زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وثقوها بمعنى كتِّفوها
أعتقد أن البريطانيين هم سادة الأفلام الوثائقية/ التسجيلية، ولا أظن أن شخصاً يلمّ بأبجديات اللغة الإنجليزية لم يسمع ببرنامج بانوراما الذي ظل تلفزيون بي بي سسي يقدمه على مدى نحو 65 سنة، وعموماً فإن جميع أوجه حياتنا تم توثيقها من قبل الخواجات (الاستعماريين الكفار حطب النار) سواء بالقلم أو بالكاميرا، ولكننا على أعتاب طفرة كبرى في مجال الأفلام التسجيلية.
قبل نحو عشر سنوات قرأت شيئا عن مخرج مصري يعدّ العدة لإخراج فيلم عن سيرة ومسيرة روبي فصحت «يا خروبي»، وسألت الله أن يهب ذلك المخرج نعمة العقل فلا يقدم على تلك الحماقة، واستجاب الله لدعائي فلم أسمع بصدور ذلك الفيلم، ولو صدر لذبحتنا الصحف بتفاصيله ولوجدنا مقاطع منه على يوتيوب، ثم أراد الله بنا خيرا فلم نعد نسمع أو نرى روبي لأنها احترقت بل بالأحرى حرقت نفسها بالتركيز على حركة الأرداف بدلا من الحبال الصوتية.
ثم إذا بي أفاجأ في أواخر عام 2022 بأن مخرجا سينمائيا عربيا شهما يقرر نكاية بي إعداد فيلم وثائقي عن روبي، وطول الفيلم المرتقب 90 دقيقة، ولو جمعنا كافة أغنيات روبي في شريط واحد لما استغرقت 90 دقيقة! مش مهم، بل المهم هو أن هذه الشخصية التي ظهرت في منعطف خطير من حياة الأمة العربية وأحدثت تسونامي جعل «الشياب» -بالياء- مراهقين، ستكون متاحة لعشاقها الكُثر على شريط فيديو وأقراص دي في دي. وبما أن زوجتي تعتبر روبي من نواقض الوضوء وموجبات الغُسل، فإنني أناشد من يراسلونني عبر الإنترنت تزويدي بمشاهد من الفيلم المرتقب بالبريد الالكتروني، لأنه لو قفشتني أم الجعافر وأنا أشاهد روبي حتى وهي منقبة، فإنها ستخلعني في ميدان عام، ولن تقبل امرأة الزواج بشخص خليع، ومن تطلقه زوجته بسبب روبي يصبح خليعا بموجب الخلع وبموجب أن صور روبي في معظمها شلح وخلع وهو ما يسميه الرجعيون من أمثال زوجتي خلاعة.
روبي هذه مازالت «شابة» حسب اعتقادها، وهي من يريد إعداد فيلم عن سيرة حياتها، وبالتأكيد فإنها من يقف وراء الفكرة بالمال، مما يعني أنها إذا بلغت الخامسة والخمسين فستنشئ قناة فضائية خاصة بها، تغني وتبرطع فيها على مدار الساعة. وأتذكر هنا ما حدث عندما كنت في المرحلة الثانوية وتطاولت على مدرس اللغة العربية بأسلوب لا يخلو من وقاحة، وعاندت لأؤكد له أنه على خطأ في أمر لغوي فقال لي: يا ابني أنا قضيت عمرك زكام! وكانت صفعة بليغة علّمتني أن أحترم تجارب الآخرين. وأستطيع أن أقول إنني لو جمعت المدة التي قضيتها سيراً على الأقدام لقلة الحيلة لكانت أكثر من عشرين سنة. يعني قضيت ثلثي عمر روبي «مشي»، لطلب العلم أو لزيارة قريب أو عيادة مريض أو كسباً للرزق.
خلال عملي في التلفزيون السوداني كنت أذهب إلى عملي حاملاً قميصاً في كيس من ورق (كانت أكياس البلاستيك حكراً على البرجوازيين)، لأنني كنت أستقل الباص من بيتي إلى العمل، وكانت المسافة من أقرب محطة باص إلى التلفزيون نحو ثلاثة كيلومترات، كنت أقطعها مشياً، ويكون جسمي خلالها قد ضخ العرق بكميات تجارية، ومن ثم كان لا بد من قميص احتياطي لأجلس أمام الكاميرا بهيئة لائقة. ولو تابعتني الكاميرا خلال العشرين سنة التي قضيتها مشياً على الأقدام بحثاً عن معزة ضائعة أو هرباً من مجنون رماه صبية بالحجارة فطاردهم ووجدت نفسي مستهدفاً من جانبه فجريت طلباً للنجاة، أو جرياً إلى بيت الجيران لأن عقرباً لدغت أمي، ولا بد من الحصول على بعض الليمون. لو تابعتني الكاميرا وأنا أفعل تلك الأشياء لخرجت بفيلم يستحق العرض في مهرجان كان، ولكنّ الكاميرا غير معنية بشخص مثلي ملامحه بائسة ويرتدي ملابس تغطي جسمه من العنق حتى القدم. وحتى لو فقدت عقلي وعرضت على مخرج أن أكشف لحمي أمام الكاميرا فلن يجد الفيلم من يشتريه لأن «لحم على لحم يفرق». وجماهير العولمة تريد اللحم الأبيض المتوسط.
بصراحة نحتاج إلى من يوثق روبي أي «يكتَّفها».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك