العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

في مدح لبن الحمير

لا‭ ‬يكاد‭ ‬يمر‭ ‬شهر‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أخوض‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمرض‭ ‬والصحة،‭ ‬ولكن‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬تجربتي‭ ‬وتجارب‭ ‬غيري‭ ‬كأشخاص‭ ‬عاديين‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لهم‭ ‬بالتطبيب،‭ ‬ولكنهم‭ ‬وبحكم‭ ‬أنهم‭ ‬بشر،‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬المرض‭ ‬ويتعاملون‭ ‬مع‭ ‬الأطباء‭ ‬والصيادلة‭.‬

طالعت‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬عربية‭ ‬حكايتي‭ ‬مواطنَين‭ ‬قررا‭ ‬مقاضاة‭ ‬الأطباء‭ ‬على‭ ‬أخطاء‭ ‬طبية‭ ‬مهنية،‭ ‬أرهقتهما‭ ‬عاطفياً‭ ‬وجسدياً‭ ‬ومادياً‭.  ‬وطالما‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬أحيل‭ ‬إلى‭ ‬القضاء،‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬هل‭ ‬صدرت‭ ‬عنه‭ ‬أحكام،‭ ‬فلا‭ ‬مجال‭ ‬للخوض‭ ‬فيه‭. ‬فقط‭ ‬أود‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إنني‭ ‬سعيد‭ ‬لأن‭ ‬بعضا‭ ‬منا‭ ‬بات‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬الأطباء‭ ‬ليسوا‭ ‬معصومين‭ ‬من‭ ‬المساءلة‭ ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬ليسوا‭ ‬معصومين‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬غالبا‭ ‬غير‭ ‬مقصود،‭ ‬فلا‭ ‬أحسب‭ ‬أن‭ ‬طبيباً‭ ‬يتعمد‭ ‬إيذاء‭ ‬مرضاه‭. (‬لكل‭ ‬قاعدة‭ ‬شواذ‭ ‬فالدكتور‭ ‬البريطاني‭ ‬هارولد‭ ‬شيبمان‭ ‬اتهم‭ ‬وأدين‭ ‬بقتل‭ ‬265‭ ‬من‭ ‬مرضاه‭ ‬وكان‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعطي‭ ‬المريض‭ ‬حقنة‭ ‬قاتلة‭ ‬يتناول‭ ‬وجبة‭ ‬خفيفة‭ ‬كي‭ ‬يتسنى‭ ‬له‭ ‬هضم‭ ‬الجريمة‭ ‬جيداً،‭ ‬وكان‭ ‬أغرب‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يستهدف‭ ‬المرضى‭ ‬الذين‭ ‬ظل‭ ‬يتعامل‭ ‬معهم‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬وعلى‭ ‬وجه‭ ‬خاص‭ ‬كبار‭ ‬السن،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يثقون‭ ‬به‭ ‬ثقة‭ ‬كاملة‭ ‬ولهذا‭ ‬لم‭ ‬تحم‭ ‬الشبهات‭ ‬حوله‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تجاوز‭ ‬عدد‭ ‬ضحاياه‭ ‬المائتين‭).‬

وددت‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬الظروف‭ ‬تسمح‭ ‬لي‭ ‬أيضاً‭ ‬بمقاضاة‭ ‬بعض‭ ‬العاملين‭ ‬بالمهن‭ ‬الطبية‭ ‬الذين‭ ‬تعالجت‭ ‬على‭ ‬أيديهم،‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬‮«‬مساعد‭ ‬حكيم‮»‬‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬بلدتنا‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬النوبي،‭ ‬ومساعد‭ ‬الحكيم‭ ‬في‭ ‬قاموس‭ ‬سودان‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬عقود‭ ‬خلت،‭ ‬كان‭ ‬رجلاً‭ ‬قضى‭ ‬نحو‭ ‬25‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬مهنة‭ ‬التمريض،‭ ‬واكتسب‭ ‬خبرة‭ ‬طبية‭ ‬تؤهله‭ ‬لمداواة‭ ‬الأمراض‭ ‬البسيطة،‭ ‬وهي‭ ‬تقابل‭ ‬مشروع‭ ‬‮«‬الأطباء‭ ‬الحفاة‮»‬‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬الذين‭ ‬يتم‭ ‬إعدادهم‭ ‬للمرور‭ ‬بالقرى‭ ‬لتقديم‭ ‬رعاية‭ ‬صحية‭ ‬أولية،‭ ‬بعد‭ ‬تدريبهم‭ ‬مدة‭ ‬قصيرة‭ (‬سنتان‭) ‬في‭ ‬مجال‭ ‬تشخيص‭ ‬ومعالجة‭ ‬الأمراض‭ ‬السارية

المهم‭ ‬أن‭ ‬صاحبنا‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬تلميذ‭ ‬يلجأ‭ ‬إليه‭ ‬متمارضا،‭ ‬لعيادته‭ ‬البائسة‭ ‬للتهرب‭ ‬من‭ ‬الدراسة‭ ‬أو‭ ‬لنيل‭ ‬إجازة‭ ‬مرضية،‭  ‬وذهبت‭ ‬إليه‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬أشكو‭ ‬من‭ ‬السعال‭ ‬الديكي،‭ ‬فطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أكح‭ ‬أمامه،‭ ‬يعني‭ ‬أطلع‭ ‬كحة‭ ‬بـ«الغصب‮»‬‭ ‬أو‭ ‬بالعافية‭ ‬فـ«كحيت‮»‬‭ ‬قدر‭ ‬استطاعتي،‭ ‬بطريقة‭ ‬قسرية،‭ ‬فكتب‭ ‬في‭ ‬دفتر‭ ‬العيادة‭ ‬المدرسي‭ ‬أنني‭ ‬متمارض‭.  ‬وعدت‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬فجلدني‭ ‬المدرس‭ ‬بجريد‭ ‬النخل‭ ‬حتى‭ ‬أدمى‭ ‬مؤخرتي،‭ ‬فأصبت‭ ‬بحمى‭ ‬شديدة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬حدة‭ ‬السعال‭ ‬اشتدت‭ ‬ولم‭ ‬أبرأ‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سقاني‭ ‬أهلي‭ ‬حليب‭ ‬أتان‭ (‬حمارة‭) ‬العمدة،‭ ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مقال‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

وعيب‭ ‬عليك‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬تضحك‭ ‬وأنت‭ ‬تحسب‭ ‬أن‭ ‬أعراض‭ ‬الحمورية‭ ‬التي‭ ‬تلمسها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية،‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬أبا‭ ‬الجعافر‭ ‬يحمل‭ ‬جينات‭ ‬الحمير‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك‭ ‬الحليب‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬له‭ ‬إخوة‭ ‬في‭ ‬الرضاع‭ ‬من‭ ‬الحمير‭ ‬والأتانات،‭ ‬فقد‭ ‬أثبتت‭ ‬التجربة‭ ‬أن‭ ‬لبن‭ ‬الحمير‭ ‬خير‭ ‬دواء‭ ‬للسعال‭ ‬الديكي‭ ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬فإن‭ ‬أهلنا‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬يتداوون‭ ‬به‭ (‬بالمناسبة‭ ‬فإن‭ ‬الجبن‭ ‬المصنوع‭ ‬من‭ ‬لبن‭ ‬الحمير‭ ‬هو‭ ‬الأعلى‭ ‬ثمنا‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬مقارنة‭ ‬بالأجبان‭ ‬الأخرى،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬لبن‭ ‬الحمير‭ ‬يباع‭ ‬على‭ ‬قارعة‭ ‬الطرق‭ ‬في‭ ‬تشيلي‭).‬

وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬وعلى‭ ‬عهد‭ ‬الصبا‭ ‬الباكر‭ ‬طلبوا‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬الشبان‭ ‬أن‭ ‬يجلب‭ ‬الحليب‭ ‬بكميات‭ ‬كبيرة‭ ‬لإعداد‭ ‬الشاي‭ ‬للمعزين‭ ‬في‭ ‬وفاة‭ ‬أحد‭ ‬رجال‭ ‬القرية،‭ ‬وكانت‭ ‬العادة‭ ‬قد‭ ‬درجت‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬المناسبات‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬أي‭ ‬زريبة‭ ‬للبهائم،‭ ‬وتحلب‭ ‬ما‭ ‬تشاء‭ ‬من‭ ‬أبقار‭ ‬وماعز،‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الاستئذان‭ ‬من‭ ‬أصحابها،‭ ‬فرأى‭ ‬أخونا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬داعي‭ ‬للذهاب‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬الحظائر‭. ‬وهكذا‭ ‬قام‭ ‬بتكتيف‭ ‬عشرات‭ ‬إناث‭ ‬الحمير‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬ظهورها‭ ‬المعزون،‭ ‬وقام‭ ‬بحلبها‭ ‬بكفاءة‭ ‬عالية،‭ ‬وشرب‭ ‬الجماعة‭ ‬شاياً‭ ‬كامل‭ ‬الدسم‭ ‬لأن‭ ‬لبن‭ ‬الحمير‭ - ‬وأنا‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ - ‬ثقيل‭ ‬وكثيف‭ ‬ونقطة‭ ‬واحدة‭ ‬منه‭ ‬تكفي‭ ‬لكوب‭ ‬شاي‭ ‬كامل‭!  ‬وكان‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬ضايق‭ ‬صاحبنا‭ ‬جالب‭ ‬الحليب‭ ‬عالي‭ ‬الدسم‭ ‬أن‭ ‬المعزين،‭ ‬كالوا‭ ‬الثناء‭ ‬للنساء‭ ‬اللواتي‭ ‬قمن‭ ‬بإعداد‭ ‬الشاي‭ ‬‮«‬المزبوط‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬يوم‭ ‬رفع‭ ‬العزاء‭ ‬انتقم‭ ‬من‭ ‬‮«‬ناكري‭ ‬الجميل‮»‬،‭ ‬وقال‭ ‬لهم‭ ‬إن‭ ‬الشكر‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يوجه‭ ‬إلى‭ ‬الحمير‭ ‬وليس‭ ‬النساء‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا