زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
التلفزيون لا يصلح دادة
شهدت الأشهر القليلة الماضية كارثة إعلامية تمثلت في تدشين أول قناة تلفزيونية أمريكية مخصصة للأطفال ما بين سن ستة أشهر وثلاث سنوات، ويقول القائمون على أمر تلك القناة (بيبي فيرست تي في https://www.babyfirsttv.com/) وتعني «الطفل أولاً»، وبرامج القناة عبارة عن مجموعة ألعاب خفيفة تشد انتباه الأطفال وتعلمهم الأشكال الهندسية الأساسية (دائرة ومربع ومستطيل) وتمييز الألوان، وهناك برامج الغرض منها هدهدة الصغار لحملهم على النوم.
الكارثة الحقيقية هي أن تلك القناة قوبلت بترحاب فائق من ملايين العائلات الأمريكية، وستنتقل خدماتها إلى بريطانيا خلال الأشهر القليلة المقبلة، ومن المعروف أنه إذا عطست أمريكا وبريطانيا أصيب العرب بالبواسير وفتاق الحجاب الحاجز والحمل خارج الرحم، فإذا كنا قد استوردنا برامج الدعارة المقنعة والإسفاف والتفاهة واللغو، فهل يعقل أن ننجو من قناة كهذه غايتها جعل التلفزيون «دادة/ جليسة أطفال إلكترونية»؟ هل صار الأطفال عبئاً بحيث نسعى لابتكار وسيلة تلهيهم وتصرفهم عنا فلا يحتاجون لرعايتنا! هل هناك متعة تعادل متعة رؤية طفل رضيع يتعلم المشي ويقلب الطاولات ويحشو رغيف التوست في جهاز الفديو ويصاب بلوثة عقلية ويبدأ في الرفس و«الريالة» كلما رأى زجاجة أو كوب عصير في يد ضيف؟ ماذا سيقول عني ولدي الأكبر وزوجته بعد ان يسمعا بأمر هذه القناة وأنا الذي «طربقت» الدنيا على رأسيهما عندما رأيتهما يعطيان حفيدي آيباد لإلهائه عوضا عن مجالسته ومسامرته كما فعلت انا مع عيالي؟
حتى عندنا في العالم العربي حيث الأسرة أكثر تماسكا من نظيرتها الغربية، لم تعد الأمهات يغنين للرضع من عيالهن، بينما كانت أمهاتنا يؤلفن أهازيج خفيفة أو يرددن بعض المتوارث منها، لتهدئة الصغار عند البكاء أو تعبيرا عن الفرح لدخولهم حياة الأسرة (من محفوظات أغاني الهدهدة في السودان: النوم تعال/ سكِّت الجهال/ النوم، النوم ولدي الغالي/ النوم النوم يستر حالي – نعم ففي السودان نسمي صغار السن جهال ومفردها جاهل).
كنت وما أزال أعتقد أن التلفزيون أداة إعلامية مهمة وخطيرة، تستطيع أن تلعب دوراً كبيراً في التنوير والتوعية والترفيه، ولكن الشيء إذا فات حدَّه أنقلب ضده. فالتنوير صار تسليط الأنوار والأضواء على العورات، والتوعية صارت تعني أن التلفزيون «وعاء» ينضح بالوسخ والعفن والنتانة، والترفيه صار مفهوماً هلامياً تمارس بمقتضاه تجارة الرقيق الأبيض (الحمد لله أن السواد الذي يرمز في اللغة للبؤس وسوء الحظ والتعاسة لا يستخدم للرمز إلى الفسوق والفجور العادي أو الإلكتروني).
ما دور الأب أو الأم في الحياة إذا قام التلفزيون بمهمة الهاء طفل رضيع عن اللعب والعبث؟ كانت لي بنت «عذبتني» في طفولتها بشقاوتها وعنادها، وكانت لا تنام ما لم استلق على ظهري ورقدت هي فوق بطني فأطبطب على ظهرها بلطف. كانت مزعجة ومرعبة بدرجة أن جدتها لأمها، وكانت امرأة تتسم بالصبر الشديد وطول البال، كانت تقول كلما رأتها نائمة: نوم الظالم عبادة!! ويا ويلي إذا نمت قبلها. فقد كانت تدخل إصبعها في عيني أو فتحة أنفي فأصرخ وانتفض من الألم فتبتسم في خبث وتغمض عينيها لتوهمني بأنها فعلت ذلك وهي نائمة. وعندما كبرت وصارت تستحي أن تنام فوق بطني أو حتى قربي على السرير، أحسست بمرارة «الفراق».. مررت بتجربة الانسحاب withdrawal التي يمر بها «المدمن» عندما يتوقف عن تعاطي شيء معين! أصغر أولادي، وبعد أن كان مرحا ضحوكا وشقيا صار «ثقيل الدم» لأنه يريد أن يتصرف وأن يعامل كشخص كبير، وكان من قبل يسعد بالرقاد معنا أنا وأمه ويكون في قمة السرور عندما «أصارعه» أو أرمي عليه مخدة أو كرة مطاطية.
لم يعد في بيتنا ذلك الضجيج الحميم الذي يبعث الهدوء في الأعصاب، ولي حفيدان صغيران يعيشان في السعودية ويزوروننا ثلاث مرات، ونزورهم نحن مرتين في السنة، ومع هذا أحس بفجوة عاطفية طوال بعدهم عني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك