العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

اسألوا أهل المعرفة والتخصص

من‭ ‬نسميهم‭ ‬بالحكماء‭ ‬والفلاسفة‭ ‬لا‭ ‬يميلون‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬النصح‭ ‬المباشر‭ ‬لعامة‭ ‬الناس،‭ ‬بل‭ ‬يأتون‭ ‬بحكايات‭ ‬وأمثال،‭ ‬ليستنبط‭ ‬الناس‭ ‬منها‭ ‬المواعظ‭ ‬والحكم،‭ ‬ولست‭ ‬حكيما‭ ‬أو‭ ‬فيلسوفا،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬الحكايتين‭ ‬اللتين‭ ‬سأوردهما‭ ‬أدناه‭ ‬منقولة‭ ‬عمن‭ ‬هم‭ ‬أكثر‭ ‬مني‭ ‬حكمة‭ ‬وأقوى‭ ‬مني‭ ‬‮«‬رؤية‮»‬،‭ ‬وأولاهما‭ ‬عن‭ ‬حاكم‭ ‬في‭ ‬قديم‭ ‬الزمان،‭ ‬قام‭ ‬بجولة‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬بلده‭ ‬شاسع‭ ‬المساحة،‭ ‬فتورمت‭ ‬قدماه‭ ‬بسبب‭ ‬وعورة‭ ‬الطرق،‭ ‬فأصدر‭ ‬قراراً‭ ‬بتغطية‭ ‬وفرش‭ ‬كافة‭ ‬الطرق‭ ‬الرئيسية‭ ‬بجلود‭ ‬الحيوانات،‭ ‬ولكن‭ ‬مستشاراً‭ ‬أميناً‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬المستحيل،‭ ‬لأنه‭ ‬يعني‭ ‬على‭ ‬أقل‭ ‬تقدير‭ ‬إبادة‭ ‬الحيوانات‭ ‬الأليفة‭ ‬والمتوحشة‭ ‬في‭ ‬الدولة،‭ ‬وإن‭ ‬الحل‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬لف‭ ‬وتغطية‭ ‬قدم‭ ‬الحاكم‭ ‬بقطعة‭ ‬من‭ ‬الجلد‭ ‬أو‭ ‬القماش‭ ‬السميك‭ ‬وهكذا‭ ‬عرفت‭ ‬البشرية‭ ‬الأحذية‭.‬

طبعاً‭ ‬الحكاية‭ ‬من‭ ‬نسج‭ ‬الخيال،‭ ‬لأن‭ ‬الإنسان‭ ‬ومنذ‭ ‬أقدم‭ ‬العهود،‭ ‬أي‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬الغابات‭ ‬والجبال‭ ‬عرف‭ ‬كيف‭ ‬يحمي‭ ‬قدميه‭ ‬من‭ ‬الأشواك‭ ‬والحجارة‭ ‬ولدغ‭ ‬الحشرات‭ ‬باستخدام‭ ‬ما‭ ‬تيسر‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬طبيعية،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬يستفاد‭ ‬من‭ ‬حكاية‭ ‬الحاكم‭ ‬الذي‭ ‬أراد‭ ‬فرش‭ ‬أراضي‭ ‬دولته‭ ‬بالجلود،‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬تغيير‭ ‬ما‭ ‬حولك،‭ ‬فابدأ‭ ‬بتغيير‭ ‬نفسك‭ ‬وبعدها‭ ‬قد‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حولك‭. ‬ولا‭ ‬يغير‭ ‬الله‭ ‬ما‭ ‬بقوم‭ ‬حتى‭ ‬يغيِّروا‭ ‬ما‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬فابدأ‭ ‬بالحلول‭ ‬البسيطة‭ ‬والمتدرجة،‭ ‬لكي‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حل‭ ‬أكثر‭ ‬شمولية‭ ‬للمشكلة‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭. ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأسواق‭ ‬اعتاد‭ ‬رجل‭ ‬أعمى‭ ‬الجلوس‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬معين‭ ‬ممسكاً‭ ‬بيده‭ ‬لافتة‭ ‬كتب‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬أرجو‭ ‬مساعدتي‭ ‬لأنني‭ ‬أعمى‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬يضع‭ ‬أمامه‭ ‬صندوقاً‭ ‬من‭ ‬الكرتون‭ ‬يلقي‭ ‬فيه‭ ‬المحسنون‭ ‬بقطع‭ ‬معدنية،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬مر‭ ‬بالأعمى‭ ‬رجل‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الإعلانات،‭ ‬ورأى‭ ‬أن‭ ‬حصيلة‭ ‬الأعمى‭ ‬من‭ ‬التسول‭ ‬هزيلة،‭ ‬فانتزع‭ ‬اللافتة‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يستأذن‭ ‬منه،‭ ‬وكتب‭ ‬عليها‭ ‬بضع‭ ‬كلمات‭ ‬ثم‭ ‬أعادها‭ ‬إليه،‭ ‬وارتفع‭ ‬صوت‭ ‬الأعمى‭ ‬بالاحتجاج،‭ ‬لأنه‭ ‬حسب‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬استولى‭ ‬على‭ ‬قليل‭ ‬ماله،‭ ‬وانصرف‭ ‬رجل‭ ‬الإعلانات‭ ‬إلى‭ ‬حال‭ ‬سبيله،‭ ‬وبمرور‭ ‬الوقت‭ ‬ازداد‭ ‬الأعمى‭ ‬حزناً‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬رنين‭ ‬النقود‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬انتزع‭ ‬مجهول‭ ‬اللافتة‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬إنه‭ ‬أعمى‭ ‬وبحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مساعدة‭ ‬من‭ ‬يده،‭ ‬وكتب‭ ‬عليها‭ ‬شيئاً‭ ‬ما‭ ‬ثم‭ ‬أعادها‭ ‬إليه،‭ ‬وعندما‭ ‬أدرك‭ ‬أن‭ ‬المساء‭ ‬حلّ،‭ ‬جمع‭ ‬حاجياته‭ ‬وهو‭ ‬يتحسر‭ ‬على‭ ‬ضعف‭ ‬حصيلة‭ ‬يومه‭ ‬من‭ ‬التسول،‭ ‬ثم‭ ‬مد‭ ‬يده‭ ‬إلى‭ ‬الصندوق‭ ‬الكرتوني‭ ‬لجمع‭ ‬ما‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قطع‭ ‬معدنية‭ ‬قليلة،‭ ‬فإذا‭ ‬بأصابعه‭ ‬تلامس‭ ‬أوراقاً‭ ‬كثيرة،‭ ‬فنادى‭ ‬الأعمى‭ ‬على‭ ‬صاحب‭ ‬المتجر‭ ‬الذي‭ ‬يجلس‭ ‬أمامه‭ ‬ليكشف‭ ‬له‭ ‬أمر‭ ‬الأوراق‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬الصندوق،‭ ‬فأبلغه‭ ‬الأخير‭ ‬أنها‭ ‬أوراق‭ ‬نقدية‭ ‬كثيرة‭ ‬وعالية‭ ‬القيمة‭. ‬هنا‭ ‬طلب‭ ‬الأعمى‭ ‬من‭ ‬صاحب‭ ‬المتجر‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬له‭ ‬الكلام‭ ‬المكتوب‭ ‬على‭ ‬اللوحة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬يده،‭ ‬فقرأها‭ ‬وكان‭ ‬نصها‭ ‬كما‭ ‬يلي‭ ‬‮«‬نحن‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الربيع‭ ‬ولكنني‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬التمتع‭ ‬بجماله‮«‬‭ ‬وما‭ ‬يستفاد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬جميعاً،‭ ‬بمن‭ ‬فينا‭ ‬المتسولون‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬آراء‭ ‬وتوجيهات‭ ‬ذوي‭ ‬الشأن‭ ‬والاختصاص‭ ‬لتحقيق‭ ‬النتائج‭ ‬التي‭ ‬ننشدها‭.. ‬فانظر‭ ‬كيف‭ ‬استخدم‭ ‬رجل‭ ‬الدعاية‭ ‬والإعلانات‭ ‬كلمات‭ ‬بسيطة‭ ‬جعلت‭ ‬الناس‭ ‬يحسون‭ ‬أكثر‭ ‬بمعاناة‭ ‬الأعمى‭ ‬ويتكالبون‭ ‬لتقديم‭ ‬العون‭ ‬المالي‭ ‬له‭.‬

في‭ ‬عاصمة‭ ‬خليجية‭ ‬رأيت‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬محلا‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬البعير‭ ‬للدواجن‭ ‬الحية‮»‬،‭ ‬وعندما‭ ‬عدت‭ ‬بعدها‭ ‬بعدة‭ ‬أشهر‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬ذلك‭ ‬المحل‭ ‬لالتقط‭ ‬صورة‭ ‬للافتة،‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬المحل‭ ‬قد‭ ‬اختفى،‭ ‬وأدركت‭ ‬أن‭ ‬سوء‭ ‬اختيار‭ ‬الاسم‭ ‬أبعد‭ ‬عنه‭ ‬الزبائن،‭ ‬وفي‭ ‬لندن‭ ‬تصدر‭ ‬مجلة‭ ‬اسمها‭ ‬بيغ‭ ‬إشو Big Issue تعنى‭ ‬بشؤون‭ ‬المشردين،‭ ‬ويقوم‭ ‬المتشردون‭ ‬ببيعها‭ ‬ويشتريها‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التصدق،‭ ‬لأن‭ ‬عائدات‭ ‬مبيعها‭ ‬تنفق‭ ‬لتوفير‭ ‬المأوى‭ ‬والطعام‭ ‬للمشردين،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يبيعها‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬‮«‬هانغرز‭ ‬لين‮»‬‭ ‬لقطارات‭ ‬الأنفاق‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬لندن‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬استخدمها‭ ‬يومياً،‭ ‬كان‭ ‬سكيراً،‭ ‬وكان‭ ‬يغفو‭ ‬وهو‭ ‬واقف،‭ ‬ثم‭ ‬إذا‭ ‬أحس‭ ‬باقتراب‭ ‬أقدام‭ ‬منه‭ ‬صاح‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭: ‬بيغ‭ ‬إشو‭.. ‬فيكاد‭ ‬قلبك‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬لأنه‭ ‬ينطقها‭ ‬وكأنه‭ ‬يشتمك،‭ ‬وينتهي‭ ‬اليوم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يبيع‭ ‬نسخة‭ ‬واحدة‭.. ‬فانظر‭ ‬بين‭ ‬حاله‭ ‬وحال‭ ‬الأعمى‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬خبير‭ ‬بتحسين‭ ‬أحواله‭ ‬بالكلمة‭ ‬الحلوة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا