«لقد عبثت كثير من الأيادي بأحجار الدومينو، وأخذت كل يد تمتدُّ إلى الحجارة. وما تصنعه الحجارة أنها تصنع بيوتًا. ليست حجارة هذا البيت وحدها، إنما بيوت حيّ الطالبية، الحي الذي يحدُّ مستعمرة ألمانية جنوبًا» (أوكالبتوس، 2023).
كانت أولى كلمات إدوارد سعيد في الفيلم الوثائقي «بحثاً عن فلسطين» (In Search of Palestine) الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عام 1998: «أراد والدي أن يُدفن في قرية جبلية صغيرة في لبنان، كنا نقضي فيها عطلات الصيف، ولكن لأسبابٍ تتعلق بالأولويات الدينية وجنسيته، لم نتمكن من دفنه هناك؛ فانتهى به المطاف في مقبرة ببيروت لم يكن يرغب في أن يُدفن فيها. وهذا، بطريقةٍ ما، هو قدر الفلسطينيين؛ إذ ينتهي بهم الرحيل في أماكن غير التي نشأوا فيها، أماكن بعيدة وغير متوقعة».
يصف عبد الله التل في كتابه (كارثة القدس، 1950) الصراع القائم في الجزء الغربي من مدينة القدس، ويتناول أحوال الأحياء العربية والمقدسيين كاتباً: «قد كنت أُدرك أن الحصار سيؤدي حتماً إلى سقوط المدينة إذا ما اقترن بقصف شديد ليلاً ونهاراً. فلم أدّخر وسعاً في إقناع ضباط الكتيبة الثالثة سرّاً ليساعدوا الكتيبة السادسة بمدافعهم «الهاون». وبالفعل، كنا نتعاون سرّاً وتشترك مدافع الهاون في الكتيبتين مع مدافع «الهاوتزر»، بقصف الأحياء وفقاً للتقسيمات التي كنت أُعيّنها. فقد كانت حصة مدافع الكتيبة الثالثة: المسكوبية وشارع يافا وجميع ما يقع شماله بما في ذلك معسكر «شنلر» (الذي أُقيم على أراضي لفتا العربية والمطل على واديها). وكانت حصة مدافع الكتيبة السادسة: «منطقة الوكالة اليهودية» و«رحافيا» والطالبية ومواقع في البقعة والقطمون والثوري والنبي داود. وفي المادة السادسة من تلك المقترحات طالبت بإعادة الأحياء العربية في القدس وقد وافقت لجنة الهدنة على المقترحات واعتبرتها عادلة جداً. وعُيّنت الحدود المقترحة بالاشتراك مع اللجنة وهي تبدأ من معسكر البوليس في الشيخ جراح فما وراء عمارة الأوقاف فطريق سانت جورج للمستشفى الإيطالي فالمسكوبية فمقبرة مأمن الله فالطالبية فالقطمون وكلها داخلة ضمن الحدود العربية».
الذاكرة لا تخون أصحابها؛ ففي مثل هذه الأيام من شهر كانون الأول/ديسمبر عام 1947، نُفِيَ سعيد مع عائلتهِ عن القدس. وما بين «البيت الشركسي» و«البيت الأبيض»، مَحطاتٌ مَرَّ بها فقيدنا؛ الأديب الأقرب بوصلةً لقلب القدس، والمدافع الأكاديمي الشرس عن قضية مسقط رأسه؛ ذلك المكان الذي أبصر فيه النور، قبل أن يترعرع بين أزقة حي الطالبية». توزعت طفولته المبكرة بين القاهرة وبيروت والقدس بحكم عمل والده، وديع إبراهيم سعيد الملقب بـ«ويليام». كان والده تاجراً ناجحاً ورائداً في مجال الأدوات المكتبية والقرطاسية، وتركز نشاطه التجاري في القاهرة. وقد خدم الأب في الجيش الأمريكي جندياً خلال الحرب العالمية الأولى في فرنسا، وبموجب ذلك حصل هو وأبناؤه بالتبعية على الجنسية الأمريكية. بدأ إدوارد مسيرته التعليمية في «كلية فيكتوريا» بالإسكندرية، ومنها انتقل إلى مدرسة «ماونت هيرمون» الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية. تابع تفوقه الأكاديمي بالحصول على درجة البكالوريوس من جامعة برنستون، ثم نال درجتي الماجستير والدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة هارفارد، ليلتحق بعدها بهيئة التدريس في جامعة كولومبيا بنيويورك عام 1963، حيث استقر أستاذاً للأدب المقارن.
عقب تشخيصه بمرض اللوكيميا (سرطان الدم ونخاع العظم) عام 1991، حافظ سعيد على نشاطه الأدبي والأكاديمي المتّقد؛ حيث شرع في تدوين مذكراته الخالدة «خارج المكان» (Out of Place) التي استعرض فيها سيرته ونشأته في كنف عائلته الثرية. وسرد فيها تفاصيل دقيقة عن تجارة والده، مبيناً دوره في توريد القرطاسية والمعدات المكتبية لدوائر الانتداب البريطاني، واستحواذه على مناقصات عسكرية وحكومية كبرى في مصر. وبعد نحو أربعة أعوام من التشخيص، وتحديداً في عام 1994، بدأ رحلة العلاج الكيماوي، لتستمر معاناته مع المرض طوال اثني عشر عاماً، صارع فيها الألم بالإبداع حتى رحيله.
كانت شخصية الأب القيادية ذات أثرٍ عميق في صياغة حياة إدوارد لاحقاً؛ إذ اكتسب منه الجرأة في فنّ الخطابة والنقد، ودبلوماسية التفاوض. وهي عوامل ألهمته الانخراط في الحياة السياسية بشكل أوسع؛ فصار عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني (الهيئة التشريعية في المنفى) منذ عام 1977، قبل أن يتحول لاحقاً إلى ناقد شرس لاتفاقيات أوسلو. وفي تلك الفترة، أصدر أشهر كتبه المؤثرة «الاستشراق» عام 1978. لقد أُجبرت عائلة سعيد، وعائلات مقدسية أخرى من الطالبية والقطمون وغيرها من مناطق غربي القدس، على مغادرة ديارها عام 1947، تلك المنطقة التي كانت تُعدُّ بوابةَ القدس قبيل النكبة، حين كانت الأحاديث تتناقل بين القرى المجاورة عن أنباء قاتمة توحي بالكارثة المقبلة.
في كثيرٍ من الأحيان، حين أتأمل رسومات ناجي العلي، أرى إدوارد سعيد حاضراً فيها؛ فقصة المبدعَين لم تختلف كثيراً؛ إذ هُجِّر سعيد قسرياً في الثانية عشرة من عمره إلى القاهرة، بينما هُجِّر ناجي في العاشرة إلى بيروت. هي قصصٌ واقعية حزينة يتشاركها المبدعان اللذان تمسّكا بالأمل حتى الرمق الأخير. ولطالما أثير الجدل حول ملكية منزل عائلة سعيد؛ إذ حاولت مؤسسات وأفراد بثَّ إشاعاتٍ تنفي امتلاك العائلة لبيت مستقل في حي الطالبية، سعياً لانتزاع شرعية تجذرهم في جغرافيا الوطن الجريح وعاصمته المحتلة. والحقيقة أن عائلة «الداغستاني» المقدسية، ذات الأصول الشركسية، كانوا جيراناً لهم في الحي ذاته، وما تناقلته الأحاديث عن استئجار والد سعيد لشقةٍ منهم فترة محدودة، لم يكن إلا مرحلةً عابرة سبقت استقرارهم في أملاكهم الخاصة (منزل العائلة الممتدة) المسجل باسم جده وعمته «نبيهة». لقد استولى الاحتلال الإسرائيلي على ممتلكات العائلة عام 1948 بموجب «قانون أملاك الغائبين» المُجحف؛ وكل تلك المحاولات للتشكيك في رواية سعيد وجيرانه لم تكن إلا غطاءً للاستحواذ العسكري على الممتلكات، وتجريد الفلسطينيين من حقهم الأصيل في العودة إلى بيوتهم في القدس.
خلال تولي جيمي كارتر رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في سبعينيات القرن العشرين، لعب سعيد دوراً حيوياً كقناة اتصال ومستشار غير رسمي بين الإدارة الأمريكية ومنظمة التحرير الفلسطينية؛ حيث اضطلع بمسؤولية صياغة وترجمة خطابات الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار)، في محاولةٍ جادة للتأثير على الموقف الأمريكي -شعبيّاً وقياديّاً- تجاه القضية الفلسطينية. وقد وجّه سعيد نصل نقدهِ صوب السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وتبعات التدخلات الغربية في الشؤون العربية، مفككاً الصورة النمطية السائدة لدى الغرب تجاه الشرق. ومع فشل المرحلة الانتقالية لاتفاقيات أوسلو عام 1993، جاهر بنبذه فكرة السلام المطروحة آنذاك، وهو الذي كان عضواً فاعلاً في المجلس الوطني الفلسطيني (الهيئة التشريعية في المنفى) منذ عام 1977، وحتى استقالته عام 1991.
وعقبَ احتفالية توقيع الاتفاق في حديقة «البيت الأبيض»، وصفَ إدوارد سعيد ذلك المشهد بـكلماتٍ لاذعة، ناعتاً إياها بالاحتفالية «المتبذلة». وعبّر بوضوح عن رؤيته للاتفاق بوصفه «ورقة جوكر» رابحة في يدِ المحتل وشركائه، في مشهدٍ رآه مهيناً وغير منصفٍ للقضية التي ناضل من أجلها هو وكلُّ المدافعين عن الحق والوجود الفلسطيني.
في عام 1992، عاد سعيد إلى القدس، وتحديداً إلى حي الطالبية؛ ليقف أمام المنزل الذي عاش فيه طفلاً للمرة الأولى منذ خمسة وأربعين عاماً. وخلال وجوده في الأرض المحتلة، ألقى كلمة في «جامعة بيرزيت»، ناقش فيها الواقع الفلسطيني مع الأكاديميين والطلبة. رحل سعيد تاركاً لنا إرثاً فكرياً ضخماً عبر كتاباته التي فككت «الاستشراق» وواجهت المنفى وقضايا الهوية، مكرساً نموذج المثقف الذي يواجه الاحتلال فكريا ومعرفياً.
{ كاتب من فلسطين

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك