العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

الرأي الثالث

محميد المحميد

malmahmeed7@gmail.com

جبر الخواطر.. عبادة وأخلاق

يروي‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬المغلوث‭ ‬موقفا‭ ‬إنسانيا‭ ‬عن‭ ‬الراحل‭ ‬غازي‭ ‬القصيبي،‭ ‬الوزير‭ ‬والسفير‭ ‬السعودي‭ -‬رحمه‭ ‬الله‭- ‬أنه‭ ‬استدعى‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬أحد‭ ‬الموظفين،‭ ‬واستقبله‭ ‬بحفاوة‭ ‬بالغة‭ ‬وابتسامة‭ ‬هائلة،‭ ‬وافتتح‭ ‬الحوار‭ ‬معه‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬خادمك‭.. ‬ماذا‭ ‬تريد‭ ‬الآن؛‭ ‬لتعود‭ ‬لنا‭ ‬فارسا‭ ‬لا‭ ‬يشقّ‭ ‬له‭ ‬غبار؟‮»‬‭. ‬حينها‭ ‬انهار‭ ‬الموظف‭ ‬أمامه‭ ‬قائلا‭: ‬إن‭ ‬ظروف‭ ‬زوجته‭ ‬الصحية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬استنزفت‭ ‬ميزانيته‭ ‬وتركيزه‭.. ‬ووعده‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬فور‭ ‬أن‭ ‬يتجاوز‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬الطارئة‭.‬

لم‭ ‬تمض‭ ‬سوى‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬على‭ ‬لقائهما‭ ‬في‭ ‬المكتب‭ ‬حتى‭ ‬زاره‭ ‬القصيبي‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬إنذار،‭ ‬ترافقه‭ ‬باقة‭ ‬زهور‭ ‬ومبلغ‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬ريال‭.. ‬تأثر‭ ‬الموظف‭ ‬كثيرا‭ ‬بهذه‭ ‬الزيارة‭ ‬وما‭ ‬فيها‭.. ‬وعندما‭ ‬رزق‭ ‬بطفل‭ ‬بعد‭ ‬عامين‭ ‬من‭ ‬مرور‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة،‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬اسما‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬غازي‭ ‬لينادي‭ ‬به‭ ‬طفله‭ ‬ويوثق‭ ‬به‭ ‬موقفا‭ ‬إنسانيا‭ ‬نبيلا‭.‬

جبر‭ ‬الخواطر‭ ‬ومساعدة‭ ‬الناس‭ ‬والتعامل‭ ‬الأخلاقي‭ ‬من‭ ‬العبادات‭ ‬الأكثر‭ ‬أجرا‭ ‬عند‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬والأكثر‭ ‬نفعا‭ ‬للناس،‭ ‬فالعبادة‭ ‬ليست‭ ‬صلاة‭ ‬وصوما،‭ ‬وتراويح‭ ‬وقياما،‭ ‬وختمة‭ ‬قرآن‭ ‬وصلة‭ ‬أرحام،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬جبر‭ ‬الخواطر‭ ‬عبادة‭ ‬كذلك،‭ ‬وهي‭ ‬دواء‭ ‬وشفاء،‭ ‬وموقف‭ ‬رفيع‭ ‬ومؤثر،‭ ‬لا‭ ‬ينساه‭ ‬صاحبه‭ ‬مدى‭ ‬الحياة‭.‬

يقول‭ ‬الإمام‭ ‬سفيان‭ ‬الثوري‭: ‬‮«‬ما‭ ‬رأيت‭ ‬عبادة‭ ‬يتقرب‭ ‬بها‭ ‬العبد‭ ‬إلى‭ ‬ربه‭ ‬مثل‭ ‬جبر‭ ‬خاطر‭ ‬أخيه‭ ‬المسلم‮»‬‭.. ‬ويقول‭ ‬العلماء‭ ‬إنه‭ ‬مما‭ ‬يعطي‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬جمالاً‭ ‬أن‭ ‬الجبر‭ ‬كلمة‭ ‬مأخوذة‭ ‬من‭ ‬أسماء‭ ‬الله‭ ‬الحسنى‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬الجبار‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬الاسم‭ ‬بمعناه‭ ‬الرائع‭ ‬يُطمئنُ‭ ‬القلبَ‭ ‬ويريحُ‭ ‬النفس،‭ ‬فهو‭ ‬سُبْحَانَهُ‭ ‬‮«‬الذِي‭ ‬يَجْبُرُ‭ ‬الفَقرَ‭ ‬بِالغِنَى،‭ ‬والمَرَضَ‭ ‬بِالصِحَّةِ،‭ ‬والخَيبَةَ‭ ‬والفَشَلَ‭ ‬بالتَّوْفِيقِ‭ ‬والأَمَلِ،‭ ‬والخَوفَ‭ ‬والحزنَ‭ ‬بالأَمنِ‭ ‬والاطمِئنَانِ،‭ ‬فَهُوَ‭ ‬جَبَّارٌ‭ ‬مُتّصِفٌ‭ ‬بِكَثرَةِ‭ ‬جَبْرِهِ‭ ‬حَوَائِجَ‭ ‬الخَلَائِقِ‮»‬‭.. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬جبر‭ ‬النفوس‭ ‬من‭ ‬الدعاء‭ ‬الملازم‭ ‬لرسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬فقد‭ ‬روي‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬عباس‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما‭ ‬أن‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬بين‭ ‬السجدتين‭: ‬‮«‬اللهم‭ ‬اغفر‭ ‬لي‭ ‬وارحمني‭ ‬واهدني‭ ‬واجبرني‭ ‬وارزقني‮»‬‭.‬

في‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية‭ ‬نواجه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬والأشخاص‭.. ‬في‭ ‬البيت‭ ‬والعمل‭ ‬والشارع‭.. ‬في‭ ‬المسجد‭ ‬والسوق‭ ‬والمجلس‭ ‬مع‭ ‬الأصحاب‭ ‬والأهل‭.. ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬والجامعة‭ ‬والمستشفى‭ ‬وغيرها‭.. ‬وبالإمكان‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬مناسبة‭ ‬سانحة‭ ‬لجبر‭ ‬الخواطر‭.. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬جبر‭ ‬الخواطر‭ ‬ليس‭ ‬محصورا‭ ‬في‭ ‬إعطاء‭ ‬مال‭ ‬لفقير‭ ‬أو‭ ‬محتاج،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬جبر‭ ‬الخواطر‭ ‬يكون‭ ‬مع‭ ‬أجنبي‭ ‬أو‭ ‬آسيوي‭ ‬في‭ ‬‮«‬برادة‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬مع‭ ‬عامل‭ ‬النظافة‭ ‬والخادمة‭ ‬في‭ ‬المنزل،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬جبر‭ ‬الخاطر‭ ‬يكون‭ ‬مع‭ ‬الجميع‭ ‬بلا‭ ‬استثناء‭.. ‬بكلمة‭ ‬طيبة،‭ ‬وعذر‭ ‬واعتذار،‭ ‬وشكر‭ ‬وامتنان،‭ ‬وتشجيع‭ ‬ودعم،‭ ‬وابتسامة‭ ‬وسلام،‭ ‬وإغاثة‭ ‬ملهوف‭ ‬ومساعدة‭ ‬إنسان‭.‬

حتى‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬حينما‭ ‬تجد‭ ‬شخصا‭ ‬محرجا‭ ‬في‭ ‬سيارته،‭ ‬وقد‭ ‬انتظر‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬المسار،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يعطيه‭ ‬المجال‭ ‬للمرور،‭ ‬وتبادر‭ ‬وتسمح‭ ‬له‭ ‬بالمرور،‭ ‬تكون‭ ‬كمن‭ ‬أنقذته‭ ‬وجبرت‭ ‬بخاطره‭.. ‬وحتى‭ ‬حينما‭ ‬تجد‭ ‬شخصا‭ ‬دخل‭ ‬مكانا‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬كرسيّا‭ ‬أو‭ ‬موقعا‭ ‬وبادرت‭ ‬وأعطيته‭ ‬مكانك‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬جبرت‭ ‬بخاطره‭.. ‬وحينما‭ ‬تسمع‭ ‬حكاية‭ ‬أو‭ ‬نكتة‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬وتكون‭ ‬قد‭ ‬سمعتها‭ ‬ألف‭ ‬مرة‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬حكاية‭ ‬ليست‭ ‬متميزة،‭ ‬ولكن‭ ‬حينما‭ ‬تظهر‭ ‬تفاعلك‭ ‬مع‭ ‬الشخص‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬جبرت‭ ‬بخاطره‭ ‬وأسعدته‭.. ‬والأمثلة‭ ‬عديدة‭ ‬وكثيرة‭ ‬ونواجهها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬يوم‭. ‬

ولعل‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬عن‭ ‬جبر‭ ‬الخواطر‭: ‬‮«‬من‭ ‬سار‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬جابرًا‭ ‬للخواطر‭.. ‬أدركه‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬المخاطر‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"محميد المحميد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا