زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن أهلي العرنوبيين مجددا (3)
على ذمة أهلنا النوبيين فقد كانت في بلدتنا في شمال السودان مخابئ للجن في كل ركن ومنحنى، ويسهل على الكبير والصغير تصديق ذلك، لأن تلك البلدة لم تعرف المصابيح الكهربائية إلا قبل سنوات قليلة، وعندما يكون الظلام جاثما على مئات الكيلومترات المربعة، فإن العقل البشري يفترض أن هناك «مستخبي» في الدهمة السوداء.
وكانت الطاحونة وكرا للجان حسب سجلات البلدة التاريخية، وكانت رحاها تدور ليلا فيقول الناس إن الجان يقومون بتشغيلها، من باب العبث أو لتصدير الدقيق لبعض قبائل الجن التي تعيش في مناطق قاحلة، وفي ذات إجازة عاد إلى البلدة أحد أبنائها من بتوع المدارس الذين عاشوا في المدينة، وانزعج لأن الطاحونة تعمل ليلا فتسلل اليها رغم تحذيرات الناس بأن الجن سـ«يسخطوه»، وفوجئ بأن فني الطاحونة يقوم بتشغيلها، مستغلا توهُّم الناس أنها تدور بفعل الجان، وذلك بالطبع لبيع الطحين لحسابه الشخصي، وكان في ذلك يبدد وقود الجازولين الشحيح الذي كان يستخدم لتدوير ماكينات الطاحونة، فلما أبلغ ابن المدارس أهله بحيلة فني الطاحونة، استطاع الأخير وبكل سهولة إقناع الناس بأن الجن يتقمصون شخصيته وأنهم لا شك قد أصابوا صاحبنا «المتفلسف» بمس ولا بد من إخضاعه للعلاج لطرد الجن. وهجم الجماعة على «ابن المدارس» وربطوه بالحبال وأتوا بـ«الفكي» وهي كلمة في قاموس العامية السودانية تعني «الفقيه» يتم توزيعها وتلبيسها لكل راغب، المهم أن الفكي انهال على صاحبنا ضرباً بالكرباج السوداني الشهير بزعم أن الضرب سيخيف الشيطان الذي حلّ بجسد صاحبنا، وبعد مقاومة يائسة رأى صاحبنا أن يتصنع الشفاء، إلى أن تسنى له الهرب ذات ليلة فخرج من بلدتنا، ولم يعد حتى الآن. أوصافه كالآتي: أخضر اللون، متوسط القامة، يبدو عليه الهدوء ولكنه مسكون بالجن فاجتنبوه. أهل السودان، الذين يزعم البعض منهم أنهم عرب أقحاح يمتد نسبهم إلى امرئ القيس، لديهم لغة عجيبة: الانسان الاسمر يقولون عنه إنه «أخضر» والاسود يسمونه «أزرق». وصاحب اللون الفاتح «أحمر» -وبالمناسبة فهذه توصيفات كانت معروفة لدى العرب الأقدمين.
ما علينا فقد هرب من قريتنا واحد من صفوة أبنائها، بينما كفّ عامل الطاحونة عن تشغيل الطاحونة ليلاً، لئلا ينكشف أمره مجدداً واكتفى بسرقة الجازولين وزيوت التشحيم المخصصة للطاحونة بعد أن أوهم أهل القرية أن الجن يسرقونها لأنها تشفيهم من الأمراض الجلدية، ولما ظهرت عليه علامات الثراء بحيث استطاع أن يتزوج باثنتين دفعة واحدة، صدّق أهل القرية أن الجن كافأوه على صمته عن جرائمهم بمنحه سبائك ذهبية. وعاش العامل مع زوجاته في ثبات ونبات وأنجب جيشاً من الصبيان والبنات إلى أن اشتعل الحريق في بيته ذات صباح وبدأت براميل الجازولين تتطاير في الهواء، ولم يفلح الجن الذين كانوا يخزنون تلك البراميل في داره في إطفاء النيران. وقال أهل القرية إن الجن لا بد غاضبون من عامل الطاحونة لسبب أو لآخر فقرروا الاستغناء عن خدماته كي لا يمتد غضب الجن إليهم.
أتعس مراحل الدراسة للعرنوبيين كانت «المتوسطة». في المرحلة الابتدائية كان جميع التلاميذ، ومعظم المدرسين نوبيين، وبالتالي كانت لغة التخاطب داخل وخارج حجرات الدراسة هي النوبية. أما في المدرسة المتوسطة فقد فوجئنا بوجود عدد كبير من الناطقين بالعربية معنا في غرف الدراسة، وكانت الكارثة أن المدرسة تعاقب بالجلد من يضبط متلبساً بالتحدث بالنوبية. كم كنا مظلومين، لو حدث ذلك في زماننا هذا لتحركت اليونسكو، والفيفا وهيئة الصحة العالمية وجامعة الدول العربية لإدانة «التعريب القسري». وقد كان العقاب الجسدي الذي يوقعه علينا المدرسون قاسياً، يعني بقاموس العصر كان شكلاً من أشكال التطهير العرقي. وللآباء في العالم العربي عبارة سخيفة كانوا يبيحون بها للمدرسين حق إقامة الحد على أطفالهم لأتفه الاسباب. يقولون لهم: لكم اللحم ولنا العظم. ومعنى هذا: أيها المدرسون اضربوهم وقطّعوا لحومهم، ولكن إياكم وكسر عظامهم. يا سلام على الحنان والشفقة.
(العرنوبيون جمع عرنوبي أي عربي - نوبي)
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك