تعد «الهند»، من أكثر الدول النامية قربًا من دول الخليج من الناحية الجغرافية، والتاريخية، والثقافية لأجيال طويلة ممتدة. وفي الوقت الحالي، تمثل العمالة الهندية الجزء الأكبر من العمالة الوافدة في الخليج، حيث تبلغ حوالي 9 ملايين شخص، تبلغ تحويلاتهم نحو 89 مليار دولار سنويًا، أي ما يزيد على 65% من تحويلات العاملين الواردة إلى الهند من كل بلدان العالم. ولا شك أن هذا الرقم يمثل نسبة كبيرة من تعداد سكان دول الخليج نحو 20% تقريبا. من جانبها، أتاحت دول الخليج لهذه العمالة حرية إقامة معابدهم وجمعياتهم، فيما يتميز الهنود بالتواصل مع محيطهم الاجتماعي، ولا يميلون إلى العزلة، ولهذا تتواصل الثقافة الهندية مع العربية.
وعلى الرغم من عدد سكان الهند الكبير البالغ 1.40 مليار نسمة، والذي أصبح يتجاوز عدد سكان الصين، وبرغم ارتفاع نسبة الفقر فيها، حيث يبلغ عدد من يعيشون في فقر مدقع 360 مليون نسمة، فيما تشير تقديرات إلى أن ما يقرب من 77% من سكانها هم دون خط الفقر؛ إلا أنها تظل من أهم موردي المواد الغذائية لدول الخليج، ومن أهمها الحبوب والأرز واللحوم.
وفي الوقت الذي تعد «الهند»، فيه «ثالث أكبر مستورد للنفط عالميًا»، بعد الصين، والولايات المتحدة، بما قيمته نحو 119 مليار دولار، فإن وارداتها النفطية من الخليج تمثل أهم مصادر حصولها على الطاقة، على الرغم من استفادتها من انخفاض أسعار النفط الروسي بسبب العقوبات الواقعة على موسكو، حيث تؤمن دول الخليج قرابة 60% من احتياجاتها من الطاقة. وتأتي «السعودية»، في المرتبة الأولى، تليها «الإمارات»، فيما تعد «قطر»، المورد الرئيسي للغاز الطبيعي المسال، وتوفر لها نحو 70% من احتياجاتها منه؛ وعليه، فقد بلغ حجم التبادل التجاري الهندي الخليجي عام 2022، نحو 154 مليار دولار، فيما كان 55.5 مليار دولار عام 2000.
وتشير هذه الحقائق إلى المصالح المشتركة، والمواقف المتماثلة بين الجانبين، إزاء عديد من القضايا الدولية، فالهند لها مصالح مشتركة قوية مع كل من الصين وروسيا والولايات المتحدة، وكذلك دول مجلس التعاون الخليجي لها مصالح مشتركة مع هذه الأقطاب الثلاثة؛ لذا كان من الصعب على كل منهما أن يتخذ موقفًا منحازًا لطرف على حساب الآخر في الحرب الأوكرانية. فيما تجلت أيضا هذه الروابط أيضا أثناء جائحة كورونا، حين أمدت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية «الهند»، بأطنان من أنابيب الأوكسجين. وحين حلت أزمة الحبوب، بسبب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تم استثناء دول الخليج من حظر صادرات الهند من القمح. فيما تستفيد هذه الدول من الصعود التنموي الذي تحققه الهند في كل المجالات في خدمة مشروعاتها الاستراتيجية التنموية.
علاوة على ذلك، فإن العلاقات الهندية الخليجية تسير على المسار الاستراتيجي لكلا الجانبين، وتعد مرشحة للتنامي في المستقبل دون أن يعوقها الاقتراب الخليجي من باكستان، أو تبني السعودية لقضايا المسلمين حول العالم، بمن فيهم مسلمو الهند، الذين يمثلون قرابة 15% من تعداد سكانها.
وفي تأييد لهذا، أعلنت دول الخليج والهند يوم 24 نوفمبر2022، إعادة إطلاق مفاوضات التجارة الحرة بين الجانبين، في خطوة من شأنها تعزيز علاقات التعاون الاقتصادي واستقطاب الاستثمارات المشتركة. وتستفيد هذه الاتفاقية من الأرضية القوية لعلاقات التعاون القائمة بالفعل بينهما، كما تستفيد من الجولات السابقة للوصول إلى اتفاقية تجارة حرة عامي 2004 و2006، وأسباب توقف هذه الجولات حتى يمكنها تحقيق النجاح في هذه المرة، حيث توفر مسارات لنمو الاستثمارات المتبادلة، والتي تتعدد فرصها في الهند التي تعد قارة بذاتها. وفيما يركز الجانب الخليجي على الأمن الغذائي والمعرفة والتكنولوجيا، فإن الجانب الهندي يركز على أمن الطاقة.
وتبدو أهمية هذه الاتفاقية في ضوء الدور المتعاظم للهند على الساحة الاقتصادية الدولية، وفي ظل تحقيقها مستويات نمو عالية تتجاوز10% سنويًا، وقدرتها على استيعاب الاستثمارات، وحرص تكتلات ودول كثيرة على عقد اتفاقيات وإقامة علاقات اقتصادية معها، مع توقع تجاوزها النمو الصيني. وبالفعل، تتقدم الهند بشكل كبير في قطاع تقنية المعلومات والقطاع الصناعي. وتشكل تكنولوجيا المعلومات واجهة الاقتصاد الهندي الحديث، وتعد أسرع قطاعاته نموًا، وتدر على البلاد قرابة 13 مليار دولار سنويًا، بعد أن أصبحت تشكل مقرًا للعديد من شركات تكنولوجيا المعلومات الأمريكية العملاقة، يأتي هذا فيما تسعى دول الخليج إلى التحول الرقمي وتوطين العديد من الصناعات بها.
وترتكز اتفاقية التجارة الحرة المتوقعة على العلاقات الوطيدة بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي، لا سيما السعودية، التي بدأت علاقاتها الدبلوماسية معها بعد استقلال الهند مباشرة عام 1947. ومنذ ذلك الوقت أخذت العلاقات منحى تصاعديا، وتعددت الزيارات المتبادلة بين الدولتين، وغدت «الرياض»، حاليًا الشريك التجاري الرابع لـ«نيودلهي»، حيث تستورد منها 20% من حاجتها للنفط، فيما تعد السعودية ثامن أكبر سوق للصادرات الهندية، كما أن الجالية الهندية بها – والتي تبلغ 3.5 ملايين شخص – هي أكثر العمالة الوافدة تحويلات مالية إلى بلادها.
في الإطار ذاته، شهدت العلاقات السعودية الهندية، «تحولا تاريخيا»، تمثل في «إعلان دلهي»، عام 2006، أثناء زيارة الملك «عبد الله بن عبد العزيز»، ثم «إعلان الرياض»، عام 2010، الذي مثل قيام الشراكة الحقيقية بين البلدين، وتأسيس «لجنة سعودية هندية»، تعمل على تنمية المصالح المشتركة. وبعد زيارة سمو ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان»، إلى الهند عام 2019، قام رئيس الوزراء الهندي، «نار بندرا مودي»، بزيارة الرياض، وأعلن ولي العهد السعودي، أن هناك فرصًا للاستثمار بالهند بأكثر من 100 مليار دولار. وسبق «لمودي»، أن زار السعودية عام 2016، ونتج عن زيارته في 2017 و2018، استثمارات سعودية في تكرير النفط والبتروكيماويات، والمشاركة في مشاريع الإسكان، وإنتاج الكهرباء، ومن أبرز المشاريع التي تعمل عليها البلدان مصفاة «راتنا غيري»، التي تبلغ تكلفتها 44 مليار دولار.
أما «الإمارات»، التي بدأت علاقاتها الدبلوماسية مع «الهند»، عام 1972، فقد أعلنت في فبراير 2022، إقامة الشراكة الاقتصادية الشاملة معها؛ لتدشن حقبة جديدة من التعاون الاقتصادي وتعزيز العلاقات التاريخية، وغدت بذلك ثالث أكبر شريك تجاري لها. ومن المتوقع أن تؤدي هذه الاتفاقية إلى زيادة التجارة الثنائية غير النفطية إلى 100 مليار دولار خلال 5 سنوات. ومن المعلوم، أن «دبي»، ظلت تمثل فترة طويلة مركزًا تجاريًا إقليميًا لإعادة تصدير المنتجات الهندية. وتعد زيارة رئيس الوزراء الهندي للإمارات عام 2015، «نقطة تحول»، رئيسية في العلاقات الثنائية بين البلدين، حيث تجاوز حجم التجارة بينهما قرابة 60 مليار دولار، بينما كان لا يزيد على 180 مليون دولار في السبعينيات، فيما نمت الاستثمارات المتبادلة في الفترة من 2003 إلى2021، لأكثر من 57 مليار دولار، تمثل نسبة الاستثمارات الهندية فيها نحو 54%.
وتمتد جذور العلاقات الهندية الكويتية منذ القدم في شتى المجالات، وازدهرت في مطلع القرن العشرين إبان حكم الشيخ مبارك الكبير، وكانت السفن التجارية الكويتية تحمل اللؤلؤ والتمور والبضائع إلى القارة الهندية، وتعود محملة بالمنتجات الهندية. وفي يونيو 1962، بدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتمثل الجالية الهندية في الكويت 26% من إجمالي الوافدين البالغ عددهم 3.4 ملايين شخص، وتبلغ نسبتهم في عدد سكان الكويت 30%، أما حجم التبادل التجاري بينهما، فيبلغ نحو 10 مليارات دولار عام 2022، فيما بلغ حجم الاستثمارات الكويتية في الهند 5.5 مليارات دولار عام 2021، مع توقع زيادتها إلى نحو 10 مليارات دولار.
وكبقية دول الخليج تعد الجالية الهندية في «قطر»، هي الأكبر، وبلغ عددها نحو 700 ألف شخص، وترجع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى أوائل سبعينيات القرن الماضي، حين تم تعيين أول قائم بأعمال للسفارة القطرية في «نيودلهي»، عام 1973، وأول سفير في 1974. وفي 2022 بلغ حجم التبادل التجاري بينهما أكثر من 18 مليار دولار. وتستورد «الهند» من «قطر»، الأمونيا، واليوريا، والبولي إيثلين، والبوروبلين. وتعتبر «نيودلهي»، أكبر مستوردي الغاز الطبيعي المسال من الدوحة، حيث غدت رابع أكبر وجهة له بعد اليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، ويتم استيراده بموجب اتفاقية وقعها الجانبان عام 1990، بـ7.5 ملايين طن سنويًا لمدة 25 عاما. وفي ديسمبر 2015، تم الاتفاق على زيادة هذه الكمية بمليون طن سنويًا. ولدى تبادل الزيارات بين زعماء البلدين عام 2016، تم التوقيع على 6 اتفاقيات في عدة مجالات، أهمها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
ووفقًا لـ«غرفة تجارة وصناعة قطر»، هناك أكثر من 6 آلاف شركة هندية كبيرة وصغيرة تعمل في قطر، وبلغ استثمارات هذه الشركات نحو 450 مليون دولار، فيما يبدي «جهاز قطر للاستثمار»، رغبته في الاستثمار في السوق الهندي في مشاريع البنية التحتية والعقارات ومحطات الكهرباء، وفي 2019 اشترى الجهاز 25% من شركة «أداني» لتوزيع الكهرباء، بقيمة بلغت 450 مليون دولار.
وأقامت «سلطنة عُمان»، سفارتها في «نيودلهي»، عام 1972، فيما يعمل على تطوير العلاقات بين البلدين، لجنة مشتركة، برئاسة وزيري التجارة والصناعة لكلا البلدين. ويعد التعاون الأمني البحري في مجال مكافحة القرصنة من أكبر مجالات التعاون بينهما. وتضم الجالية الهندية نحو 492 ألف شخص أي ما يقارب 10% من إجمالي سكان السلطنة البالغ 5.6 ملايين نسمة، وتجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 6.7 مليارات دولار في 2022. وتحتل الهند المركز الثاني، بعد الصين في قائمة الدول المستوردة من السلطنة، بحجم واردات بلغ العام الماضي 4.9 مليارات دولار، فيما تقوم نحو 6 آلاف شركة هندية بالاستثمار في السلطنة بإجمالي رأسمال 33.4 مليار دولار.
أما «مملكة البحرين»، التي بدأت علاقاتها الدبلوماسية مع «الهند»، عام 1971، فقد وقفت مع ترشيحها كي تكون عضوًا دائمًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي ديسمبر 2007 أقامت «الجمعية البحرينية الهندية»، في المنامة ندوة لتعزيز العلاقات بين البلدين. وفي 2014، زار جلالة الملك الهند، وتم توقيع العديد من مذكرات التفاهم. وفي الوقت الحالي، يتجاوز حجم التبادل التجاري بينهما أكثر من 1.4 مليار دولار بصادرات هندية تزيد على 900 مليون دولار، وصادرات بحرينية تتجاوز 500 مليون دولار. وقد اختارت العديد من الشركات الهندية إنشاء مشروعاتها الصناعية والتجارية في البحرين، فيما يعد الألومنيوم والمنتجات النفطية، أهم صادرات البحرين للهند. ويعمل على تطوير العلاقات بينهما اللجنة العليا المشتركة، وكذلك «منتدى الأعمال البحريني الهندي»، والتواصل بين سمو ولي العهد رئيس الوزراء الأمير «سلمان بن حمد»، ورئيس الوزراء الهندي، ولقاءات وزيري خارجية البلدين.
على العموم، تمثل العلاقات الثنائية بين كل من دول «مجلس التعاون الخليجي»، و«الهند»، «أساسًا قويًا»؛ لقيام اتفاقية التجارة الحرة الخليجية-الهندية، التي تعد إضافة نوعية إلى خصوصية تلك العلاقة المستمرة من قرون، وتعزز مكانة المجلس كقوة إقليمية في الاقتصاد الدولي لمجموعة الدول النامية، الذي تعد الهند أحد أهم أعمدتها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك