في الأسبوع الأخير من ديسمبر، وأنا أقلب صفحات الأجندة التي اعتدت تدوين ملاحظاتي اليومية فيها، لأرتب ما تبقى من العام، توقفت عند صفحة الأيام الأخيرة من الشهر. كانت تلك التي يصادف فيها عيد ميلادي.
لم يكن هناك ما كُتب سوى التاريخ، لكنه أعادني تلقائيا إلى مكالمة قصيرة جرت قبل أسابيع مع إحدى القريبات، كانت تتحدث بنبرة فيها حزن مخفي على نفسها، حيث قالت لي بحزن: «العام انتهى وأنا لم أحقق شيئا يُذكر»، ربما لأنني، مثل تلك القريبة تماما، كنت أفتش في الصفحات عن إنجاز واضح، عن شيء يستحق أن يُذكر.
في نهاية كل عام، يظهر ذلك السؤال المعتاد بصيغ مختلفة. فتتسلل المقارنات سريعا، وتطفو عناوين جاهزة لما يفترض أنه حدث؛ إنجازات واضحة، خطوات قابلة للعرض. عندها يختصر العام كله في النتيجة الظاهرة فقط، وكأن ما لم يتحول إلى خطوة مكتملة لا يستحق أن يحسب، ولا أن يروى بسياقه.
الزمن اليوم لا يسير بخطوط مستقيمة؛ خطط تعاد، أولويات تتبدل، وأحيانا لا يكون ما نعيشه تقدما أو توقفا، بل محاولة لإعادة ترتيب الحياة بما يناسب شكلها الجديد. لكننا نحاسب أنفسنا كأننا كنا نعمل في مساحة ثابتة، لا وسط حياة أعادت ترتيب كل شيء أكثر من مرة.
في مجتمع صغير مثل مجتمعنا المتداخل، لا يظل هذا التقييم شأنا داخليا خاصا. حيث الأخبار تنتقل بسرعة البرق؛ من ترقى، من انتقلت إلى بيت جديد، من أكملت الماجستير. لا أحد يقصد المقارنة، لكنها تحدث. تتراكم الصور، وتبدو الحياة من الخارج أكثر اكتمالا مما هي عليه فعليا.
ثمة مفارقة في طريقة احتفائنا بالنجاح؛ نصفق للنتيجة النهائية، بينما نتجاهل السنوات التي سبقتها. الطبيب الذي افتتح عيادته لم يُحتف به في سنوات دراسته المرهقة، والكاتب الذي نشر كتابه لم يذكر في السنوات التي كان يكتب فيها ويحذف دون أن يرى أحدا. لذلك حين نقيم عامنا، ربما علينا أن نتذكر؛ ليست كل السنوات مصممة لتكون سنة الوصول، بعضها مخصص للصعود فقط.
وهناك من يحمل ثقلا مضاعفا من هذه التوقعات؛ المرأة التي ينتظر منها التفوق في أدوار متعددة في آنٍ واحد، الشاب الذي يقاس نجاحه بمعايير الجيل السابق رغم اختلاف الظروف، من يعيل أسرة ويتوقع منه أن يبني مسيرته المهنية دون أن يظهر التعب. التوقعات لا تهدأ، ولا تمنح مساحة كافية للتفاوت.
لهذا السبب، لا تبدو كثير من الأحكام في نهاية العام منصفة. ليست المشكلة في قلة الجهد دائما، إنما في الطريقة التي نقيّم بها الأمور. هناك أعوام لا يمكن اختصارها في إنجاز واحد، ولا شرحها في سطر. أعوام كان ثقلها في الاستمرار، وفي التعلّم، وفي التخلّي عن أشياء لم تعد تشبهنا، حتى وإن لم يظهر ذلك في صورة واضحة للآخرين.
فعندما نقلب آخر صفحات التقويم، قد لا نحتاج إلى حكم جديد على أنفسنا بقدر ما نحتاج إلى تغيير معايير الحكم نفسها.
أن نلتفت إلى عدد المرات التي تكيفنا فيها مع تغييرات لم نخطط لها، وإلى العلاقات التي أصبحت أكثر صحة، وإلى الحدود التي تعلّمنا رسمها دون ضجيج، وإلى كل ما تركه العام من أثر في وعينا وفي قدرتنا على التوقف حين نحتاج، أو الاستمرار حين لا خيار آخر.
قد يكون الإنجاز الحقيقي أننا لم ننكسر، وأننا صرنا نعرف متى نتوقف، وأننا ما زلنا هنا نحاول، وهذا، في زمن كهذا، ليس بالأمر القليل.
rajabnabeela@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك