في صندوق جدي الحديدي وجدت قصاصة ورق، يروي فيها هذه الحكاية:
ذات يوم وفي الصحراء العربية كان هناك ثلاثة من علماء وطلاب العلم الشرعي يرحلون على الدواب من مدينة إلى أخرى، وعندما جنى الليل جلسوا يتسامرون حول النار ويتحدثون، وفي أثناء ذلك خرج عليهم إبليس، فعرفهم على نفسه، وقال لهم: «عندي لكم سؤال واحد، وأريد منكم أن تجيبوا عنه، وكل واحد ورأيه».
وافقوا على هذا، فقال لهم: ماذا ستفعلون لو أعطيتكم القدرة على تغيير الماضي، فماذا سيفعل كل واحد منكم؟
فكروا قليلاً، ثم أجاب الأول: سوف أمنعك من أن توسوس لسيدنا آدم عليه السلام وأمنع سقوطه في المعصية التي أنت كنت سببًا فيها وجعلته يأكل من الشجرة، وبسبب تلك المعصية أصبح الناس يبتعدون عن طريق الله سبحانه.
قال الثاني: سوف أمنعك من أن تبتعد عن الله سبحانه وسأجعلك تسجد لسيدنا آدم عليه السلام، وكل الأمور بعدها ستتغير، لأنه بسبب رفضك لتلك السجدة انتشرت الشرور والمعاصي.
ثم نظر ابليس إلى الرجل الثالث الذي ظل صامتًا طوال الوقت، ونظر الرجل إليه وكأنه يحاول أن يسبر أغواره، ثم أتلتف إلى صاحبه، ووقف وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم أكمل بقراءة آية الكرسي.
فاختفى ابليس وهرب، فغضب الرجلان وقالا لصاحبهما: لماذا فعلت هذا، ربما كان بالإمكان أن نعيد ترتيب الأحداث وتنتهي الشرور والمعاصي، وتعود البشرية إلى الله سبحانه وتعالى.
فقال الرجل: ومن يمتلك هذه القدرة؟ من يمتلك القدرة على إعادة الماضي وتعديله؟ لا أحد في هذا الكون يستطيع أن يفعل ذلك، الله سبحانه وتعالى فقط يمتلك تلك القدرة، أما ابليس فقد كان يلعب بعقولنا حتى يسخر منا ويضحك.
ثم سكت لحظة وأنهى كلامه بقوله: مثل هؤلاء يجب ألا نجادلهم، لأن الحديث معهم مضيعة للوقت.
وختم جدي القصاصة بالمثل العربي (لو كل كلب عوى ألقمته حجرًا، لأصبح الصخر مثقالاً بدينار).
جلستُ أتأمل في الحكاية، فقلت في نفسي لو أزلنا ابليس من الحكاية، فهل يمكن أن نضع أصنافا من البشر مكانه؟ ذهبتُ أتأمل بعض الناس الذين نصادفهم في الحياة وفي المجالس وفي العديد من الأماكن، ماذا نجد، علمًا أننا لن نتحدث عن أشخاص بعينهم، ولكن عن مجمل الذين نقابلهم ونقرأ لهم؟
الحكاية الأولى: يأتيك أحدهم ويتحدث عن الصحابة رضوان الله عليهم، ويحاول أن يحولهم عن الدين الإسلامي إلى العلمانية أو الليبرالية أو حتى الاشتراكية، فيعتبر الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري رجلا اشتراكيا لأنه اعترض على انتشار الثراء في المدينة المنورة في زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فخرج من المدينة المنورة مهاجرًا.
بعضهم يتحامل على الغزوات والفتوحات الإسلامية ويعتبرها احتلالاً ونوعا من أنواع الاستعمار، وينسى أن الفتوحات الإسلامية كانت فتحًا للشعوب بهدف فتح المجال أمامها لحرية التفكير والعيش بسلام واتخاذ القرار.
وبعضهم يجد أن اجتماع الصحابة رضوان الله عليهم الذين في سقيفة بني ساعدة لانتخاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجا عن المنهج الإسلامي وتحولا إلى المنهج والتفكير الليبرالي والعلماني والدنيوي لأنهم تسابقوا للحكم وتركوا جثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدفن بعد، ونسي هؤلاء أن هذا من صلب الإسلام والدين.
والغريب في الموضوع أن هؤلاء يدعون أنهم عرب، ويدينون بالإسلام وعلى الرغم من ذلك يتهجمون على الصحابة رضوان الله عليهم، ونسوا أو تناسوا أن الله سبحانه وتعالى قال في سورة الفتح – الآية 18: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا»، نعم فقد رضي الله سبحانه وتعالى عن الصحابة، فما الغاية في الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم؟
فالتعامل مع هؤلاء يجب أن يكون كما تعامل الشيخ الثالث مع الشيطان، تصد عنهم وتتركهم يأكلون أنفسهم بأنفسهم.
الحكاية الثانية: بعد الطوفان والسابع من أكتوبر 2023 انقسمت الشعوب العربية إلى ثلاثة أقسام: قسم وقف مع الطوفان قلبًا وقالبًا، وقسم آخر وقف ضد الطوفان قلبًا وقالبًا، ليس ذلك فحسب وإنما ألقى باللائمة على المقاومة وأن ما حدث ويحدث من تدمير وخراب وموت كان بسبب المقاومة التي كان من المفروض أن تعيش الحياة الخانعة بدلاً من الحياة الكريمة، والقسم الآخر سكت وآثر السكون فهم يسمعون ولا يعلقون، ويعيشون يومهم من غير أن يقولوا أي شيء، وكأن الأمر لم يكن.
ربما كانت الفئة الثالثة هي الأسوأ، لأنهم وقفوا ونظروا ولم يتحدثوا، وكأن الأمر يسير بصورة آمنة، وكأن الموت والدم الذي يسيل ليس له معنى، وكأن الطائرات والدبابات التي كانت تقصف ما هي إلا أفلام كارتون تدعو إلى السخرية والضحك. أما الفئة الثانية فقط كانت شرسة في الهجوم على المقاومة وكأن الرغبة في الحياة الكريمة التي تظللها الحرية ليست من احتياجات الإنسان، وكأن بعض الفصائل وأفراد المقاومة لم يكن لهم الحق في إثبات وجودهم ورغبتهم في العيش الكريم، بل كانوا يتكلمون ويجرمون المقاومة وكأن كل الذي حدث لم يكن ليحدث لولا أن قام هؤلاء بطلب الحياة الكريمة.
نسألهم: ألا نتفق أن هناك احتلالا؟ أليس هذا الاحتلال كان يدمر ويهدم ويغتصب البيوت والبشر منذ ما يقارب 80 سنة، هل كانت هذه المقاومة التي تدعون أنها السبب كانت موجودة منذ ذلك الحين، أم في نفوسكم أمراض لا تريدون أن تظهر فتخفونها تحت كلماتكم، فتقولون ما لا تعرفون؟
الحكاية الثالثة: ظهر لنا بعض الأقوام يتهجمون على القرآن الكريم، بمنطق أنه هل ينبغي أن يظل القرآن الكريم الذي نزل على قرية أو مدينة صحراوية في شبة الجزيرة العربية منذ ما يقرب من 1400 سنة يحكم حتى اليوم؟ هل مازالت أحكامه سارية ويمكن أن تكون صالحة للحياة العصرية التي يحكمها الذكاء الاصطناعي والخوارزميات وما إلى ذلك من تقنيات؟ هل تعاليم القرآن الكريم يمكن أن تساير مباهج الدنيا؟ لماذا علينا أن نؤدي الزكاة وأن نحج إلى مكة، أو أن نؤدي الصلاة كل يوم خمس مرات وما إلى ذلك من تعاليم؟
والغريب في هذا الموضوع أن من يتحدث بمثل هذا هم أقوام يلبسون ملابسنا ويتحدثون بلساننا، ولكنهم يفكرون بالعقل الصهيوني الغربي.
هؤلاء أقوام بدأوا يتكاثرون وينتشرون من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وغالبًا لا تظهر وجوههم، وإنما يدعون أن الذكاء الاصطناعي يتحدث ويرسم ويقول، إذ إنهم يخفون وجوههم وراء الستار، لأنهم يخافون أن تسطع الأضواء عليهم، لأنهم يخافون الحقيقة التي تقول إن الإسلام والقرآن الكريم دين الحقيقة الثابتة عبر الأجيال والسنين، يتغافلون أن القرآن الكريم يتعامل مع عقل الإنسان وعواطفه في نفس الوقت، واستطاع أن يصنع الإنسان من غير أن يهدمه أو أن يمحي وجوده، نسوا وتغافلوا أن الحضارة الغربية الحديثة وكل هذه التقنيات كان أساسها العلم العربي الإسلامي الذي انتشر في العصور الذهبية من الحضارة الإسلامية خلال العهد الأموي والعباسي، أثناء تلك الفترة كان الغرب يكفر من يغتسل بالماء، إذ كان الاستحمام في الغرب خطيئة.
وربما هناك حكاية رابعة وخامسة وعاشرة، وربما الكثير فمن الصعب تناولها كلها، ولكن قبل أن اختم مقالي وأعود إلى قصاصة جدي التي ذكر فيها ما قاله الإمام الشافعي في قصيدته التي يقول فيها:
أَعرِض عَنِ الجاهِلِ السَّفيهِ
فَكُلُّ ما قالَ فَهُوَ فيهِ
ما ضَرَّ بَحرَ الفُرات يَومًا
إِن خاضَ بَعضُ الكِلابِ فيهِ
فالحديث مع هؤلاء لا يكون إلا بالتعوذ من ابليس عليه لعنة الله سبحانه حتى لا تتلوث من كلامه.
وهناك أمر آخر، بعيدًا عن نظرية المؤامرة، ولكنها حقيقة بالدلائل والبراهين، نوجهها لكل إنسان يود أن يرى الحقيقة؛ نقول:
إن هذه البقعة من الأرض وهذا الجزء من العالم يتعرض لهجوم ومؤامرة كبرى يستهدف فيه هويته وشخصيته ووجوده وكينونته، إذ إن المطلوب من الإنسان العربي المسلم أن يذوب في كيان كبير تقوده الصهيونية الغربية، فلا يبقى له وجود، وربما يدعونك تصلى وتصوم، ولكنهم يرفضون رفضًا قاطعًا أن تفكر في شيء اسمه الاقتصاد الإسلامي أو الحياة الإسلامية أو نمط التفكير الإسلامي العربي، ربما يتركونك للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ولكنهم لن يدعوك أن تستنبط من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم منهجية حياة اجتماعية أو أسرية أو أن تفكر في أخلاقيات النبوة وكيفية تعامله مع المجتمع والأفراد وما إلى ذلك.
سيدعونك تذهب إلى الحج، ولكنهم سيجردون الحج من معانيه العظمي، وفي نفس الوقت لا يريدون أن تؤدي الزكاة على اعتبار أنها تسهم في التكافل الاجتماعي، وإنما هي بضعة دنانير لا تغني ولا تسمن من الجوع، فالامتناع عنها أفضل لك ولأحفادك وأبنائك.
كل هذا يحدث حولنا، وإبليس أو أولاده من أشباه العرب الذين يتحدثون العربية، ويذهبون إلى المساجد لأداء الصلاة يسجدون في هذه المحاريب، ولكن يسوؤهم أن تعود هذه الأمة إلى رشدها مرة أخرى، وتقود العالم من جديد.
zkhunji@hotmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك