زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
اسألوا أهل المعرفة والتخصص
من نسميهم بالحكماء والفلاسفة لا يميلون إلى تقديم النصح المباشر لعامة الناس، بل يأتون بحكايات وأمثال، ليستنبط الناس منها المواعظ والحكم، ولست حكيما أو فيلسوفا، ومن ثم أقول إن الحكايتين اللتين سأوردهما أدناه منقولة عمن هم أكثر مني حكمة وأقوى مني «رؤية»، وأولاهما عن حاكم في قديم الزمان، قام بجولة في أرجاء بلده شاسع المساحة، فتورمت قدماه بسبب وعورة الطرق، فأصدر قراراً بتغطية وفرش كافة الطرق الرئيسية بجلود الحيوانات، ولكن مستشاراً أميناً قال له إن ذلك في حكم المستحيل، لأنه يعني على أقل تقدير إبادة الحيوانات الأليفة والمتوحشة في الدولة، وإن الحل يكمن في لف وتغطية قدم الحاكم بقطعة من الجلد أو القماش السميك وهكذا عرفت البشرية الأحذية.
طبعاً الحكاية من نسج الخيال، لأن الإنسان ومنذ أقدم العهود، أي عندما كان العيش في الغابات والجبال عرف كيف يحمي قدميه من الأشواك والحجارة ولدغ الحشرات باستخدام ما تيسر من مواد طبيعية، ولكن ما يستفاد من حكاية الحاكم الذي أراد فرش أراضي دولته بالجلود، هو أنه إذا لم تستطع تغيير ما حولك، فابدأ بتغيير نفسك وبعدها قد تنجح في تغيير العالم من حولك. ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم، فابدأ بالحلول البسيطة والمتدرجة، لكي تصل إلى حل أكثر شمولية للمشكلة التي تعاني منها. في أحد الأسواق اعتاد رجل أعمى الجلوس في موقع معين ممسكاً بيده لافتة كتب عليها «أرجو مساعدتي لأنني أعمى»، وكان يضع أمامه صندوقاً من الكرتون يلقي فيه المحسنون بقطع معدنية، وذات يوم مر بالأعمى رجل يعمل في مجال الإعلانات، ورأى أن حصيلة الأعمى من التسول هزيلة، فانتزع اللافتة من يد الرجل من دون أن يستأذن منه، وكتب عليها بضع كلمات ثم أعادها إليه، وارتفع صوت الأعمى بالاحتجاج، لأنه حسب أن ذلك الشخص استولى على قليل ماله، وانصرف رجل الإعلانات إلى حال سبيله، وبمرور الوقت ازداد الأعمى حزناً لأنه لم يسمع رنين النقود منذ أن انتزع مجهول اللافتة التي تقول إنه أعمى وبحاجة إلى مساعدة من يده، وكتب عليها شيئاً ما ثم أعادها إليه، وعندما أدرك أن المساء حلّ، جمع حاجياته وهو يتحسر على ضعف حصيلة يومه من التسول، ثم مد يده إلى الصندوق الكرتوني لجمع ما به من قطع معدنية قليلة، فإذا بأصابعه تلامس أوراقاً كثيرة، فنادى الأعمى على صاحب المتجر الذي يجلس أمامه ليكشف له أمر الأوراق التي في الصندوق، فأبلغه الأخير أنها أوراق نقدية كثيرة وعالية القيمة. هنا طلب الأعمى من صاحب المتجر أن يقرأ له الكلام المكتوب على اللوحة التي في يده، فقرأها وكان نصها كما يلي «نحن في فصل الربيع ولكنني لا أستطيع التمتع بجماله« وما يستفاد من هذه الحكاية هو أننا جميعاً، بمن فينا المتسولون بحاجة إلى آراء وتوجيهات ذوي الشأن والاختصاص لتحقيق النتائج التي ننشدها.. فانظر كيف استخدم رجل الدعاية والإعلانات كلمات بسيطة جعلت الناس يحسون أكثر بمعاناة الأعمى ويتكالبون لتقديم العون المالي له.
في عاصمة خليجية رأيت ذات مرة محلا يحمل اسم «البعير للدواجن الحية»، وعندما عدت بعدها بعدة أشهر إلى الشارع الذي كان فيه ذلك المحل لالتقط صورة للافتة، اكتشفت أن المحل قد اختفى، وأدركت أن سوء اختيار الاسم أبعد عنه الزبائن، وفي لندن تصدر مجلة اسمها بيغ إشو Big Issue تعنى بشؤون المشردين، ويقوم المتشردون ببيعها ويشتريها الناس من باب التصدق، لأن عائدات مبيعها تنفق لتوفير المأوى والطعام للمشردين، وأذكر أن الرجل الذي كان يبيعها في محطة «هانغرز لين» لقطارات الأنفاق في غرب لندن التي كنت استخدمها يومياً، كان سكيراً، وكان يغفو وهو واقف، ثم إذا أحس باقتراب أقدام منه صاح بأعلى صوته: بيغ إشو.. فيكاد قلبك أن يتوقف لأنه ينطقها وكأنه يشتمك، وينتهي اليوم دون أن يبيع نسخة واحدة.. فانظر بين حاله وحال الأعمى الذي قام خبير بتحسين أحواله بالكلمة الحلوة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك