العدد : ١٦٨٥١ - الأحد ١٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٤ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥١ - الأحد ١٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٤ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

قضايا و آراء

كيف نفهم ما يحدث داخل إسرائيل؟

بقلم: د. حسن نافعة {

الجمعة ١٤ أبريل ٢٠٢٣ - 02:00

تستعدّ‭ ‬إسرائيل‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬للاحتفال‭ ‬بذكرى‭ ‬مرور‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرباع‭ ‬القرن‭ ‬على‭ ‬تأسيسها،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬احتفالها‭ ‬لهذا‭ ‬العام‭ ‬سيكون‭ ‬له‭ ‬طابع‭ ‬خاص‭ ‬ومختلف‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبقه،‭ ‬فإسرائيل،‭ ‬التي‭ ‬تتباهى‭ ‬دائما‭ ‬بقوة‭ ‬جيشها‭ ‬وتماسك‭ ‬شعبها‭ ‬وحيوية‭ ‬نظامها‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬صنع‭ ‬منها‭ ‬واحة‭ ‬للديمقراطية‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬منطقةٍ‭ ‬يسودها‭ ‬الاستبداد،‭ ‬تبدو‭ ‬اليوم‭ ‬دولة‭ ‬مرتبكة‭ ‬وبلا‭ ‬بوصلة،‭ ‬ومنقسمة‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬كما‭ ‬تبدو‭ ‬حكومتها‭ ‬المنتخبة‭ ‬بشقّ‭ ‬الأنفس‭ ‬منذ‭ ‬أشهر‭ ‬قليلة‭ ‬فاقدة‭ ‬للسيطرة‭ ‬وعاجزة‭ ‬عن‭ ‬ضبط‭ ‬حركة‭ ‬المجتمع‭ ‬والشارع‭. ‬

يعود‭ ‬السبب‭ ‬المباشر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬غير‭ ‬المسبوق‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬إسرائيل‭ ‬إلى‭ ‬تعديلاتٍ‭ ‬جذريةٍ‭ ‬تريد‭ ‬الحكومة‭ ‬إدخالها‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬القضائي‭ ‬في‭ ‬إسرائيل،‭ ‬تحت‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬إصلاح‭ ‬القضاء‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التعديلات‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تقليص‭ ‬سلطة‭ ‬المحكمة‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬إسرائيل،‭ ‬بحيث‭ ‬تصبح‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬لها‭ ‬بتعطيل‭ ‬أيّ‭ ‬من‭ ‬القوانين‭ ‬التي‭ ‬يصدرها‭ ‬الكنيست‭ ‬أو‭ ‬إلغائه،‭ ‬وتغيير‭ ‬الوضع‭ ‬الخاص‭ ‬للمستشار‭ ‬القضائي،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يتمتّع‭ ‬بأي‭ ‬استقلالية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الحكومة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬إلغاء‭ ‬صلاحيته‭ ‬في‭ ‬فحص‭ ‬مدى‭ ‬قانونية‭ ‬القرارات‭ ‬التي‭ ‬تتّخذها‭ ‬الحكومة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الاعتراض‭ ‬عليها،‭ ‬وقصر‭ ‬دوره،‭ ‬بالتالي،‭ ‬على‭ ‬تبرير‭ ‬هذه‭ ‬القرارات‭ ‬والدفاع‭ ‬عنها‭.‬

وتهدف‭ ‬التعديلات‭ ‬أيضا‭ ‬إلى‭ ‬إدخال‭ ‬تعديلاتٍ‭ ‬جذرية‭ ‬على‭ ‬تشكيل‭ ‬اللجنة‭ ‬المفوّضة‭ ‬باختيار‭ ‬قضاة‭ ‬المحكمة‭ ‬العليا،‭ ‬تتيح‭ ‬للحكومة‭ ‬إمكانية‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬تعيين‭ ‬هؤلاء‭ ‬القضاء‭. ‬بعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الهدف‭ ‬الأساسي‭ ‬من‭ ‬التعديلات‭ ‬القضائية‭ ‬التي‭ ‬تصرّ‭ ‬حكومة‭ ‬نتنياهو‭ ‬على‭ ‬تمريرها‭ ‬هو‭ ‬تغيير‭ ‬شكل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬التنفيذية‭ ‬والسلطة‭ ‬القضائية‭ ‬وطبيعتها،‭ ‬بما‭ ‬يرجّح‭ ‬كفّة‭ ‬السلطة‭ ‬التنفيذية،‭ ‬وينزع‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬القضائية‭ ‬قدرا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬استقلاليتها‭.‬

تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬علاقة‭ ‬المصلحة‭ ‬والمنافع‭ ‬الشخصية‭ ‬المتبادلة‭ ‬بين‭ ‬نتنياهو‭ ‬والأحزاب‭ ‬الصهيونية‭ ‬الدينية‭ ‬المتطرّفة‭ ‬تفسر‭ ‬إصرار‭ ‬الحكومة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬على‭ ‬تمرير‭ ‬تلك‭ ‬التعديلات،‭ ‬رغم‭ ‬خطورتها‭ ‬الكبيرة‭ ‬على‭ ‬استقرار‭ ‬النظام‭ ‬السياسي،‭ ‬فنتنياهو‭ ‬يبدو‭ ‬شديد‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬إقرارها،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬سيمكّنه‭ ‬من‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬ملاحقاتٍ‭ ‬قضائيةٍ‭ ‬تُمسك‭ ‬بخناقه‭ ‬بسبب‭ ‬تهم‭ ‬الفساد‭ ‬العديدة‭ ‬الموجهة‭ ‬إليه،‭ ‬والتي‭ ‬قد‭ ‬تفضي‭ ‬إلى‭ ‬إلقائه‭ ‬في‭ ‬غياهب‭ ‬السجن‭. ‬

أما‭ ‬الأحزاب‭ ‬الدينية‭ ‬المتطرّفة،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬حكومة‭ ‬نتنياهو‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬دعم‭ ‬نوابها‭ ‬في‭ ‬الكنيست،‭ ‬فتبدو‭ ‬شديدة‭ ‬الحرص،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬تمرير‭ ‬هذه‭ ‬التعديلات،‭ ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬إقرارها‭ ‬سيؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬تمكينها‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬هدفين‭ ‬رئيسيين‭. ‬الأول‭: ‬فرض‭ ‬أجندتها‭ ‬التي‭ ‬تستهدف‭ ‬تصفية‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬نهائيا،‭ ‬والاستمرار‭ ‬في‭ ‬ابتزاز‭ ‬نتنياهو‭. ‬والثاني‭: ‬ممارسة‭ ‬أقصى‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الضغوط‭ ‬على‭ ‬الحكومة‭ ‬لإدخال‭ ‬تعديلاتٍ‭ ‬على‭ ‬القوانين‭ ‬التي‭ ‬تمسّ‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والدولة‭ ‬في‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وبما‭ ‬يسمح‭ ‬بإدارة‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬في‭ ‬إسرائيل‭ ‬وفق‭ ‬الشرائع‭ ‬اليهودية‭.‬

ولأن‭ ‬أوساطا‭ ‬وهيئات‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وخصوصا‭ ‬الأوساط‭ ‬والهيئات‭ ‬العلمانية،‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬توجهاتها،‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬التعديلات‭ ‬القضائية‭ ‬المقترحة‭ ‬ستؤدّي‭ ‬حتما‭ ‬إلى‭ ‬تقويض‭ ‬أسس‭ ‬النظام‭ ‬‮«‬الديمقراطي‮»‬‭ ‬في‭ ‬إسرائيل،‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الفصل‭ ‬والتوازن‭ ‬بين‭ ‬السلطات،‭ ‬عبر‭ ‬تمكين‭ ‬السلطة‭ ‬التنفيذية‭ ‬من‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬السلطتين‭ ‬التشريعية‭ ‬والقضائية،‭ ‬فقد‭ ‬لجأت‭ ‬إلى‭ ‬توجيه‭ ‬نداءٍ‭ ‬لجماهيرها‭ ‬للنزول‭ ‬إلى‭ ‬الشارع،‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬رفضها‭ ‬التام‭ ‬التعديلات‭ ‬المقترحة‭ ‬والمطالبة‭ ‬بإلغائها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬استجابت‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬الفور‭. ‬وقد‭ ‬أخذت‭ ‬هذه‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬والتي‭ ‬انطلقت‭ ‬منذ‭ ‬أسابيع،‭ ‬شكل‭ ‬حشود‭ ‬جماهيرية‭ ‬غفيرة‭ ‬راحت‭ ‬تتظاهر‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬تل‭ ‬أبيب،‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬لبثت‭ ‬هذه‭ ‬الحشود‭ ‬أن‭ ‬ازدادت‭ ‬زخما،‭ ‬وراحت‭ ‬تتمدّد‭ ‬وتتوسّع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬شملت‭ ‬مختلف‭ ‬المدن‭ ‬الرئيسية،‭ ‬ثم‭ ‬دخل‭ ‬الاتحاد‭ ‬العام‭ ‬لنقابات‭ ‬العمال‭ (‬الهستدروت‭) ‬على‭ ‬الخط،‭ ‬وقرّر‭ ‬إضرابا‭ ‬مفتوحا‭ ‬انضمّت‭ ‬إليه‭ ‬الجامعات‭ ‬والمدارس‭ ‬ونقابات‭ ‬الأطباء‭ ‬والمهندسين‭ ‬وهيئات‭ ‬النقل‭ ‬والموانئ‭ ‬والمطارات،‭ ‬ما‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬إصابة‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬إسرائيل‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬الشلل‭ ‬التام‭.‬

ولكن‭ ‬الأخطر‭ ‬وقع‭ ‬حين‭ ‬تبيّن‭ ‬أن‭ ‬الشرخ‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬المؤسّسات‭ ‬الأمنية،‭ ‬وأن‭ ‬أعدادا‭ ‬متزايدة‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬اليهود‭ ‬بدأت‭ ‬تعلن‭ ‬صراحة‭ ‬رفض‭ ‬أداء‭ ‬الخدمة‭ ‬العسكرية‭ ‬أو‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الاحتياط‭ ‬الذي‭ ‬يعدّ‭ ‬عماد‭ ‬الجيش‭ ‬الإسرائيلي‭. ‬وهنا‭ ‬بدأت‭ ‬القيادات‭ ‬الأمنية،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬وزير‭ ‬الدفاع‭ ‬يوآف‭ ‬جالانت،‭ ‬تشعر‭ ‬بقلق‭ ‬حقيقي،‭ ‬وتطالب‭ ‬علانية‭ ‬بسحب‭ ‬التعديلات‭ ‬القضائية‭ ‬المقترحة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تأجيل‭ ‬طرحها‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬صيغةٍ‭ ‬توافقية‭ ‬بشأنها‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نتنياهو‭ ‬ركب‭ ‬رأسه‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬واتخذ‭ ‬قرارا‭ ‬بإقالة‭ ‬جالانت،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬القرار‭ ‬المتعجّل‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬احتقان‭ ‬الشارع‭ ‬السياسي‭ ‬والأمني‭ ‬في‭ ‬إسرائيل،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬اضطر‭ ‬نتنياهو،‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬إلى‭ ‬التراجع‭ ‬وإعلان‭ ‬تأجيل‭ ‬طرح‭ ‬هذه‭ ‬التعديلات‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الأعياد‭ ‬اليهودية،‭ ‬ثم‭ ‬دخل‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬هيرتزوج،‭ ‬على‭ ‬الخط،‭ ‬ووجّه‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬الفرقاء‭ ‬للدخول‭ ‬في‭ ‬مفاوضاتٍ‭ ‬بغرض‭ ‬التوصّل‭ ‬إلى‭ ‬صيغة‭ ‬مقبولة‭ ‬من‭ ‬الجميع‭.‬

يستحقّ‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬الأسابيع‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ ‬قراءة‭ ‬متأنية‭ ‬غير‭ ‬تقليدية،‭ ‬فقد‭ ‬يرى‭ ‬بعضهم‭ ‬فيه‭ ‬دليلا‭ ‬على‭ ‬حيوية‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وعلى‭ ‬قدرة‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬على‭ ‬تجديد‭ ‬نفسه،‭ ‬ومنع‭ ‬‮«‬تسلّط‭ ‬الأغلبية‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬بالحيلولة‭ ‬دون‭ ‬تمكينها‭ ‬من‭ ‬استغلال‭ ‬وضعها‭ ‬المؤقت‭ ‬أغلبية‭ ‬للمساس‭ ‬بالركائز‭ ‬الأساسية‭ ‬للنظام‭. ‬معنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الاضطرابات‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬إسرائيل‭ ‬أخيرا‭ ‬هي،‭ ‬وفقا‭ ‬لهذه‭ ‬القراءة‭ ‬التقليدية،‭ ‬مجرّد‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬أزمة‭ ‬عابرة‭ ‬يمكن‭ ‬للآليات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬تجاوزها‭ ‬وإيجاد‭ ‬حلول‭ ‬مناسبة‭ ‬لها،‭ ‬إما‭ ‬بالتوصل‭ ‬إلى‭ ‬صيغة‭ ‬توافقية‭ ‬تُرضي‭ ‬مختلف‭ ‬الأطراف‭ ‬المتنازعة‭ ‬أو‭ ‬باللجوء‭ ‬إلى‭ ‬انتخابات‭ ‬برلمانية‭ ‬مبكّرة‭ ‬لحسم‭ ‬الخلاف‭ ‬السياسي‭ ‬المستحكم‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأطراف،‭ ‬فإذا‭ ‬أتت‭ ‬الانتخابات‭ ‬المبكرة‭ ‬بالأغلبية‭ ‬الحالية‭ ‬نفسها،‭ ‬فسوف‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬على‭ ‬قوى‭ ‬المعارضة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬منعها‭ ‬من‭ ‬تمرير‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬من‭ ‬تعديلات‭. ‬

أما‭ ‬إذا‭ ‬أتت‭ ‬هذه‭ ‬الانتخابات‭ ‬بأغلبية‭ ‬مختلفة،‭ ‬فسوف‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬بمثابة‭ ‬دليل‭ ‬قاطع‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬التعديلات‭ ‬القضائية‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬الحكومة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬الحالية‭ ‬فرضها‭ ‬مرفوضة‭ ‬شعبيا‭. ‬وبالتالي،‭ ‬يكون‭ ‬الشارع‭ ‬السياسي‭ ‬قد‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬إحداث‭ ‬التغيير‭ ‬المطلوب‭ ‬بالوسائل‭ ‬الديمقراطية‭ ‬المعتادة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬هذه‭ ‬قد‭ ‬تصحّ‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الدول‭ ‬والمجتمعات‭ ‬العادية‭ ‬التي‭ ‬استقرّت‭ ‬فيها‭ ‬ركائز‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬وليس‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬احتلال‭ ‬استيطاني،‭ ‬كإسرائيل،‭ ‬يديرها‭ ‬نظام‭ ‬فصل‭ ‬عنصري،‭ ‬فالعنصرية‭ ‬والديمقراطية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجتمعا‭ ‬معا‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬واحد‭ ‬أو‭ ‬يتعايشا‭ ‬داخل‭ ‬دولة‭ ‬واحدة‭. ‬وهنا‭ ‬تتجلّى‭ ‬حقيقة‭ ‬المأزق‭ ‬الذي‭ ‬تواجهه‭ ‬إسرائيل،‭ ‬والذي‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬منه‭ ‬فكاكا،‭ ‬فما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬الأسابيع‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ ‬يؤكّد‭ ‬أننا‭ ‬إزاء‭ ‬دولة‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬ظاهرها‭ ‬قوية‭ ‬ومتحكّمة،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬أمرها‭ ‬مجرّد‭ ‬كيان‭ ‬هشّ‭ ‬يعجّ‭ ‬بالمتناقضات‭. ‬ولأن‭ ‬متناقضاته‭ ‬تبدو‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬المستعصي‭ ‬على‭ ‬الحل،‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تزداد‭ ‬عمقا‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت،‭ ‬وأن‭ ‬تتكاثر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ينفجر‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬من‭ ‬داخله‭.‬

كان‭ ‬في‭ ‬وسع‭ ‬إسرائيل‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬بمظهر‭ ‬الدولة‭ ‬العلمانية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬طوال‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬تاريخها،‭ ‬وخصوصا‭ ‬أنها‭ ‬حاولت‭ ‬الظهور‭ ‬طوال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬بمظهر‭ ‬الدولة‭ ‬الصغيرة‭ ‬المحاطة‭ ‬بالأعداء‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب،‭ ‬والراغبة‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬السلام‭ ‬مع‭ ‬جيرانٍ‭ ‬يرفضونه‭. ‬لذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غريبا‭ ‬أن‭ ‬تتحكّم‭ ‬القوى‭ ‬العلمانية‭ ‬واليسارية‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬نظامها‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬راحت‭ ‬تتغيّر‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬عاملين‭: ‬

الأول‭: ‬حين‭ ‬تمكّن‭ ‬الجيش‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬من‭ ‬إلحاق‭ ‬هزيمة‭ ‬كبرى‭ ‬بجيوش‭ ‬ثلاث‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬ومن‭ ‬احتلال‭ ‬أراضٍ‭ ‬مساحتها‭ ‬أضعاف‭ ‬المساحة‭ ‬المخصصة‭ ‬لها‭ ‬بموجب‭ ‬قرار‭ ‬التقسيم‭ ‬الذي‭ ‬أقرّته‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬عام‭ ‬1947‭. ‬والثاني‭: ‬حين‭ ‬بدأت‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬المجاورة‭ ‬لإسرائيل‭ ‬تتّجه‭ ‬نحو‭ ‬التسوية‭ ‬السلمية‭ ‬عقب‭ ‬حرب‭ ‬1973،‭ ‬بينما‭ ‬رفضت‭ ‬إسرائيل‭ ‬وأصرّت‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬الانسحاب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأراضي‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬احتلتها‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬1967‭. ‬لذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غريبا‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬قوى‭ ‬اليمين‭ ‬العلماني‭ ‬أولا،‭ ‬ثم‭ ‬قوى‭ ‬اليمين‭ ‬الديني،‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬التدريجية‭ ‬على‭ ‬مفاصل‭ ‬النظام،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬إسرائيل‭ ‬دولة‭ ‬فصل‭ ‬عنصري‭ ‬يشبه‭ ‬نظامها‭ ‬نظام‭ ‬الأبرتهايد‭ ‬الذي‭ ‬ساد‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬أفريقيا‭ ‬حتى‭ ‬بداية‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭.‬

ومن‭ ‬الطبيعي،‭ ‬في‭ ‬سياقٍ‭ ‬كهذا،‭ ‬أن‭ ‬تواجه‭ ‬إسرائيل‭ ‬مأزقا‭ ‬مزدوجا‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬الفكاك‭ ‬منه،‭ ‬يتمثل‭ ‬بعدُه‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬إصرار‭ ‬الحكومات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬المتعاقبة‭ ‬على‭ ‬إخضاع‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬ورفض‭ ‬منحه‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬مصيره‭ ‬وإقامة‭ ‬دولته‭ ‬المستقلة‭ ‬على‭ ‬أرضه‭. ‬ويتمثل‭ ‬بعده‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬إصرار‭ ‬اليمين‭ ‬الديني‭ ‬المتطرّف‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬إسرائيل‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬توراتية‭ ‬كبرى‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬النيل‭ ‬إلى‭ ‬الفرات‭. ‬وما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬الأسابيع‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ ‬يؤكّد‭ ‬أنها‭ ‬تنهار‭ ‬وتتفكّك‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬التناقضات‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المأزق‭ ‬المزدوج،‭ ‬فهي،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬تبدو‭ ‬غير‭ ‬قادرةٍ‭ ‬على‭ ‬إخضاع‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الذي‭ ‬يُثبت‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬أن‭ ‬مقاومته‭ ‬لا‭ ‬تقهر،‭ ‬رغم‭ ‬سطوة‭ ‬كل‭ ‬أجهزتها‭ ‬الأمنية‭ ‬والقمعية‭.‬

وهي،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬تبدو‭ ‬غير‭ ‬جاهزة‭ ‬أو‭ ‬مهيأة‭ ‬للتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬أصولية‭ ‬ثيوقراطية،‭ ‬رغم‭ ‬تمدّد‭ ‬اليمين‭ ‬الديني‭ ‬واتساع‭ ‬تأثيره‭. ‬قد‭ ‬يستطيع‭ ‬نتنياهو‭ ‬أن‭ ‬يعثر‭ ‬على‭ ‬مخرجِ‭ ‬مؤقتٍ‭ ‬من‭ ‬الأزمة‭ ‬الراهنة،‭ ‬سواء‭ ‬بالتوصل‭ ‬إلى‭ ‬حلٍّ‭ ‬وسطٍ‭ ‬مع‭ ‬قوى‭ ‬المعارضة،‭ ‬أو‭ ‬باللجوء‭ ‬إلى‭ ‬انتخاباتٍ‭ ‬مبكّرة،‭ ‬لكن‭ ‬مأزق‭ ‬الدولة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬ونظامها‭ ‬العنصري‭ ‬سيظلان‭ ‬قائميْن‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتفكّكا‭ ‬معا،‭ ‬وذلك‭ ‬هو‭ ‬الدرس‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نستخلصه‭ ‬مما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬الأسابيع‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭.‬

{ أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬

بجامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا