زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
أبو الجعافر عرَّافاً (1)
من عاداتي السنوية الراتبة أنني أشرشح العرّافين والعرافات وقارئي الطوالع والأبراج من الجنسين في نهاية ومطلع كل عام تقويمي (يا جماعة الخير حتى أكثر المسيحيين تشددا لا يسمي سنة مثل 2023 ميلادية، بل يسمونها في المستندات الرسمية «تقويمية/غريغورية»، بينما تجد ما نسميها نحن بالأعوام الميلادية في كتب التاريخ متبوعة بAD، ويرمز الحرفان للكلمتين اللاتينيتين اللتين تفيدان «بعد ميلاد المسيخ»)
ولكن وبما ان العام الحالي دخل في ربعه الأخير فإنني أريد ان اقدم أوراق اعتمادي كعراف، وبدأت صلتي بعالم التنجيم عندما كنت في نحو العاشرة من عمري وجاءت غجرية إلى بلدتنا في شمال السودان، والتف حولها عدد من نساء الحي لتقرأ لهن الطوالع، وكانت هموم معظمهن تتعلق بالأزواج المهاجرين في وسط السودان ومصر بحثاً عن الرزق، الذين كانت أخبارهم تنقطع عن زوجاتهم وعيالهم لمدد طويلة، في زمن كان فيه التواصل يتم فقط عبر البريد، وكان البريد سلحفائيا، يوصل الرسالة من بلد إلى آخر على بعد 50 كيلومترا في أسبوعين.
وفي بيئة تسود فيها الأمية والخرافات يكون الناس بحاجة إلى من يبشرهم بالخير والفأل الحسن، وكان هم النساء الأكبر أن يتأكدن من أن أزواجهن المهاجرين لم يقعوا ضحايا بنات المدن اللاتي يقال إنهن قليلات حياء وخطافات رجال، ويمكن الزواج بهن بسعر التكلفة. (كان أهلي النوبيون في شمال السودان، يتكلمون عن السودان وكأنه بلد أجنبي، بمعنى أنهم لم يكونوا يدركون أنهم جزء من السودان، فكان من يهاجر شمالا بحثا عن عمل يقول إنه مسافر الى مصر، بينما يقول كل من يتجه جنوبا صوب الخرطوم إنه مسافر إلى السودان، وبالتالي كان بنساء النوبة السودانية سوء ظن بنساء «السودان» ومصر).
وجاء الدور على أمي فوضعت على الرمل أمام الغجرية قرشاً (والمبلغ الذي يدفع لقارئات الطالع والبخت يسمى البياض) وبلسانها الطلق طفقت الغجرية تقول لأمي كلاماً يفتح النفس عن ثروات مفاجئة ونجاح وفلاح العيال، وعرسان وعرائس، وكان إلمام أمي والنسوة الأخريات باللغة العربية ضعيفاً، فمنطقتنا المعروفة ببلاد النوبة، كانت ولا تزال تتكلم لغة كان أجدادنا يتكلمونها قبل أكثر من 5000 سنة.
وبما أنني كنت أجلس إلى جوار أمي، فقد رفعت الغجرية عينيها ونظرت إلي وقالت: ما شاء الله عمرك طويل.. أجلك قصير.. فهمت أمي الجزئية المتعلقة بطول العمر، وانشرح صدرها، ورفعت قيمة البياض إلى خمسة قروش، مما جعل الغجرية تبرطم ببشارات إضافية. ورغم ان إلمامي بالعربية كان أفضل من إلمام أمي بها، إلا أنني لم أكن ضليعاً فيها بحيث أدرك التناقض بين طول العمر وقصر الأجل، بل فرحت مثل أمي بأن عمري سيكون طويلاً، وظللت أتباهى أمام أقراني بأن قارئة الودع (أصداف صغيرة يكون عددها عادة سبعة تلقى بها الغجرية أو الدجال على التراب ويعقب هذا تكليف كل صدفة بمهمة معينة فهذه تتعلق بالمال وتلك بالعيال والثالثة بالنجاح والرابعة بالزواج، إلخ)، المهم أنها قالت إنني سأعيش طويلا وسأصبح ثريا، ولهذا مازالت تلك العبارة عالقة بذهني.
طبعاً لا يحدث قط أن تقول قارئة ودع لمن يدفع البياض أن مستقبله زي الزفت. فالغجرية لا تستقر في مكان واحد أكثر من بضع ساعات. أما الدجالون الذين يقيمون طويلاً في مكان ما فإنهم يميلون - عكس الغجريات - إلى التحذير من شر محدق ومسيطر، وبذلك يتسنى لهم طلب أتعاب ورسوم إضافية لـ «منع حدوث المكروه!!».
ورأيت في مسيرة حياتي العجب العجاب من شتى صنوف الدجل، وعرفت العديدين من ضحايا الدجالين، حتى اكتسبت مهارات في هذا «الفن»، ومن عادتي الاهتمام بالتقارير التي تنشرها المجلات المحترمة عن أهم أحداث العام الإفرنجي الذي ينتهي في 31 ديسمبر من كل عام، ولا يفوتني بالطبع أن اقرأ تكهنات العرافين مع بدء كل سنة جديدة من شاكلة (سيشهد العام وفاة شخصية عربية مرموقة). وقد قررت اعتبارا من يناير المقبل أن أعمل لحسابي الخاص بتقديم تكهنات عن عام 2024 بالمجان، توطئة لتقديمها نظير مبالغ معلومة في السنوات المقبلة إذا كان عمري فعلاً كما قالت العرافة طويلاً وأجلي قصيراً.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك