العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وصرت متحضرا ومناضلا

في‭ ‬مرحلة‭ ‬الدراسة‭ ‬الثانوية‭ ‬شعرت‭ ‬بأنني‭ ‬شخص‭ ‬مهم،‭ ‬فقد‭ ‬صرت‭ ‬ارتدي‭ ‬البنطلون‭ ‬مثل‭ ‬أبناء‭ ‬المدن‭ (‬كان‭ ‬أهلنا‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬السوداني‭ ‬يعتبرون‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬يرتدي‭ ‬البنطلون‭ ‬مشكوكا‭ ‬في‭ ‬رجولته‭)‬،‭ ‬وعرفت‭ ‬البقلاوة‭ ‬التي‭ ‬يسميها‭ ‬السودانيون‭ ‬‮«‬باسطة‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬تحريف‭ ‬للكلمة‭ ‬الإفرنجية‭ ‬‮«‬باستا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تطلق‭ ‬على‭ ‬المعجنات،‭ ‬ولكن‭ ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬التحاقي‭ ‬بمدرسة‭ ‬ثانوية‭ ‬تزامن‭ ‬مع‭ ‬الحكم‭ ‬العسكري‭ ‬الأول،‭ ‬وكان‭ ‬طلاب‭ ‬المدارس‭ ‬الثانوية،‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬المطالبين‭ ‬برحيل‭ ‬ذلك‭ ‬الحكم،‭ ‬وبرغم‭ ‬ان‭ ‬مدرستي‭ - ‬وادي‭ ‬سيدنا‭ ‬الثانوية‭ - ‬كانت‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬العاصمة‭ ‬السودانية‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬طلابها‭ ‬كانوا‭ ‬قرويين‭ ‬وبالتحديد‭ ‬من‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬تحدي‭ ‬الحكومة‭ ‬والدخول‭ ‬في‭ ‬مناوشات‭ ‬مع‭ ‬رجال‭ ‬الشرطة‭ ‬يمنحنا‭ ‬الإحساس‭ ‬بأننا‭ ‬‮«‬رجال‭ ‬ونفهم‭ ‬في‭ ‬السياسة‮»‬،‭ ‬وكنا‭ ‬نشارك‭ ‬خلال‭ ‬العام‭ ‬الدراسي‭ ‬الواحد‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬مظاهرات‭ ‬وإضرابات‭ ‬عن‭ ‬الدراسة،‭ ‬مطالبين‭ ‬بزوال‭ ‬الحكم‭ ‬العسكري‭.‬

دفعت‭ ‬لاحقاً‭ ‬ثمناً‭ ‬باهظاً‭ ‬لكل‭ ‬ذلك،‭ ‬فعندما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬النهائية‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬أتأهب‭ ‬لامتحانات‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬تم‭ ‬اختياري‭ ‬عضوا‭ ‬في‭ ‬اللجنة‭ ‬التنفيذية‭ ‬لاتحاد‭ ‬طلاب‭ ‬المدرسة،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬دخلنا‭ ‬في‭ ‬إضراب‭ ‬عن‭ ‬الدراسة‭ ‬وشاركنا‭ ‬في‭ ‬مظاهرات‭ ‬صاخبة‭ ‬ضد‭ ‬الحكومة،‭ ‬وكان‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يعجبنا‭ ‬في‭ ‬التظاهر‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬نتوجه‭ ‬إلى‭ ‬الخرطوم‭ ‬أو‭ ‬أم‭ ‬درمان،‭ ‬حيث‭ ‬البهرجة‭ ‬والهيلمان‭. (‬كانت‭ ‬مدرستنا‭ ‬تقع‭ ‬الى‭ ‬الشمال‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬درمان‭ ‬بعدة‭ ‬كيلومترات،‭ ‬وقد‭ ‬احتلها‭ ‬العسكر‭ ‬لاحقا‭ ‬وحولوها‭ ‬الى‭ ‬كلية‭ ‬حربية‭ ‬تلاصقها‭ ‬أكبر‭ ‬قاعدة‭ ‬جوية‭ ‬في‭ ‬السودان‭).‬

المهم‭ ‬لعنا‭ ‬خاش‭ ‬الحكومة،‭ ‬وتم‭ ‬استدعائي‭ ‬ضمن‭ ‬آخرين‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬ناظر‭/ ‬مدير‭ ‬المدرسة،‭ ‬وعرفنا‭ ‬أن‭ ‬المسألة‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬إعدام‮»‬،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يدخل‭ ‬مكتب‭ ‬الناظر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬طالب‭ ‬إلا‭ ‬ليتلقى‭ ‬أمراً‭ ‬بالفصل‭ ‬من‭ ‬الدراسة‭ ‬مؤقتا‭ ‬أو‭ ‬نهائيا،‭ ‬ولكنني‭ ‬لعنت‭ ‬إبليس‭ ‬وتذكرت‭ ‬أنني‭ ‬دخلت‭ ‬مكتب‭ ‬الناظر‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬ودخلت‭ ‬‮«‬التاريخ‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬خرجت‭ ‬منه‭ ‬سالماً‭ ‬بل‭ ‬ومزهوا،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬استدعاني‭ ‬الصول‭ ‬بابكر،‭ ‬وهو‭ ‬علم‭ ‬من‭ ‬أعلام‭ ‬تلك‭ ‬المدرسة‭ ‬يذكره‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬خريجيها‭ ‬بالخير،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬جندياً‭ ‬متقاعداً،‭ ‬وكان‭ ‬صارماً‭ ‬ومنضبطاً،‭ ‬ومهمته‭ ‬الأساسية‭ ‬ضرب‭ ‬الجرس‭ ‬وكان‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬وفق‭ ‬طقوس‭ ‬ثابتة‭ ‬وبإيقاع‭ ‬واحد‭ ‬معلوم،‭ ‬وكان‭ ‬مناطا‭ ‬به‭ ‬حصر‭ ‬الحضور‭ ‬والغياب‭ ‬في‭ ‬حجرات‭ ‬الدراسة،‭ ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يتولى‭ ‬تنفيذ‭ ‬عقوبات‭ ‬الجلد‭ ‬التي‭ ‬يقررها‭ ‬المدرسون‭ ‬على‭ ‬الطلاب،‭ ‬وحتى‭ ‬الجلد‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬بإيقاع‭ ‬واحد‭ ‬ثابت،‭ ‬وكان‭ ‬برغم‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬محبوباً‭.‬

استدعاني‭ ‬الصول‭ ‬بابكر‭ ‬ودخل‭ ‬بي‭ ‬مكتب‭ ‬الناظر،‭ ‬ولحسن‭ ‬حظي‭ ‬كان‭ ‬المكتب‭ ‬خالياً،‭ ‬وأشار‭ ‬الى‭ ‬سماعة‭ ‬هاتف‭ ‬مرفوعة‭ ‬ثم‭ ‬انصرف‭.  ‬سبق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬رأيت‭ ‬الهاتف‭ ‬بالعين‭ ‬المجردة‭ ‬في‭ ‬السينما،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لي‭ ‬استخدامه،‭ ‬وظللت‭ ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الجهاز‭ ‬العجيب‭ ‬وأنا‭ ‬أرتجف‭: ‬ماذا‭ ‬جنيت‭ ‬حتى‭ ‬يتركوني‭ ‬مع‭ ‬جهاز‭ ‬نمَّام‭ ‬ينقل‭ ‬الكلام‭.. ‬دخل‭ ‬علي‭ ‬العم‭ ‬بابكر‭ ‬مجدداً‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬أخوك‭ ‬عايزك‭ ‬في‭ ‬التليفون،‭ ‬فرفعت‭ ‬السماعة‭ ‬محاولاً‭ ‬تذكر‭ ‬طريقة‭ ‬استخدامها‭ ‬كما‭ ‬رأيت‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬السينما‭. ‬وبعد‭ ‬محاولات‭ ‬متكررة‭ ‬لتحديد‭ ‬الوضع‭ ‬الصحيح‭ ‬للسماعة‭ ‬سمعت‭ ‬صوتاً‭ ‬يقول‭: ‬جعفر؟‭ ‬مالك؟‭ ‬ألقيت‭ ‬بالسماعة‭ ‬وخرجت‭ ‬من‭ ‬المكتب‭ ‬والعرق‭ ‬يتصبب‭ ‬من‭ ‬جبهتي،‭ ‬فدخل‭ ‬عم‭ ‬بابكر‭ ‬المكتب‭ ‬ورفع‭ ‬السماعة‭ ‬وتكلم‭ ‬مع‭ ‬أخي‭ ‬ثم‭ ‬أبلغني‭ ‬أن‭ ‬جدتي‭ ‬توفيت‭. ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬مكتب‭ ‬الناظر‭ ‬لأجد‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬زملائي‭ ‬ينتظرونني‭ ‬لمعرفة‭ ‬سر‭ ‬استدعائي‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬الناظر‭. ‬نسيت‭ ‬أمر‭ ‬جدتي‭ ‬المتوفاة‭ ‬وصرت‭ ‬أحكي‭ ‬لهم‭ ‬كيف‭ ‬أنني‭ ‬‮«‬تكلمت‭ ‬في‭ ‬التليفون‮»‬،‭ ‬فنظروا‭ ‬إلي‭ ‬بمزيج‭ ‬من‭ ‬الإعجاب‭ ‬والحسد‭ ‬وسألوني‭ ‬كثيراً‭ ‬عن‭ ‬التليفون‭ ‬فتحدثت‭ ‬عنه‭ ‬حديث‭ ‬العالم‭ ‬الخبير،‭ ‬ولم‭ ‬أقل‭ ‬لهم‭ ‬بالطبع‭ ‬إن‭ ‬التليفون‭ ‬سبب‭ ‬لي‭ ‬انهيارا‭ ‬عصبياً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نطق‭ ‬باسمي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬معرفة‭ ‬بيننا‭.‬

أما‭ ‬زيارتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬لمكتب‭ ‬الناظر‭ ‬فقد‭ ‬تلقيت‭ ‬فيها‭ ‬قراره‭ ‬بفصلي‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬نهائيا،‭ ‬وهكذا‭ ‬جلست‭ ‬لامتحان‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية‭ ‬‮«‬من‭ ‬المنازل‮»‬،‭ ‬ونجحت‭ ‬وسقطت‭ ‬الحكومة‭ ‬العسكرية‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا