زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
في مدح لبن الحمير
لا يكاد يمر شهر دون أن أخوض في أمر يتعلق بالمرض والصحة، ولكن فقط من واقع تجربتي وتجارب غيري كأشخاص عاديين لا علاقة لهم بالتطبيب، ولكنهم وبحكم أنهم بشر، يعانون من المرض ويتعاملون مع الأطباء والصيادلة.
طالعت في صحيفة عربية حكايتي مواطنَين قررا مقاضاة الأطباء على أخطاء طبية مهنية، أرهقتهما عاطفياً وجسدياً ومادياً. وطالما أن الأمر أحيل إلى القضاء، ولا أعرف هل صدرت عنه أحكام، فلا مجال للخوض فيه. فقط أود أن أقول إنني سعيد لأن بعضا منا بات يعرف أن الأطباء ليسوا معصومين من المساءلة كما أنهم ليسوا معصومين من الخطأ الذي يكون غالبا غير مقصود، فلا أحسب أن طبيباً يتعمد إيذاء مرضاه. (لكل قاعدة شواذ فالدكتور البريطاني هارولد شيبمان اتهم وأدين بقتل 265 من مرضاه وكان قبل أن يعطي المريض حقنة قاتلة يتناول وجبة خفيفة كي يتسنى له هضم الجريمة جيداً، وكان أغرب ما في الأمر أنه كان يستهدف المرضى الذين ظل يتعامل معهم لأكثر من ربع قرن، وعلى وجه خاص كبار السن، الذين كانوا يثقون به ثقة كاملة ولهذا لم تحم الشبهات حوله إلا بعد أن تجاوز عدد ضحاياه المائتين).
وددت لو أن الظروف تسمح لي أيضاً بمقاضاة بعض العاملين بالمهن الطبية الذين تعالجت على أيديهم، ومن بينهم «مساعد حكيم» كان في بلدتنا في شمال السودان النوبي، ومساعد الحكيم في قاموس سودان ما قبل عقود خلت، كان رجلاً قضى نحو 25 سنة في مهنة التمريض، واكتسب خبرة طبية تؤهله لمداواة الأمراض البسيطة، وهي تقابل مشروع «الأطباء الحفاة» في الصين الذين يتم إعدادهم للمرور بالقرى لتقديم رعاية صحية أولية، بعد تدريبهم مدة قصيرة (سنتان) في مجال تشخيص ومعالجة الأمراض السارية
المهم أن صاحبنا هذا كان يعتقد أن أي تلميذ يلجأ إليه متمارضا، لعيادته البائسة للتهرب من الدراسة أو لنيل إجازة مرضية، وذهبت إليه ذات مرة أشكو من السعال الديكي، فطلب مني أن أكح أمامه، يعني أطلع كحة بـ«الغصب» أو بالعافية فـ«كحيت» قدر استطاعتي، بطريقة قسرية، فكتب في دفتر العيادة المدرسي أنني متمارض. وعدت إلى المدرسة فجلدني المدرس بجريد النخل حتى أدمى مؤخرتي، فأصبت بحمى شديدة، كما أن حدة السعال اشتدت ولم أبرأ منه إلا بعد أن سقاني أهلي حليب أتان (حمارة) العمدة، كما ذكرت في أكثر من مقال من قبل.
وعيب عليك أيها القارئ أن تضحك وأنت تحسب أن أعراض الحمورية التي تلمسها في هذه الزاوية، ناتجة عن أن أبا الجعافر يحمل جينات الحمير بسبب ذلك الحليب الذي جعل له إخوة في الرضاع من الحمير والأتانات، فقد أثبتت التجربة أن لبن الحمير خير دواء للسعال الديكي وإلى يومنا هذا فإن أهلنا في شمال السودان يتداوون به (بالمناسبة فإن الجبن المصنوع من لبن الحمير هو الأعلى ثمنا في فرنسا مقارنة بالأجبان الأخرى، كما أن لبن الحمير يباع على قارعة الطرق في تشيلي).
وأذكر أنه وعلى عهد الصبا الباكر طلبوا من أحد الشبان أن يجلب الحليب بكميات كبيرة لإعداد الشاي للمعزين في وفاة أحد رجال القرية، وكانت العادة قد درجت في مثل تلك المناسبات أن تدخل أي زريبة للبهائم، وتحلب ما تشاء من أبقار وماعز، دون الحاجة إلى الاستئذان من أصحابها، فرأى أخونا أنه لا داعي للذهاب إلى حيث الحظائر. وهكذا قام بتكتيف عشرات إناث الحمير التي جاء على ظهورها المعزون، وقام بحلبها بكفاءة عالية، وشرب الجماعة شاياً كامل الدسم لأن لبن الحمير - وأنا أتحدث عن تجربة - ثقيل وكثيف ونقطة واحدة منه تكفي لكوب شاي كامل! وكان أكثر ما ضايق صاحبنا جالب الحليب عالي الدسم أن المعزين، كالوا الثناء للنساء اللواتي قمن بإعداد الشاي «المزبوط»، وفي يوم رفع العزاء انتقم من «ناكري الجميل»، وقال لهم إن الشكر ينبغي أن يوجه إلى الحمير وليس النساء.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك