العدد : ١٧٤٤٨ - الثلاثاء ٣٠ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ رجب ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٤٨ - الثلاثاء ٣٠ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ رجب ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

البروفيسور إدوارد سعيد.. فـي الذاكرة الفلسطينية

بقلم: هاشم السيد

الثلاثاء ٣٠ ديسمبر ٢٠٢٥ - 02:00

‮«‬لقد‭ ‬عبثت‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأيادي‭ ‬بأحجار‭ ‬الدومينو،‭ ‬وأخذت‭ ‬كل‭ ‬يد‭ ‬تمتدُّ‭ ‬إلى‭ ‬الحجارة‭. ‬وما‭ ‬تصنعه‭ ‬الحجارة‭ ‬أنها‭ ‬تصنع‭ ‬بيوتًا‭. ‬ليست‭ ‬حجارة‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬وحدها،‭ ‬إنما‭ ‬بيوت‭ ‬حيّ‭ ‬الطالبية،‭ ‬الحي‭ ‬الذي‭ ‬يحدُّ‭ ‬مستعمرة‭ ‬ألمانية‭ ‬جنوبًا‮»‬‭ (‬أوكالبتوس،‭ ‬2023‭).‬

كانت‭ ‬أولى‭ ‬كلمات‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬الوثائقي‭ ‬‮«‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬فلسطين‮»‬‭ (‬In‭ ‬Search‭ ‬of‭ ‬Palestine‭) ‬الذي‭ ‬أنتجته‭ ‬هيئة‭ ‬الإذاعة‭ ‬البريطانية‭ (‬BBC‭) ‬عام‭ ‬1998‭: ‬‮«‬أراد‭ ‬والدي‭ ‬أن‭ ‬يُدفن‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬جبلية‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬كنا‭ ‬نقضي‭ ‬فيها‭ ‬عطلات‭ ‬الصيف،‭ ‬ولكن‭ ‬لأسبابٍ‭ ‬تتعلق‭ ‬بالأولويات‭ ‬الدينية‭ ‬وجنسيته،‭ ‬لم‭ ‬نتمكن‭ ‬من‭ ‬دفنه‭ ‬هناك؛‭ ‬فانتهى‭ ‬به‭ ‬المطاف‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬ببيروت‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يُدفن‭ ‬فيها‭. ‬وهذا،‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬ما،‭ ‬هو‭ ‬قدر‭ ‬الفلسطينيين؛‭ ‬إذ‭ ‬ينتهي‭ ‬بهم‭ ‬الرحيل‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬غير‭ ‬التي‭ ‬نشأوا‭ ‬فيها،‭ ‬أماكن‭ ‬بعيدة‭ ‬وغير‭ ‬متوقعة‮»‬‭.‬

يصف‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬التل‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬كارثة‭ ‬القدس،‭ ‬1950‭) ‬الصراع‭ ‬القائم‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الغربي‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬القدس،‭ ‬ويتناول‭ ‬أحوال‭ ‬الأحياء‭ ‬العربية‭ ‬والمقدسيين‭ ‬كاتباً‭: ‬‮«‬قد‭ ‬كنت‭ ‬أُدرك‭ ‬أن‭ ‬الحصار‭ ‬سيؤدي‭ ‬حتماً‭ ‬إلى‭ ‬سقوط‭ ‬المدينة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬اقترن‭ ‬بقصف‭ ‬شديد‭ ‬ليلاً‭ ‬ونهاراً‭. ‬فلم‭ ‬أدّخر‭ ‬وسعاً‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬ضباط‭ ‬الكتيبة‭ ‬الثالثة‭ ‬سرّاً‭ ‬ليساعدوا‭ ‬الكتيبة‭ ‬السادسة‭ ‬بمدافعهم‭ ‬‮«‬الهاون‮»‬‭. ‬وبالفعل،‭ ‬كنا‭ ‬نتعاون‭ ‬سرّاً‭ ‬وتشترك‭ ‬مدافع‭ ‬الهاون‭ ‬في‭ ‬الكتيبتين‭ ‬مع‭ ‬مدافع‭ ‬‮«‬الهاوتزر‮»‬،‭ ‬بقصف‭ ‬الأحياء‭ ‬وفقاً‭ ‬للتقسيمات‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أُعيّنها‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬حصة‭ ‬مدافع‭ ‬الكتيبة‭ ‬الثالثة‭: ‬المسكوبية‭ ‬وشارع‭ ‬يافا‭ ‬وجميع‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬شماله‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬معسكر‭ ‬‮«‬شنلر‮»‬‭ (‬الذي‭ ‬أُقيم‭ ‬على‭ ‬أراضي‭ ‬لفتا‭ ‬العربية‭ ‬والمطل‭ ‬على‭ ‬واديها‭). ‬وكانت‭ ‬حصة‭ ‬مدافع‭ ‬الكتيبة‭ ‬السادسة‭: ‬‮«‬منطقة‭ ‬الوكالة‭ ‬اليهودية‮»‬‭ ‬و«رحافيا‮»‬‭ ‬والطالبية‭ ‬ومواقع‭ ‬في‭ ‬البقعة‭ ‬والقطمون‭ ‬والثوري‭ ‬والنبي‭ ‬داود‭. ‬وفي‭ ‬المادة‭ ‬السادسة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المقترحات‭ ‬طالبت‭ ‬بإعادة‭ ‬الأحياء‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬القدس‭ ‬وقد‭ ‬وافقت‭ ‬لجنة‭ ‬الهدنة‭ ‬على‭ ‬المقترحات‭ ‬واعتبرتها‭ ‬عادلة‭ ‬جداً‭. ‬وعُيّنت‭ ‬الحدود‭ ‬المقترحة‭ ‬بالاشتراك‭ ‬مع‭ ‬اللجنة‭ ‬وهي‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬معسكر‭ ‬البوليس‭ ‬في‭ ‬الشيخ‭ ‬جراح‭ ‬فما‭ ‬وراء‭ ‬عمارة‭ ‬الأوقاف‭ ‬فطريق‭ ‬سانت‭ ‬جورج‭ ‬للمستشفى‭ ‬الإيطالي‭ ‬فالمسكوبية‭ ‬فمقبرة‭ ‬مأمن‭ ‬الله‭ ‬فالطالبية‭ ‬فالقطمون‭ ‬وكلها‭ ‬داخلة‭ ‬ضمن‭ ‬الحدود‭ ‬العربية‮»‬‭.‬

الذاكرة‭ ‬لا‭ ‬تخون‭ ‬أصحابها؛‭ ‬ففي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬كانون‭ ‬الأول‭/‬ديسمبر‭ ‬عام‭ ‬1947،‭ ‬نُفِيَ‭ ‬سعيد‭ ‬مع‭ ‬عائلتهِ‭ ‬عن‭ ‬القدس‭. ‬وما‭ ‬بين‭ ‬‮«‬البيت‭ ‬الشركسي‮»‬‭ ‬و«البيت‭ ‬الأبيض‮»‬،‭ ‬مَحطاتٌ‭ ‬مَرَّ‭ ‬بها‭ ‬فقيدنا؛‭ ‬الأديب‭ ‬الأقرب‭ ‬بوصلةً‭ ‬لقلب‭ ‬القدس،‭ ‬والمدافع‭ ‬الأكاديمي‭ ‬الشرس‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬مسقط‭ ‬رأسه؛‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬أبصر‭ ‬فيه‭ ‬النور،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يترعرع‭ ‬بين‭ ‬أزقة‭ ‬حي‭ ‬الطالبية‮»‬‭. ‬توزعت‭ ‬طفولته‭ ‬المبكرة‭ ‬بين‭ ‬القاهرة‭ ‬وبيروت‭ ‬والقدس‭ ‬بحكم‭ ‬عمل‭ ‬والده،‭ ‬وديع‭ ‬إبراهيم‭ ‬سعيد‭ ‬الملقب‭ ‬بـ«ويليام‮»‬‭. ‬كان‭ ‬والده‭ ‬تاجراً‭ ‬ناجحاً‭ ‬ورائداً‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأدوات‭ ‬المكتبية‭ ‬والقرطاسية،‭ ‬وتركز‭ ‬نشاطه‭ ‬التجاري‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭. ‬وقد‭ ‬خدم‭ ‬الأب‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكي‭ ‬جندياً‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬وبموجب‭ ‬ذلك‭ ‬حصل‭ ‬هو‭ ‬وأبناؤه‭ ‬بالتبعية‭ ‬على‭ ‬الجنسية‭ ‬الأمريكية‭. ‬بدأ‭ ‬إدوارد‭ ‬مسيرته‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬‮«‬كلية‭ ‬فيكتوريا‮»‬‭ ‬بالإسكندرية،‭ ‬ومنها‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬‮«‬ماونت‭ ‬هيرمون‮»‬‭ ‬الداخلية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭. ‬تابع‭ ‬تفوقه‭ ‬الأكاديمي‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬البكالوريوس‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬برنستون،‭ ‬ثم‭ ‬نال‭ ‬درجتي‭ ‬الماجستير‭ ‬والدكتوراه‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬هارفارد،‭ ‬ليلتحق‭ ‬بعدها‭ ‬بهيئة‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬كولومبيا‭ ‬بنيويورك‭ ‬عام‭ ‬1963،‭ ‬حيث‭ ‬استقر‭ ‬أستاذاً‭ ‬للأدب‭ ‬المقارن‭.‬

عقب‭ ‬تشخيصه‭ ‬بمرض‭ ‬اللوكيميا‭ (‬سرطان‭ ‬الدم‭ ‬ونخاع‭ ‬العظم‭) ‬عام‭ ‬1991،‭ ‬حافظ‭ ‬سعيد‭ ‬على‭ ‬نشاطه‭ ‬الأدبي‭ ‬والأكاديمي‭ ‬المتّقد؛‭ ‬حيث‭ ‬شرع‭ ‬في‭ ‬تدوين‭ ‬مذكراته‭ ‬الخالدة‭ ‬‮«‬خارج‭ ‬المكان‮»‬‭ (‬Out‭ ‬of‭ ‬Place‭) ‬التي‭ ‬استعرض‭ ‬فيها‭ ‬سيرته‭ ‬ونشأته‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬عائلته‭ ‬الثرية‭. ‬وسرد‭ ‬فيها‭ ‬تفاصيل‭ ‬دقيقة‭ ‬عن‭ ‬تجارة‭ ‬والده،‭ ‬مبيناً‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬توريد‭ ‬القرطاسية‭ ‬والمعدات‭ ‬المكتبية‭ ‬لدوائر‭ ‬الانتداب‭ ‬البريطاني،‭ ‬واستحواذه‭ ‬على‭ ‬مناقصات‭ ‬عسكرية‭ ‬وحكومية‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬مصر‭. ‬وبعد‭ ‬نحو‭ ‬أربعة‭ ‬أعوام‭ ‬من‭ ‬التشخيص،‭ ‬وتحديداً‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1994،‭ ‬بدأ‭ ‬رحلة‭ ‬العلاج‭ ‬الكيماوي،‭ ‬لتستمر‭ ‬معاناته‭ ‬مع‭ ‬المرض‭ ‬طوال‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬عاماً،‭ ‬صارع‭ ‬فيها‭ ‬الألم‭ ‬بالإبداع‭ ‬حتى‭ ‬رحيله‭.‬

كانت‭ ‬شخصية‭ ‬الأب‭ ‬القيادية‭ ‬ذات‭ ‬أثرٍ‭ ‬عميق‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬حياة‭ ‬إدوارد‭ ‬لاحقاً؛‭ ‬إذ‭ ‬اكتسب‭ ‬منه‭ ‬الجرأة‭ ‬في‭ ‬فنّ‭ ‬الخطابة‭ ‬والنقد،‭ ‬ودبلوماسية‭ ‬التفاوض‭. ‬وهي‭ ‬عوامل‭ ‬ألهمته‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬بشكل‭ ‬أوسع؛‭ ‬فصار‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬الفلسطيني‭ (‬الهيئة‭ ‬التشريعية‭ ‬في‭ ‬المنفى‭) ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬لاحقاً‭ ‬إلى‭ ‬ناقد‭ ‬شرس‭ ‬لاتفاقيات‭ ‬أوسلو‭. ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬أصدر‭ ‬أشهر‭ ‬كتبه‭ ‬المؤثرة‭ ‬‮«‬الاستشراق‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1978‭. ‬لقد‭ ‬أُجبرت‭ ‬عائلة‭ ‬سعيد،‭ ‬وعائلات‭ ‬مقدسية‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الطالبية‭ ‬والقطمون‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬غربي‭ ‬القدس،‭ ‬على‭ ‬مغادرة‭ ‬ديارها‭ ‬عام‭ ‬1947،‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُعدُّ‭ ‬بوابةَ‭ ‬القدس‭ ‬قبيل‭ ‬النكبة،‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬الأحاديث‭ ‬تتناقل‭ ‬بين‭ ‬القرى‭ ‬المجاورة‭ ‬عن‭ ‬أنباء‭ ‬قاتمة‭ ‬توحي‭ ‬بالكارثة‭ ‬المقبلة‭.‬

في‭ ‬كثيرٍ‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬حين‭ ‬أتأمل‭ ‬رسومات‭ ‬ناجي‭ ‬العلي،‭ ‬أرى‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬حاضراً‭ ‬فيها؛‭ ‬فقصة‭ ‬المبدعَين‭ ‬لم‭ ‬تختلف‭ ‬كثيراً؛‭ ‬إذ‭ ‬هُجِّر‭ ‬سعيد‭ ‬قسرياً‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬بينما‭ ‬هُجِّر‭ ‬ناجي‭ ‬في‭ ‬العاشرة‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‭. ‬هي‭ ‬قصصٌ‭ ‬واقعية‭ ‬حزينة‭ ‬يتشاركها‭ ‬المبدعان‭ ‬اللذان‭ ‬تمسّكا‭ ‬بالأمل‭ ‬حتى‭ ‬الرمق‭ ‬الأخير‭. ‬ولطالما‭ ‬أثير‭ ‬الجدل‭ ‬حول‭ ‬ملكية‭ ‬منزل‭ ‬عائلة‭ ‬سعيد؛‭ ‬إذ‭ ‬حاولت‭ ‬مؤسسات‭ ‬وأفراد‭ ‬بثَّ‭ ‬إشاعاتٍ‭ ‬تنفي‭ ‬امتلاك‭ ‬العائلة‭ ‬لبيت‭ ‬مستقل‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬الطالبية،‭ ‬سعياً‭ ‬لانتزاع‭ ‬شرعية‭ ‬تجذرهم‭ ‬في‭ ‬جغرافيا‭ ‬الوطن‭ ‬الجريح‭ ‬وعاصمته‭ ‬المحتلة‭. ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬عائلة‭ ‬‮«‬الداغستاني‮»‬‭ ‬المقدسية،‭ ‬ذات‭ ‬الأصول‭ ‬الشركسية،‭ ‬كانوا‭ ‬جيراناً‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬ذاته،‭ ‬وما‭ ‬تناقلته‭ ‬الأحاديث‭ ‬عن‭ ‬استئجار‭ ‬والد‭ ‬سعيد‭ ‬لشقةٍ‭ ‬منهم‭ ‬فترة‭ ‬محدودة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إلا‭ ‬مرحلةً‭ ‬عابرة‭ ‬سبقت‭ ‬استقرارهم‭ ‬في‭ ‬أملاكهم‭ ‬الخاصة‭ (‬منزل‭ ‬العائلة‭ ‬الممتدة‭) ‬المسجل‭ ‬باسم‭ ‬جده‭ ‬وعمته‭ ‬‮«‬نبيهة‮»‬‭. ‬لقد‭ ‬استولى‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬على‭ ‬ممتلكات‭ ‬العائلة‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬بموجب‭ ‬‮«‬قانون‭ ‬أملاك‭ ‬الغائبين‮»‬‭ ‬المُجحف؛‭ ‬وكل‭ ‬تلك‭ ‬المحاولات‭ ‬للتشكيك‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬سعيد‭ ‬وجيرانه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬إلا‭ ‬غطاءً‭ ‬للاستحواذ‭ ‬العسكري‭ ‬على‭ ‬الممتلكات،‭ ‬وتجريد‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬من‭ ‬حقهم‭ ‬الأصيل‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬بيوتهم‭ ‬في‭ ‬القدس‭.‬

خلال‭ ‬تولي‭ ‬جيمي‭ ‬كارتر‭ ‬رئاسة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬لعب‭ ‬سعيد‭ ‬دوراً‭ ‬حيوياً‭ ‬كقناة‭ ‬اتصال‭ ‬ومستشار‭ ‬غير‭ ‬رسمي‭ ‬بين‭ ‬الإدارة‭ ‬الأمريكية‭ ‬ومنظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية؛‭ ‬حيث‭ ‬اضطلع‭ ‬بمسؤولية‭ ‬صياغة‭ ‬وترجمة‭ ‬خطابات‭ ‬الرئيس‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الراحل‭ ‬ياسر‭ ‬عرفات‭ (‬أبو‭ ‬عمار‭)‬،‭ ‬في‭ ‬محاولةٍ‭ ‬جادة‭ ‬للتأثير‭ ‬على‭ ‬الموقف‭ ‬الأمريكي‭ -‬شعبيّاً‭ ‬وقياديّاً‭- ‬تجاه‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭. ‬وقد‭ ‬وجّه‭ ‬سعيد‭ ‬نصل‭ ‬نقدهِ‭ ‬صوب‭ ‬السياسة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬وتبعات‭ ‬التدخلات‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬العربية،‭ ‬مفككاً‭ ‬الصورة‭ ‬النمطية‭ ‬السائدة‭ ‬لدى‭ ‬الغرب‭ ‬تجاه‭ ‬الشرق‭. ‬ومع‭ ‬فشل‭ ‬المرحلة‭ ‬الانتقالية‭ ‬لاتفاقيات‭ ‬أوسلو‭ ‬عام‭ ‬1993،‭ ‬جاهر‭ ‬بنبذه‭ ‬فكرة‭ ‬السلام‭ ‬المطروحة‭ ‬آنذاك،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عضواً‭ ‬فاعلاً‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬الفلسطيني‭ (‬الهيئة‭ ‬التشريعية‭ ‬في‭ ‬المنفى‭) ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬وحتى‭ ‬استقالته‭ ‬عام‭ ‬1991‭.‬

وعقبَ‭ ‬احتفالية‭ ‬توقيع‭ ‬الاتفاق‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬‮«‬البيت‭ ‬الأبيض‮»‬،‭ ‬وصفَ‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬بـكلماتٍ‭ ‬لاذعة،‭ ‬ناعتاً‭ ‬إياها‭ ‬بالاحتفالية‭ ‬‮«‬المتبذلة‮»‬‭. ‬وعبّر‭ ‬بوضوح‭ ‬عن‭ ‬رؤيته‭ ‬للاتفاق‭ ‬بوصفه‭ ‬‮«‬ورقة‭ ‬جوكر‮»‬‭ ‬رابحة‭ ‬في‭ ‬يدِ‭ ‬المحتل‭ ‬وشركائه،‭ ‬في‭ ‬مشهدٍ‭ ‬رآه‭ ‬مهيناً‭ ‬وغير‭ ‬منصفٍ‭ ‬للقضية‭ ‬التي‭ ‬ناضل‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬هو‭ ‬وكلُّ‭ ‬المدافعين‭ ‬عن‭ ‬الحق‭ ‬والوجود‭ ‬الفلسطيني‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬1992،‭ ‬عاد‭ ‬سعيد‭ ‬إلى‭ ‬القدس،‭ ‬وتحديداً‭ ‬إلى‭ ‬حي‭ ‬الطالبية؛‭ ‬ليقف‭ ‬أمام‭ ‬المنزل‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭ ‬طفلاً‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬منذ‭ ‬خمسة‭ ‬وأربعين‭ ‬عاماً‭. ‬وخلال‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬المحتلة،‭ ‬ألقى‭ ‬كلمة‭ ‬في‭ ‬‮«‬جامعة‭ ‬بيرزيت‮»‬،‭ ‬ناقش‭ ‬فيها‭ ‬الواقع‭ ‬الفلسطيني‭ ‬مع‭ ‬الأكاديميين‭ ‬والطلبة‭. ‬رحل‭ ‬سعيد‭ ‬تاركاً‭ ‬لنا‭ ‬إرثاً‭ ‬فكرياً‭ ‬ضخماً‭ ‬عبر‭ ‬كتاباته‭ ‬التي‭ ‬فككت‭ ‬‮«‬الاستشراق‮»‬‭ ‬وواجهت‭ ‬المنفى‭ ‬وقضايا‭ ‬الهوية،‭ ‬مكرساً‭ ‬نموذج‭ ‬المثقف‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬الاحتلال‭ ‬فكريا‭ ‬ومعرفياً‭.‬

{ كاتب من فلسطين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا