العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن أهلي العرنوبيين مجددا (3)

على‭ ‬ذمة‭ ‬أهلنا‭ ‬النوبيين‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬بلدتنا‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬مخابئ‭ ‬للجن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ركن‭ ‬ومنحنى،‭ ‬ويسهل‭ ‬على‭ ‬الكبير‭ ‬والصغير‭ ‬تصديق‭ ‬ذلك،‭ ‬لأن‭ ‬تلك‭ ‬البلدة‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬المصابيح‭ ‬الكهربائية‭ ‬إلا‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة،‭ ‬وعندما‭ ‬يكون‭ ‬الظلام‭ ‬جاثما‭ ‬على‭ ‬مئات‭ ‬الكيلومترات‭ ‬المربعة،‭ ‬فإن‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬مستخبي‮»‬‭ ‬في‭ ‬الدهمة‭ ‬السوداء‭.‬

وكانت‭ ‬الطاحونة‭ ‬وكرا‭ ‬للجان‭ ‬حسب‭ ‬سجلات‭ ‬البلدة‭ ‬التاريخية،‭ ‬وكانت‭ ‬رحاها‭ ‬تدور‭ ‬ليلا‭ ‬فيقول‭ ‬الناس‭ ‬إن‭ ‬الجان‭ ‬يقومون‭ ‬بتشغيلها،‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬العبث‭ ‬أو‭ ‬لتصدير‭ ‬الدقيق‭ ‬لبعض‭ ‬قبائل‭ ‬الجن‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬قاحلة،‭ ‬وفي‭ ‬ذات‭ ‬إجازة‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬البلدة‭ ‬أحد‭ ‬أبنائها‭ ‬من‭ ‬بتوع‭ ‬المدارس‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬وانزعج‭ ‬لأن‭ ‬الطاحونة‭ ‬تعمل‭ ‬ليلا‭ ‬فتسلل‭ ‬اليها‭ ‬رغم‭ ‬تحذيرات‭ ‬الناس‭ ‬بأن‭ ‬الجن‭ ‬سـ‮«‬يسخطوه‮»‬،‭ ‬وفوجئ‭ ‬بأن‭ ‬فني‭ ‬الطاحونة‭ ‬يقوم‭ ‬بتشغيلها،‭ ‬مستغلا‭ ‬توهُّم‭ ‬الناس‭ ‬أنها‭ ‬تدور‭ ‬بفعل‭ ‬الجان،‭ ‬وذلك‭ ‬بالطبع‭ ‬لبيع‭ ‬الطحين‭ ‬لحسابه‭ ‬الشخصي،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬يبدد‭ ‬وقود‭ ‬الجازولين‭ ‬الشحيح‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يستخدم‭ ‬لتدوير‭ ‬ماكينات‭ ‬الطاحونة،‭ ‬فلما‭ ‬أبلغ‭ ‬ابن‭ ‬المدارس‭ ‬أهله‭ ‬بحيلة‭ ‬فني‭ ‬الطاحونة،‭ ‬استطاع‭ ‬الأخير‭ ‬وبكل‭ ‬سهولة‭ ‬إقناع‭ ‬الناس‭ ‬بأن‭ ‬الجن‭ ‬يتقمصون‭ ‬شخصيته‭ ‬وأنهم‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬قد‭ ‬أصابوا‭ ‬صاحبنا‭ ‬‮«‬المتفلسف‮»‬‭ ‬بمس‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إخضاعه‭ ‬للعلاج‭ ‬لطرد‭ ‬الجن‭. ‬وهجم‭ ‬الجماعة‭ ‬على‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬المدارس‮»‬‭ ‬وربطوه‭ ‬بالحبال‭ ‬وأتوا‭ ‬بـ«الفكي‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬في‭ ‬قاموس‭ ‬العامية‭ ‬السودانية‭ ‬تعني‭ ‬‮«‬الفقيه‮»‬‭ ‬يتم‭ ‬توزيعها‭ ‬وتلبيسها‭ ‬لكل‭ ‬راغب،‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬الفكي‭ ‬انهال‭ ‬على‭ ‬صاحبنا‭ ‬ضرباً‭ ‬بالكرباج‭ ‬السوداني‭ ‬الشهير‭ ‬بزعم‭ ‬أن‭ ‬الضرب‭ ‬سيخيف‭ ‬الشيطان‭ ‬الذي‭ ‬حلّ‭ ‬بجسد‭ ‬صاحبنا،‭ ‬وبعد‭ ‬مقاومة‭ ‬يائسة‭ ‬رأى‭ ‬صاحبنا‭ ‬أن‭ ‬يتصنع‭ ‬الشفاء،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تسنى‭ ‬له‭ ‬الهرب‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬فخرج‭ ‬من‭ ‬بلدتنا،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬أوصافه‭ ‬كالآتي‭: ‬أخضر‭ ‬اللون،‭ ‬متوسط‭ ‬القامة،‭ ‬يبدو‭ ‬عليه‭ ‬الهدوء‭ ‬ولكنه‭ ‬مسكون‭ ‬بالجن‭ ‬فاجتنبوه‭. ‬أهل‭ ‬السودان،‭ ‬الذين‭ ‬يزعم‭ ‬البعض‭ ‬منهم‭ ‬أنهم‭ ‬عرب‭ ‬أقحاح‭ ‬يمتد‭ ‬نسبهم‭ ‬إلى‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬لديهم‭ ‬لغة‭ ‬عجيبة‭: ‬الانسان‭ ‬الاسمر‭ ‬يقولون‭ ‬عنه‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬أخضر‮»‬‭ ‬والاسود‭ ‬يسمونه‭ ‬‮«‬أزرق‮»‬‭. ‬وصاحب‭ ‬اللون‭ ‬الفاتح‭ ‬‮«‬أحمر‮»‬‭ -‬وبالمناسبة‭ ‬فهذه‭ ‬توصيفات‭ ‬كانت‭ ‬معروفة‭ ‬لدى‭ ‬العرب‭ ‬الأقدمين‭.‬

ما‭ ‬علينا‭ ‬فقد‭ ‬هرب‭ ‬من‭ ‬قريتنا‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬صفوة‭ ‬أبنائها،‭ ‬بينما‭ ‬كفّ‭ ‬عامل‭ ‬الطاحونة‭ ‬عن‭ ‬تشغيل‭ ‬الطاحونة‭ ‬ليلاً،‭ ‬لئلا‭ ‬ينكشف‭ ‬أمره‭ ‬مجدداً‭ ‬واكتفى‭ ‬بسرقة‭ ‬الجازولين‭ ‬وزيوت‭ ‬التشحيم‭ ‬المخصصة‭ ‬للطاحونة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أوهم‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬أن‭ ‬الجن‭ ‬يسرقونها‭ ‬لأنها‭ ‬تشفيهم‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬الجلدية،‭ ‬ولما‭ ‬ظهرت‭ ‬عليه‭ ‬علامات‭ ‬الثراء‭ ‬بحيث‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يتزوج‭ ‬باثنتين‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة،‭ ‬صدّق‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬أن‭ ‬الجن‭ ‬كافأوه‭ ‬على‭ ‬صمته‭ ‬عن‭ ‬جرائمهم‭ ‬بمنحه‭ ‬سبائك‭ ‬ذهبية‭. ‬وعاش‭ ‬العامل‭ ‬مع‭ ‬زوجاته‭ ‬في‭ ‬ثبات‭ ‬ونبات‭ ‬وأنجب‭ ‬جيشاً‭ ‬من‭ ‬الصبيان‭ ‬والبنات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اشتعل‭ ‬الحريق‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬ذات‭ ‬صباح‭ ‬وبدأت‭ ‬براميل‭ ‬الجازولين‭ ‬تتطاير‭ ‬في‭ ‬الهواء،‭ ‬ولم‭ ‬يفلح‭ ‬الجن‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يخزنون‭ ‬تلك‭ ‬البراميل‭ ‬في‭ ‬داره‭ ‬في‭ ‬إطفاء‭ ‬النيران‭.  ‬وقال‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬إن‭ ‬الجن‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬غاضبون‭ ‬من‭ ‬عامل‭ ‬الطاحونة‭ ‬لسبب‭ ‬أو‭ ‬لآخر‭ ‬فقرروا‭ ‬الاستغناء‭ ‬عن‭ ‬خدماته‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يمتد‭ ‬غضب‭ ‬الجن‭ ‬إليهم‭.‬

أتعس‭ ‬مراحل‭ ‬الدراسة‭ ‬للعرنوبيين‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬المتوسطة‮»‬‭. ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية‭ ‬كان‭ ‬جميع‭ ‬التلاميذ،‭ ‬ومعظم‭ ‬المدرسين‭ ‬نوبيين،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كانت‭ ‬لغة‭ ‬التخاطب‭ ‬داخل‭ ‬وخارج‭ ‬حجرات‭ ‬الدراسة‭ ‬هي‭ ‬النوبية‭.  ‬أما‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬فقد‭ ‬فوجئنا‭ ‬بوجود‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الناطقين‭ ‬بالعربية‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬الدراسة،‭ ‬وكانت‭ ‬الكارثة‭ ‬أن‭ ‬المدرسة‭ ‬تعاقب‭ ‬بالجلد‭ ‬من‭ ‬يضبط‭ ‬متلبساً‭ ‬بالتحدث‭ ‬بالنوبية‭. ‬كم‭ ‬كنا‭ ‬مظلومين،‭ ‬لو‭ ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬زماننا‭ ‬هذا‭ ‬لتحركت‭ ‬اليونسكو،‭ ‬والفيفا‭ ‬وهيئة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬وجامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬لإدانة‭ ‬‮«‬التعريب‭ ‬القسري‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬العقاب‭ ‬الجسدي‭ ‬الذي‭ ‬يوقعه‭ ‬علينا‭ ‬المدرسون‭ ‬قاسياً،‭ ‬يعني‭ ‬بقاموس‭ ‬العصر‭ ‬كان‭ ‬شكلاً‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التطهير‭ ‬العرقي‭. ‬وللآباء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬عبارة‭ ‬سخيفة‭ ‬كانوا‭ ‬يبيحون‭ ‬بها‭ ‬للمدرسين‭ ‬حق‭ ‬إقامة‭ ‬الحد‭ ‬على‭ ‬أطفالهم‭ ‬لأتفه‭ ‬الاسباب‭.  ‬يقولون‭ ‬لهم‭: ‬لكم‭ ‬اللحم‭ ‬ولنا‭ ‬العظم‭. ‬ومعنى‭ ‬هذا‭: ‬أيها‭ ‬المدرسون‭ ‬اضربوهم‭ ‬وقطّعوا‭ ‬لحومهم،‭ ‬ولكن‭ ‬إياكم‭ ‬وكسر‭ ‬عظامهم‭.  ‬يا‭ ‬سلام‭ ‬على‭ ‬الحنان‭ ‬والشفقة‭.  ‬

‭(‬العرنوبيون‭ ‬جمع‭ ‬عرنوبي‭ ‬أي‭ ‬عربي‭ - ‬نوبي‭) ‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا