬النفوس،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طيات‭ ‬قلبه‭ ‬فكرة‭ ‬واحدة‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬‮«‬هؤلاء‭ ‬المغول‭ ‬فئة‭ ‬مغتصبة‭ ‬للأرض‭ ‬الإسلامية،‭ ‬قتلت‭ ‬ودمرت‭ ‬وأحرقت،‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إزالتها‭ ‬وطردها‭ ‬لتعود‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أتت‮»‬‭.‬

حمل‭ ‬هو‭ ‬وبعض‭ ‬الشباب‭ ‬السلاح،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يحارب‭ ‬التتار‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬واجه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ (‬المتفيهقين‭)‬،‭ ‬وهم‭ ‬الذين‭ ‬قال‭ ‬عنهم‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬قال‭: ‬‮«‬ان‭ ‬من‭ ‬أحبكم‭ ‬إليّ‭ ‬وأقربكم‭ ‬مني‭ ‬مجلسًا‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭ ‬أحاسنكم‭ ‬أخلاقا‭ ‬؟‭ ‬وإن‭ ‬من‭ ‬أبغضكم‭ ‬إليّ‭ ‬وأبعدكم‭ ‬مني‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭ ‬الثرثارون‭ ‬والمتشدقون‭ ‬والمتفيهقون‮»‬،‭ ‬قالوا‭: ‬يا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬قد‭ ‬علمنا‭ ‬الثرثارين‭ ‬والمتشدقين‭ ‬فما‭ ‬المتفيهقون؟‭ ‬قال‭: ‬‮«‬المتكبرون‮»‬‭ ‬رواه‭ ‬الترمذي‭ ‬وقال‭ ‬حديث‭ ‬حسن‭.‬

وأصل‭ ‬الفهق‭ ‬في‭ ‬اللغة‭: ‬الامتلاء،‭ ‬فمعنى‭ ‬المتفيهق‭: ‬الذي‭ ‬يتوسع‭ ‬في‭ ‬كلامه‭ ‬ويفهق‭ ‬به‭ ‬فمه‭. ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬الأثير‭: ‬وتفسير‭ ‬الحديث‭: ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يتوسعون‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬ويفتحون‭ ‬به‭ ‬أفواههم،‭ ‬مأخوذ‭ ‬من‭ ‬الفهق‭ ‬وهو‭ ‬الامتلاء‭ ‬والاتساع‭. ‬وتفيهق‭ ‬في‭ ‬كلامه‭ ‬توسع‭ ‬وتنطع‭. ‬بمعنى‭ ‬الذين‭ ‬يكثرون‭ ‬الكلام‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬الكلام،‭ ‬والذين‭ ‬يظلون‭ ‬يتكلمون‭ ‬بالساعات‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أي‭ ‬فائدة‭ ‬علمية‭ ‬أو‭ ‬فكرية،‭ ‬يتكلمون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يسمعهم‭ ‬الناس،‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬علم‭ ‬أو‭ ‬فكر‭. ‬

هؤلاء‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يعرفون‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ (‬بالرويبضة‭)‬،‭ ‬ويذكر‭ ‬السيوطي‭ ‬في‭ ‬الجامع‭ ‬الصغير‭ ‬معنى‭ ‬الرويبضة،‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬بيّن‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬للصحابة‭ ‬معنى‭ ‬الرويبضة‭ ‬لما‭ ‬سألوه،‭ ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬حديث‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬هريرة‭ ‬سيأتي‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬سنوات‭ ‬خداعات‭ ‬يصدق‭ ‬فيها‭ ‬الكاذب،‭ ‬ويكذب‭ ‬فيها‭ ‬الصادق،‭ ‬ويؤتمن‭ ‬فيها‭ ‬الخائن،‭ ‬ويخون‭ ‬فيها‭ ‬الأمين،‭ ‬وينطق‭ ‬فيها‭ ‬الرويبضة‭. ‬قيل‭: ‬وما‭ ‬الرويبضة‭ ‬؟‭ ‬قال‭: ‬الرجل‭ ‬التافه‭ ‬يتكلم‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬العامة‮»‬‭.‬

هؤلاء‭ (‬المتفيهقون‭) ‬و‭(‬الرويبضة‭)‬،‭ ‬كانوا‭ ‬يحاربون‭ ‬مع‭ ‬المغول‭ ‬في‭ ‬خندق‭ ‬واحد،‭ ‬سواء‭ ‬كانوا‭ ‬يعرفون‭ ‬أم‭ ‬لا‭ ‬يعرفون،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬ينشرون‭ ‬الخور‭ ‬واليأس‭ ‬في‭ ‬النفوس،‭ ‬ويشككون‭ ‬في‭ ‬نيات‭ ‬الشيخ‭ ‬ابن‭ ‬تيمية‭ ‬وقدراته‭ ‬وإمكانياته‭ ‬في‭ ‬التصدي‭ ‬لهذا‭ ‬الزحف‭ ‬المغولي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقهر،‭ ‬فهم‭ ‬لم‭ ‬يقفوا‭ ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬تيمية‭ ‬في‭ ‬الميدان،‭ ‬ولم‭ ‬يكفوا‭ ‬ألسنتهم‭ ‬عن‭ ‬بث‭ ‬الروح‭ ‬السلبية‭ ‬واليأس‭ ‬بين‭ ‬النفوس،‭ ‬ولم‭ ‬ينشروا‭ ‬الإحباط‭ ‬من‭ ‬لقاء‭ ‬العدو‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬راحوا‭ ‬يشككون‭ ‬في‭ ‬عقيدة‭ ‬الإمام‭ ‬وفي‭ ‬نزاهته‭ ‬وأفكاره‭.‬

امتاز‭ ‬شيخ‭ ‬الإسلام‭ ‬ابن‭ ‬تيمية‭ ‬بشجاعته‭ ‬وجرأته‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬التتار،‭ ‬ويبدو‭ ‬هذا‭ ‬واضحًا‭ ‬عندما‭ ‬اقترب‭ ‬التتار‭ ‬لغزو‭ ‬دمشق،‭ ‬حيث‭ ‬هرب‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬البلد‭ ‬وعلمائها،‭ ‬وحتى‭ ‬حكامها،‭ ‬ولم‭ ‬يبقَ‭ ‬مع‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬سوى‭ ‬ابن‭ ‬تيمية،‭ ‬حيث‭ ‬حال‭ ‬قلبه‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الهرب‭ ‬والفرار،‭ ‬فقاتل‭ ‬وقاتل‭ ‬ولم‭ ‬يفر،‭ ‬ولم‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الذين‭ ‬قالوا‭ ‬عنه‭ ‬ما‭ ‬قالوا،‭ ‬وخذلوه،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬جهاد،‭ ‬نصر‭ ‬أم‭ ‬استشهاد‭.‬

وفي‭ ‬النهاية‭ ‬‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬تيمية‭ ‬انتصر‭ ‬في‭ ‬معركته‭ ‬ضد‭ ‬التتار،‭ ‬ولكنه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ (‬الرويبضة‭) ‬و‭(‬المتفيهقون‭)‬،‭ ‬فأدخل‭ ‬المعتقل‭ ‬مُتهمًا‭ ‬في‭ ‬عقيدته‭ ‬التي‭ ‬قادته‭ ‬إلى‭ ‬جهاد‭ ‬التتار،‭ ‬فظل‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬سنوات‭ ‬حتى‭ ‬استشهد‭ ‬هناك،‭ ‬وخلال‭ ‬فترة‭ ‬اعتقاله‭ ‬عُرض‭ ‬عليه‭ ‬إطلاق‭ ‬سراحه‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬التنازل‭ ‬عن‭ ‬آرائه‭ ‬وأفكاره،‭ ‬فقال‭ ‬للسجان‭ ‬‮«‬أبلغ‭ ‬الأمير‭ ‬شكري،‭ ‬وقل‭ ‬للعلماء‭: ‬إن‭ ‬ابن‭ ‬تيمية‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬قلعته‭ ‬حرًا،‭ ‬فليست‭ ‬العبودية‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬القيود‭ ‬والسلاسل،‭ ‬وإنما‭ ‬العبودية‭ ‬أن‭ ‬تقهرني‭ ‬القيود‭ ‬والسلاسل‭ ‬دون‭ ‬عقيدتي‭ ‬وإيماني،‭ ‬وليس‭ ‬السجين‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬ظلمات‭ ‬السجن‭ ‬وأغلاله،‭ ‬وإنما‭ ‬السجين‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬ظلمات‭ ‬النفس‭ ‬والضمير‮»‬‭.‬

وتنتهي‭ ‬المسرحية‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭.‬

واليوم‭ ‬نعيش‭ ‬نفس‭ ‬هذا‭ ‬الوضع،‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬تقوم‭ ‬المقاومة‭ ‬بمحاربة‭ ‬المغول‭ ‬الجدد،‭ ‬الذين‭ ‬يهدمون‭ ‬المساجد‭ ‬والكنائس‭ ‬والمستشفيات‭ ‬والجامعات،‭ ‬ويقتلون‭ ‬من‭ ‬يقتلون‭ ‬أمام‭ ‬ناظري‭ ‬العالم،‭ ‬ولسان‭ ‬حال‭ ‬العالم‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬من‭ ‬حق‭ ‬إسرائيل‭ ‬أن‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬نفسها‮»‬،‭ ‬وأقصى‭ ‬حد‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬المنظمات‭ ‬الحقوقية‭ ‬أنها‭ (‬أدانت‭ ‬هذا‭ ‬الدمار‭ ‬الكبير‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬سكتت‭ ‬وكأن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يعنيها‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬أو‭ ‬بعيد‭. ‬وإن‭ ‬كنا‭ ‬نتوقع‭ ‬ذلك،‭ ‬فهذا‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬جديد‭ ‬فيه‭.‬

ولكن‭ ‬الأغرب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬ظهرانينا،‭ ‬ومن‭ ‬بني‭ ‬جلدتنا،‭ ‬ومن‭ ‬يتحدث‭ ‬بلساننا‭ ‬من‭ ‬يشكك‭ ‬في‭ ‬نيات‭ ‬المقاومة‭ ‬وقدراتها‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬والجهاد،‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬يغلف‭ ‬كلامه‭ ‬المشكك‭ ‬السلبي‭ ‬بورق‭ ‬ذي‭ ‬ألوان‭ ‬جميلة‭ ‬لماعة،‭ ‬فيحاول‭ ‬تارة‭ ‬أن‭ ‬يشكك‭ ‬في‭ ‬نيات‭ ‬المقاومة،‭ ‬وتارة‭ ‬في‭ ‬جدوى‭ ‬المعركة،‭ ‬وتارة‭ ‬في‭ ‬تبادل‭ ‬الأسرى،‭ ‬فإن‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬أمامه‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬أوراق‭ ‬التاريخ‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬وماضي‭ ‬رجال‭ ‬المقاومة،‭ ‬وليحاول‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬ولو‭ ‬ثغرة‭ ‬بسيطة‭ ‬يستطيع‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أن‭ ‬يبرر‭ ‬أقواله‭ ‬ويطعن‭ ‬في‭ ‬نزاهة‭ ‬الرجل‭.‬

أيها‭ ‬السادة،‭ ‬رجال‭ ‬المقاومة‭ ‬ليسوا‭ ‬أنبياء‭ ‬ولا‭ ‬صحابة،‭ ‬وإنما‭ ‬هم‭ ‬بشر،‭ ‬يخطئون‭ ‬ويصيبون،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تركوا‭ ‬متع‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الشهادة،‭ ‬وليس‭ ‬الشهادة‭ ‬الجامعية‭ ‬أو‭ ‬التعليمية‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬شهادة‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬دخول‭ ‬الجنة،‭ ‬فإن‭ ‬كنتم‭ ‬‭ ‬أيها‭ ‬السادة‭ ‬‭ ‬لم‭ ‬تصلوا‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬الشفافية‭ ‬لتؤمنوا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬جنة‭ ‬عرضها‭ ‬كعرض‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض‭ ‬أعدت‭ ‬للمتقين،‭ ‬فلا‭ ‬تتحدثوا،‭ ‬فإن‭ ‬عقيدة‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الإيمان‭ ‬بيوم‭ ‬الحساب،‭ ‬ومن‭ ‬بعد‭ ‬الحساب‭ ‬إما‭ ‬إلى‭ ‬الجنة‭ ‬وإما‭ ‬إلى‭ ‬النار،‭ ‬وخلاف‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭.‬

فليس‭ ‬من‭ ‬الذكاء‭ ‬أن‭ ‬نظهر‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ونتحدث،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الظهور،‭ ‬ونقول،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬نُضحك‭ ‬الناس‭ ‬وأن‭ ‬نسخر‭ ‬من‭ ‬المقاومة‭ ‬وأن‭ ‬نقلل‭ ‬من‭ ‬شأنهم،‭ ‬فيكفي‭ ‬هؤلاء‭ ‬فخرًا‭ ‬أن‭ ‬لهم‭ ‬هدفا‭ ‬يمضون‭ ‬لتحقيقه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الجنة،‭ ‬فما‭ ‬هدفكم‭ ‬أنتم؟‭!     ‬

فكروا،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تُغلق‭ ‬الصحف،‭ ‬ويبدأ‭ ‬الحساب‭. ‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا