زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
كيف أسأت الظن بالفرنسية
سبحان الله، يعيش الواحد منا بين العرب طول عمره، وهو لا يكف عن الشكوى منهم: أجلاف.. متخلفون.. متعنطزون.. على الهبشة، أي أن الواحد منهم سريع الاشتعال والانفعال، ثم تذهب إلى عاصمة أوروبية مثلا، فتحس بالطمأنينة كلما أدركت أن حولك آلافا مؤلفة من العرب، تجد نفسك منجذبا إليهم، وهم منجذبون إليك.. منتهى البشاشة، انت منهم، وهم منك.. أشخاص لا يعرفونك يهتفون كلما مروا بك: يا هلا.. حي الله.. السلام عليكم.. منتهى المودة والذوق، وخلال زيارة للندن رأيت عربياً سرقت حافظة نقوده فجلس على الرصيف يبكي.. توقف عنده شخصان، ثم خمسة، ثم عشرة، وأدخل أحدهم يده في جيبه وقدم له ورقة مالية، وحذا الآخرون حذوه، وخلال دقائق كان نحو أربعين عربياً مروا مصادفة بذلك المكان قد تبرعوا للرجل المنكوب حتى ارتفع صوته بالبكاء الذي يرطب القلب: شكرا يا جماعة.. هذا المبلغ اللي جمعتموه أكثر من اللي انسرق مني، وكان مشهداً رائعاً عندما عانق الرجل أولئك العشرات ونال من البوسات مثل ما نال من النقود.
على ذكر البوسات، سبق لي مرارا أن ناشدت أصدقائي الخليجيين عدم بوسي عند تبادل التحية معي، وقد تكرم الراحل النبيل غازي القصيبي -جعل الله قبره روضة من رياض الجنة- وكتب مقالاً في مجلة (المجلة) جاء فيه أن جعفر عباس لا يبوس ولا ينباس، طبعاً قالها من باب التريقة والتطنز، ولكنني رحبت بتلك التريقة، لأن (الرسالة) وصلت إلى كثيرين، ثم كان ما كان في باريس عندما ذهبت إلى موظفة الاستقبال في الفندق لأسألها عن كيفية الوصول إلى قلب المدينة، فطفقت تبرطم بالفرنسية، وتردد بين الحين والآخر عبارات مثل «بوس تروا»، و«بوس ست»، قلت لها بالعربية: يا قليلة الحياء.. أنا مش بتاع حاجات زي دي.. أنا أبو الجعافر بن عباس الذي لا يبوس ولا ينباس، وتأتين أنت أيتها الفرنسية الملسوعة المزلوعة الكلكوعة لتعرضي علي (بوس تروا).. ثلاث بوسات، ثم، وبكل بجاحة ووقاحة تضاعفين العدد إلى (بوس ست) أي ست قبلات/ بوسات دفعة واحدة، كي يتسنى لك التباهي بأنك فزت بها من حفيد عنترة فارس بني عبس، وتزعمي أنك نلت ما لم تنله عبلة الهبلة من جده عنترة؟ ولحسن حظي فإن إحدى ابنتيّ تجيد الفرنسية، ولكنها خجولة، ولا تحب التعامل مع الغرباء، ولكنني استنجدت بها، بل بكل صراحة أمرتها أن تهبّ لتدافع عن «شرف بابا»، وحكيت لها ما حصل فضحكت وقالت: ما تخاف يا أبوي، لن تبوس ولن تنباس، لأن (بوس) بالفرنسية تعني (باص / حافلة) وكانت تحدثك عن ركوب البوس رقم ثلاثة، ثم رقم ست أي سبعة وليس «ستة» كما ظننت.
الأحكام المسبقة على الشعوب والأفراد توقع الإنسان في الحرج والخطأ. ففرنسا في الخيال العربي هي بلد العري والجنس والتبرج، وهكذا أسأت الظن بفتاة كانت تريد مساعدتي، وفي مدينة ديزني في باريس، توجهت إلى الحمامات الرجالية، وفوجئت بسيدتين تقفان بداخلها، فظننت أنني أخطأت -ولي سوابق في هذا المجال بسبب تشتت الذهن وعدم التركيز- فانسحبت وأنا أحسّ بالحرج ودخلت إلى الحمامات (المقابلة) وهناك وجدت طابورا من النساء يبتسمن في وجهي، وفهمت من برطمتهن أنني أيضاً في الحمام الخطأ وخرجت وأنا في حجم السمسمة، ونظرت إلى لافتة الحمامات التي دخلتها في المرة الأولى، فوجدت أنها فعلاً رجالية، ولكن المرأتين كانتا لا تزالان تقفان أمام أحواض الغسيل هناك.. كانتا عاملتي نظافة، ومع هذا لم أدخل تلك الحمامات: يا فرنسيين يا بتوع الحضارة، لماذا تكلفون نساء بتنظيف حمامات الرجال؟ ويا رجال أوروبا المتحضرة، كيف تدخلون حمامات تقف أمام أبوابها نساء مندمجات في الونسة؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك