العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

التحرر الفكري في القرآن الكريم

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ٣٠ يوليو ٢٠٢٣ - 02:00

ليس‭ ‬عبثًا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أول‭ ‬آية‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬تنزل‭ ‬على‭ ‬رسولنا‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬هي‭ (‬اقرأ‭)‬،‭ ‬فهذه‭ ‬الدعوة‭ ‬من‭ ‬خالق‭ ‬الأكوان‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬للبشرية‭ ‬لدخول‭ ‬عصر‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬والتفكر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭ ‬وألغازه‭ ‬وعناصره،‭ ‬فالقراءة‭ ‬تحرر‭ ‬العقول‭ ‬المنغلقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر‭ ‬وزمان‭.‬

ثم‭ ‬تأتي‭ ‬سورة‭ ‬أخرى‭ ‬يقسم‭ ‬فيها‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬بالقلم،‭ ‬وتسمى‭ ‬به،‭ ‬وهي‭ ‬سورة‭ ‬القلم،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬سبحانه‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬آية‭ ‬بها‭: ‬‮«‬ن،‭ ‬وَالْقَلَمِ‭ ‬وَمَا‭ ‬يَسْطُرُونَ‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬حدد‭ ‬المنهجيات‭ ‬الموضوعية‭ ‬التي‭ ‬عندما‭ ‬يستخدمها‭ ‬الإنسان‭ ‬بطريقة‭ ‬موضوعية‭ ‬ممنهجة‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يتحرر‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬والخرافات‭ ‬والأوهام‭ ‬والشعوذات،‭ ‬وهما‭ (‬القراءة‭ ‬والقلم‭)‬،‭ ‬فبهذه‭ ‬الأدوات‭ ‬وما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬بعدهما‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬الأدوات‭ ‬التي‭ ‬تبني‭ ‬الحضارات‭ ‬والفكر‭ ‬البشري‭ ‬بمختلف‭ ‬علومه‭ ‬وأبعاده،‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬استقرار‭ ‬الأمم‭ ‬والإنسان‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المستويات‭.‬

ثم‭ ‬يأتي‭ ‬النهج‭ ‬القرآني‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المنظومة‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الآيات‭ ‬الكريمة،‭ ‬مثل‭ ‬الآيات‭ ‬التالية‭:‬

*‭ ‬‮«‬يَرْفَعِ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬الَّذِينَ‭ ‬آَمَنُوا‭ ‬مِنْكُمْ‭ ‬وَالَّذِينَ‭ ‬أُوتُوا‭ ‬الْعِلْمَ‭ ‬دَرَجَاتٍ‭ ‬وَاللَّهُ‭ ‬بِمَا‭ ‬تَعْمَلُونَ‭ ‬خَبِيرٌ‮»‬‭ (‬المجادلة‭: ‬11‭).  ‬

*‭ ‬‮«‬هَلْ‭ ‬يسْتَوِي‭ ‬الَّذِينَ‭ ‬يعْلَمُونَ‭ ‬وَالَّذِينَ‭ ‬لَا‭ ‬يعْلَمُونَ‮»‬‭ (‬الزمر‭: ‬9‭).‬

ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬آيات‭ ‬كثيرة‭ ‬يدعو‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬الإنسان‭ ‬‭ ‬دعوة‭ ‬صريحة‭ ‬وواضحة‭ ‬‭ ‬لاستخدام‭ ‬عقله‭ ‬والتحرر‭ ‬من‭ ‬الأوهام‭ ‬والأساطير‭ ‬والخرافات‭ ‬عند‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬الكون،‭ ‬فيقول‭ ‬تعالى‭: ‬

*‭ ‬‮«‬قُلْ‭ ‬سِيرُوا‭ ‬فِي‭ ‬الْأَرْضِ‭ ‬فَانْظُرُوا‭ ‬كَيفَ‭ ‬بَدَأَ‭ ‬الْخَلْقَ‮»‬‭ (‬العنكبوت‭: ‬20‭).‬

*‭ ‬‮«‬قُلِ‭ ‬انْظُرُوا‭ ‬مَاذَا‭ ‬فِي‭ ‬السَّمَاوَاتِ‭ ‬وَالْأَرْضِ‭ ‬وَمَا‭ ‬تُغْنِي‭ ‬الْآَيَاتُ‭ ‬وَالنُّذُرُ‭ ‬عَنْ‭ ‬قَوْمٍ‭ ‬لَا‭ ‬يُؤْمِنُونَ‮»‬‭ (‬يونس‭: ‬101‭).‬

ثم‭ ‬تأتي‭ ‬الأحاديث‭ ‬النبوية‭ ‬الشريفة‭ ‬لتؤكد‭ ‬هذا‭ ‬المعنى،‭ ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭:‬

‮«‬منْ‭ ‬سَلَكَ‭ ‬طَريقًا‭ ‬يَبْتَغِي‭ ‬فِيهِ‭ ‬علْمًا‭ ‬سهَّل‭ ‬اللَّه‭ ‬لَه‭ ‬طَريقًا‭ ‬إِلَى‭ ‬الجنةِ،‭ ‬وَإنَّ‭ ‬الملائِكَةَ‭ ‬لَتَضَعُ‭ ‬أجْنِحَتَهَا‭ ‬لِطالب‭ ‬الْعِلْمِ‭ ‬رِضًا‭ ‬بِما‭ ‬يَصْنَعُ،‭ ‬وَإنَّ‭ ‬الْعالِم‭ ‬لَيَسْتَغْفِرُ‭ ‬لَهُ‭ ‬منْ‭ ‬في‭ ‬السَّمَواتِ‭ ‬ومنْ‭ ‬فِي‭ ‬الأرْضِ‭ ‬حتَّى‭ ‬الحِيتانُ‭ ‬في‭ ‬الماءِ،‭ ‬وفَضْلُ‭ ‬الْعَالِم‭ ‬عَلَى‭ ‬الْعابِدِ‭ ‬كَفَضْلِ‭ ‬الْقَمر‭ ‬عَلى‭ ‬سَائِرِ‭ ‬الْكَوَاكِبِ،‭ ‬وإنَّ‭ ‬الْعُلَماءَ‭ ‬وَرَثَةُ‭ ‬الأنْبِياءِ‭ ‬وإنَّ‭ ‬الأنْبِياءَ‭ ‬لَمْ‭ ‬يُورِّثُوا‭ ‬دِينَارًا‭ ‬وَلا‭ ‬دِرْهَمًا‭ ‬وإنَّما‭ ‬ورَّثُوا‭ ‬الْعِلْمَ،‭ ‬فَمنْ‭ ‬أَخَذَهُ‭ ‬أَخَذَ‭ ‬بِحظٍّ‭ ‬وَافِرٍ‮»‬‭ ‬رواهُ‭ ‬أَبُو‭ ‬داود‭ ‬والترمذيُّ‭.‬

وربما‭ ‬هنا‭ ‬يطرح‭ ‬سؤال‭ ‬مهم،‭ ‬لماذا‭ ‬أرادنا‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬أن‭ ‬نفكر؟‭ ‬لماذا‭ ‬استثنى‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الكائنات‭ ‬الحية‭ ‬فخلق‭ ‬للبشر‭ ‬عقولاً‭ ‬لتفكر؟‭ ‬

مبدئيًا،‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ (‬أن‭ ‬نفكر‭) ‬فهذا‭ ‬أمر‭ ‬حتمي،‭ ‬فبالتفكير‭ ‬يستطيع‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬الحلول‭ ‬للمشاكل‭ ‬والأزمات‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وبالتفكير‭ ‬يمكنه‭ ‬معرفة‭ ‬دهاليز‭ ‬الحياة،‭ ‬وبالتفكير‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬القوانين‭ ‬والأنظمة‭ ‬الضرورية‭ ‬لتبسيط‭ ‬أمور‭ ‬الحياة،‭ ‬وبالتفكير‭ ‬نتحرر‭ ‬من‭ ‬الوهم‭ ‬والخرافات‭ ‬وسيطرة‭ ‬الأفكار‭ ‬والاطروحات‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬البشر،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬لا‭ ‬يضع‭ ‬العقل‭ ‬والتفكير‭ ‬في‭ ‬مرتبة‭ ‬دونية‭ ‬أو‭ ‬ترفيه‭ ‬وإنما‭ ‬يطالب‭ ‬الإنسان‭ ‬بالتفكير‭ ‬والتفكر‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬أمور‭ ‬عدة،‭ ‬منها‭:‬

النظر‭ ‬إلى‭ ‬النفس‭ ‬والأشياء‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬به‭: ‬في‭ ‬آيات‭ ‬كثيرة‭ ‬يدعو‭ ‬فيها‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬وتركيب‭ ‬جسمه،‭ ‬وكيفية‭ ‬تكوينه‭ ‬وخلقه‭ ‬من‭ ‬حيوان‭ ‬منوي‭ ‬وبيوضة،‭ ‬فيدعو‭ ‬إلى‭ ‬الفحص‭ ‬والتأمل‭ ‬والروية‭ ‬والتبصر‭ ‬بحقائق‭ ‬الوجود‭ ‬والخلق،‭ ‬ففي‭ ‬سورة‭ ‬الذاريات‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬21‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭ ‬‮«‬وفي‭ ‬أنفسكم‭ ‬أفلا‭ ‬تبصرون‮»‬‭.‬

ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬يدعو‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬الإنسان‭ ‬تارة‭ ‬إلى‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬طعامه‭ ‬بهدف‭ ‬أن‭ ‬يتعرف‭ ‬إلى‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬خلق‭ ‬منه‭ ‬هذا‭ ‬الطعام‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نباتات‭ ‬تزرع‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬ماشية‭ ‬تربى‭ ‬وتؤكل،‭ ‬مثل‭ ‬الأغنام‭ ‬والبقر‭ ‬والجمال‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬ففي‭ ‬سورة‭ ‬عبس‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬24‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭ ‬‮«‬فلينظر‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬طعامه‮»‬،‭ ‬وتارة‭ ‬إلى‭ ‬الكون‭.‬

النظر‭ ‬إلى‭ ‬الفضاء‭ ‬الخارجي‭ ‬والأكوان‭: ‬في‭ ‬آيات‭ ‬كثيرة‭ ‬يدعو‭ ‬فيها‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬إلى‭ ‬التفكر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭ ‬الفسيح‭ ‬والأرض‭ ‬والشمس‭ ‬والقمر‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬بالإنسان‭ ‬من‭ ‬أجرام‭ ‬سماوية‭ ‬وكواكب‭ ‬ونجوم‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فمثلاً‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬آل‭ ‬عمران‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬190‭ ‬191‭ ‬‮«‬إِنَّ‭ ‬فِي‭ ‬خَلْقِ‭ ‬السَّمَاوَاتِ‭ ‬وَالْأَرْضِ‭ ‬وَاخْتِلَافِ‭ ‬اللَّيْلِ‭ ‬وَالنَّهَارِ‭ ‬لَآيَاتٍ‭ ‬لِأُولِي‭ ‬الْأَلْبَابِ،‭ ‬الَّذِينَ‭ ‬يَذْكُرُونَ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬قِيَامًا‭ ‬وَقُعُودًا‭ ‬وَعَلَى‭ ‬جُنُوبِهِمْ‭ ‬وَيَتَفَكَّرُونَ‭ ‬فِي‭ ‬خَلْقِ‭ ‬السَّمَاوَاتِ‭ ‬وَالْأَرْضِ‭ ‬رَبَّنَا‭ ‬مَا‭ ‬خَلَقْتَ‭ ‬هَذَا‭ ‬بَاطِلًا‭ ‬سُبْحَانَكَ‭ ‬فَقِنَا‭ ‬عَذَابَ‭ ‬النَّارِ‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬روي‭ ‬عنه‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬أنه‭ ‬قال‭ ‬عند‭ ‬نزول‭ ‬هذه‭ ‬الآيات‭ (‬لقد‭ ‬نزلت‭ ‬عليّ‭ ‬الليلة‭ ‬آية‭ ‬ويل‭ ‬لمن‭ ‬قرأها‭ ‬ولم‭ ‬يتفكر‭ ‬فيها‭)‬،‭ ‬وحتى‭ ‬هذه‭ ‬يدعو‭ ‬فيها‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬بالتفكر‭ ‬والتدبر‭.‬

التحرر‭ ‬من‭ ‬التحكم‭ ‬البشري‭: ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬بعنوان‭ (‬الإسلام‭ ‬وثقافة‭ ‬تحرير‭ ‬العقل‭) ‬للأستاذ‭ ‬يسري‭ ‬عبدالغني‭ ‬عبدالله،‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬لقد‭ ‬عاب‭ ‬الإسلام‭ ‬على‭ ‬أسرى‭ ‬التقليد‭ ‬إعراضهم‭ ‬عن‭ ‬الحق‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬أنبياء‭ ‬الله،‭ ‬ورسله،‭ ‬وجمودهم‭ ‬على‭ ‬اتِّباع‭ ‬ما‭ ‬وجدوا‭ ‬عليه‭ ‬آباءهم،‭ ‬وأجدادهم،‭ ‬وهم‭ ‬إذ‭ ‬يرتكبون‭ ‬الفواحش‭ ‬باسم‭ ‬الدين،‭ ‬فهم‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك‭ ‬تعصُّبًا‭ ‬للجمود‭ ‬والتبعية‭ ‬العمياء‭ ‬المخالفة‭ ‬للعقل‭ ‬والمنطق‭ ‬السليم‭. ‬قال‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬المائدة‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬104‭ ‬‮«‬وإذا‭ ‬قِيْلَ‭ ‬لهم‭ ‬تَعالَوا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أنزل‭ ‬الله،‭ ‬وإلى‭ ‬الرَّسول،‭ ‬قالوا‭ ‬حسبُنا‭ ‬ما‭ ‬وجدنا‭ ‬عليه‭ ‬آباءنا‭ ‬أَوْ‭ ‬لَوْ‭ ‬كان‭ ‬آباؤُهم‭ ‬لا‭ ‬يَعْلَمُون‭ ‬شيئًا‭ ‬ولا‭ ‬يَهْتَدُون‮»‬،‭ ‬فهؤلاء‭ ‬النفر‭ ‬من‭ ‬النَّاس،‭ ‬إذا‭ ‬قيل‭ ‬لهم‭ ‬اتَّبعوا‭ ‬منهج‭ ‬ما‭ ‬أنزل‭ ‬الله،‭ ‬منهج‭ ‬الهدى‭ ‬والرَّشاد‭ ‬والتفكير‭ ‬والتعقل،‭ ‬قالوا‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬تفكير‭: ‬‮«‬بل‭ ‬نتَّبع‭ ‬ما‭ ‬ألفينا‭ ‬عليه‭ ‬آباءنا‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هؤلاء‭ ‬الآباء‭ ‬لا‭ ‬يعقلون‭ ‬شيئًا‭.‬

إنَّ‭ ‬التقليد‭ ‬الأعمى‭ ‬أكبر‭ ‬شرٍّ‭ ‬يُبتلى‭ ‬به‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات،‭ ‬لأنَّه‭ ‬يُميت‭ ‬مواهب‭ ‬الفكر‭ ‬والإبداع‭ ‬والابتكار،‭ ‬ويقف‭ ‬حجر‭ ‬عثرة‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬النظر‭ ‬الواعي،‭ ‬والتفكير‭ ‬السليم،‭ ‬والتطور‭ ‬الحضاري،‭ ‬فهو‭ ‬يجمِّد‭ ‬قدرات‭ ‬الإنسان‭ ‬الفكرية،‭ ‬وطاقاته‭ ‬الإبداعية،‭ ‬ويجعلها‭ ‬راكدة،‭ ‬آسنة‭ ‬غير‭ ‬متحرِّكة‭ ‬أو‭ ‬متطوِّرة‭. ‬إنَّ‭ ‬التقليد‭ ‬الأعمى‭ ‬يجعل‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يميِّز‭ ‬بين‭ ‬الحق‭ ‬والباطل،‭ ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬الصواب‭ ‬والخطأ،‭ ‬ولا‭ ‬يفرِّق‭ ‬بين‭ ‬التقليد‭ ‬في‭ ‬الخير‭ ‬والتقليد‭ ‬في‭ ‬الشر،‭ ‬ويحمل‭ ‬أهله‭ ‬على‭ ‬الإعراض‭ ‬عن‭ ‬الحق،‭ ‬ومعاداة‭ ‬أهله‭.‬

والتقليد‭ ‬الأعمى‭ ‬يدفعهم‭ ‬دفعًا‭ ‬إلى‭ ‬التعصُّب‭ ‬الجماعي‭ ‬لحماية‭ ‬المذاهب‭ ‬والأفكار‭ ‬الموروثة،‭ ‬والإبقاء‭ ‬عليها،‭ ‬ومعارضة‭ ‬كل‭ ‬إصلاح‭ ‬جديد‭ ‬يخالفها‭ ‬أو‭ ‬ينتقص‭ ‬من‭ ‬قداستها،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الإصلاح‭ ‬أساسيًّا‭ ‬وجوهريًّا‭ ‬لخير‭ ‬الناس‭ ‬وصالحهم‭.‬

الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الاستقلال‭ ‬الفكري‭: ‬كما‭ ‬يدعو‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬إلى‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬البشر،‭ ‬فإنه‭ ‬يدعو‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬الاستقلال‭ ‬والتحرر‭ ‬الفكري،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬الحكمة‭ ‬الانقياد‭ ‬وراء‭ ‬تفكير‭ ‬إنسان‭ ‬لمجرد‭ ‬أنه‭ ‬فكر‭ ‬وقال‭ ‬لنا‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬هو‭ ‬التفكير‭ ‬الصحيح‮»‬،‭ ‬فالقرآن‭ ‬الكريم‭ ‬يتعب‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬النوعية‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬فيقول‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الملك‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬10‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬مثل‭ ‬هؤلاء‭ ‬‮«‬لَوْ‭ ‬كُنَّا‭ ‬نَسْمَعُ‭ ‬أَوْ‭ ‬نَعْقِلُ‭ ‬مَا‭ ‬كُنَّا‭ ‬فِي‭ ‬أَصْحَابِ‭ ‬السَّعِيرِ‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬سورة‭ ‬الأعراف‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬179‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭ ‬‮«‬وَلَقَدْ‭ ‬ذَرَأْنَا‭ ‬لِجَهَنَّمَ‭ ‬كَثِيرًا‭ ‬مِنَ‭ ‬الْجِنِّ‭ ‬وَالإِنسِ‭ ‬لَهُمْ‭ ‬قُلُوبٌ‭ ‬لا‭ ‬يَفْقَهُونَ‭ ‬بِهَا‭ ‬وَلَهُمْ‭ ‬أَعْيُنٌ‭ ‬لا‭ ‬يُبْصِرُونَ‭ ‬بِهَا‭ ‬وَلَهُمْ‭ ‬آذَانٌ‭ ‬لا‭ ‬يَسْمَعُونَ‭ ‬بِهَا‭ ‬أُوْلَئِكَ‭ ‬كَالأَنْعَامِ‭ ‬بَلْ‭ ‬هُمْ‭ ‬أَضَلُّ‭ ‬أُوْلَئِكَ‭ ‬هُمُ‭ ‬الْغَافِلُونَ‮»‬‭.‬

فالتحرر‭ ‬الفكري‭ ‬ليس‭ ‬أمرًا‭ ‬كماليًا‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬والقرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬حيوي‭ ‬وشيء‭ ‬أساسي،‭ ‬ومن‭ ‬الأمور‭ ‬الضرورية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للمسلم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إسلامه‭ ‬مقبولاً‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬العقيدة‭ ‬إلا‭ ‬بالاعتراف‭ ‬بها،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬لوازم‭ ‬المدلول‭ ‬الأولى‭ ‬لكلمة‭ ‬الشهادة‭ ‬التي‭ ‬تنزع‭ ‬الصبغة‭ ‬الإلهية‭ ‬عن‭ ‬جميع‭ ‬المخلوقات،‭ ‬ويرجع‭ ‬إلى‭ ‬مبدأ‭ ‬إلغاء‭ ‬أفضلية‭ ‬شخص‭ ‬على‭ ‬آخر‭ ‬وتفوقه‭ ‬عليه‭ ‬بغير‭ ‬الوسائل‭ ‬العادية‭ ‬والأسباب‭ ‬الطبيعية‭. ‬إن‭ ‬المتتبع‭ ‬لنصوص‭ ‬الإسلام‭ ‬وتشريعاته‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬اليقين‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الطابع‭ ‬سار‭ ‬فيها‭ ‬سريان‭ ‬الدم‭ ‬في‭ ‬الجسد‭ ‬والماء‭ ‬في‭ ‬الأغصان‭. ‬فالإنسان‭ ‬هو‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬مسؤول‭ ‬عن‭ ‬أفكاره‭ ‬وقرارته،‭ ‬ففي‭ ‬سورة‭ ‬القيامة‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭ ‬‮«‬بَلِ‭ ‬الْإِنسَانُ‭ ‬عَلَى‭ ‬نَفْسِهِ‭ ‬بَصِيرَةٌ‭ ‬وَلَوْ‭ ‬أَلْقَى‭ ‬مَعَاذِيرَهُ‮»‬‭. ‬ففي‭ ‬هذه‭ ‬الآيات‭ ‬أعطى‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬للإنسان‭ ‬كشخص‭ ‬مسؤول‭ ‬عن‭ ‬تصرفاته‭ ‬وتفكيره‭ ‬واختياراته‭ ‬قيمة‭ ‬واقعية‭ ‬كبرى،‭ ‬فقد‭ ‬جعله‭ ‬رقيبًا‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬وتفكيره‭ ‬وقراراته‭ ‬يتحمل‭ ‬تبعات‭ ‬عمله‭ ‬وحده،‭ ‬ولا‭ ‬ينفعه‭ ‬إقناع‭ ‬غيره‭ ‬بحسن‭ ‬سلوكه‭ ‬متى‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬مخالفًا‭ ‬للواقع‭ ‬ولو‭ ‬استطاع‭ ‬ستر‭ ‬نفسه‭ ‬بضباب‭ ‬المعاذير‭ ‬الواهية‭.‬

تبني‭ ‬المنهج‭ ‬التحليلي‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬المشكلات‭ ‬والأزمات‭: ‬ويمكن‭ ‬ملاحظة‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬الرسل‭ ‬والأنبياء،‭ ‬وربما‭ ‬أشهرها‭ ‬قصة‭ ‬سيدنا‭ ‬يوسف‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬وحلم‭ ‬الملك‭ ‬والأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬كادت‭ ‬تعصف‭ ‬بمصر‭ ‬والدول‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬حولها،‭ ‬فلم‭ ‬يكتف‭ ‬يوسف‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬بتفسير‭ ‬الحلم‭ ‬لرسول‭ ‬الملك،‭ ‬وإنما‭ ‬قام‭ ‬بتأطير‭ ‬المنهج‭ ‬التحليلي‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬الحلم،‭ ‬ووضع‭ ‬المنهج‭ ‬الأساسي‭ ‬لكيفية‭ ‬إدارة‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ووضع‭ ‬كل‭ ‬الحلول‭ ‬الناجعة‭ ‬لإدارة‭ ‬الأزمة،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تمت‭ ‬تبرئته،‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬الملك‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬هو‭ ‬بنفسه‭ ‬بتنفيذ‭ ‬الحلول‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬لإدارة‭ ‬تلك‭ ‬الأزمة،‭ ‬منهجية‭ ‬متكاملة‭ ‬يدعو‭ ‬فيها‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬الإنسان‭ ‬للتفكر‭ ‬والتدبر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النوعية‭ ‬من‭ ‬المنهجيات‭ ‬لإدارة‭ ‬الأزمات‭.‬

تبني‭ ‬المناهج‭ ‬القيادية‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭: ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬نتذكر‭ ‬المناهج‭ ‬القيادية‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نتذكر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬والحكايات‭ ‬التي‭ ‬ورد‭ ‬ذكرها‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬ومن‭ ‬أشهرها‭ ‬حكاية‭ ‬سيدنا‭ ‬سليمان‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬وكيفية‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬الهدهد‭ ‬والسيدة‭ ‬بلقيس،‭ ‬وكذلك‭ ‬ذو‭ ‬القرنين‭ ‬وكيفية‭ ‬إدارة‭ ‬الوضع‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يجوب‭ ‬العالم،‭ ‬وربما‭ ‬هذا‭ ‬سنخصص‭ ‬له‭ ‬مقالا‭ ‬آخر‭. ‬

وفي‭ ‬الختام،‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬لم‭ ‬يضع‭ ‬الأقفال‭ ‬على‭ ‬العقول‭ ‬وحجرها‭ ‬عن‭ ‬التفكير،‭ ‬وإنما‭ ‬فتح‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الأقفال‭ ‬ومنح‭ ‬العقل‭ ‬وظيفته‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬أهداف‭ ‬كثيرة‭ ‬ذكرنا‭ ‬هنا‭ ‬بعضها‭. ‬فالقرآن‭ ‬الكريم‭ ‬حافل‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭ ‬والحقائق‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬والتأمل،‭ ‬لذلك‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬ونفكر‭ ‬ونتدبر‭.‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا