القمة الخليجية السادسة والأربعين التي احتضنتها البحرين في الثالث من ديسمبر الحالي، جاء بيانها المكون من (162) بنداً جامعاً وشاملاً لكل الملفات الخليجية والإقليمية والدولية، وهذا يدل على أهمية الدور الكبير الذي يضطلع به المجلس، وسعيه المستمر لتحقيق الأهداف المرسومة له منذ إنشائه عام 1981، إضافة إلى تعاظم دوره الإقليمي والدولي؛ حيث باتت دول مجلس التعاون تمثل قوة لها وزن اقتصادي وسياسي ذات تأثير في الساحتين الإقليمية والدولية. كما أن مرور أكثر من أربعة عقود على إنشاء المجلس قد أسهم في تراكم الخبرات في إدارة العمل الخليجي المشترك مما أدى إلى نضج التجربة في العمل الجماعي والدفع به نحو تطوير آلياته التي من شأنها تحقيق مزيد من التكامل الخليجي. ونظراً إلى إيمان البحرين بدور مجلس التعاون في تعزيز التكامل بين أعضائه فهي تسعى باستمرار إلى تعميق الرابطة الخليجية سواء من خلال اللجان الوزارية للمجلس أو من خلال مؤتمرات القمة، وقد لمسنا هذا التوجه في بنود بيان وقرارات قمة المنامة بصورة جلية وواضحة، وتبين لنا التغيير الواضح في صياغة عباراته، وابتعادها عن التمنيات، إضافة إلى احتوائها على آليات عملية لإدارة الملفات الخليجية، ولا شك أن مثل هذا التوجه في صياغة البيان سيسهم في الإسراع في تنفيذها من قبل الدول الأعضاء.
وحول مضامين البيان، فقد تضمن الملف الأمني تأكيد القادة الخليجيين مبدأ وحدة الأمن الخليجي وقد ظهر ذلك بوضوح في عبارة: «أمن دول المجلس كل لا يتجزأ» هذا التأكيد يأتي في إطار قناعات القادة بأن أي تهديد لدولة خليجية يُعد تهديداً لبقية دول الخليج وهذه مسألة مهمة في اعتقادي؛ لأنها تؤكد وحدة المصير المشترك، ولذلك أكد البيان اتفاقيات الدفاع المشترك، والمواقف السياسية الواضحة إزاء إيران.
في الملف الاقتصادي، جاء البيان الختامي متناغماً مع متغيرات المرحلة التي تمر بها دول الخليج العربية المتمثلة في التحول من عصر النفط إلى عصر ما بعد النفط وذلك من خلال اعتماد «سياسة تنويع مصادر الدخل» وفي هذا السياق نرى أن بعض دول الخليج تسير على هذا الطريق، ولهذا فإن بيان المنامة أكد أهمية هذا التوجه خاصة في هذه المرحلة التي يشهد فيها العالم توجهاً نحو البحث عن إيجاد مصادر بديلة للطاقة.
إن تأكيد هذا التوجه في بيان المنامة، يعكس مدى إدراك القادة الخليجيين لأهمية التخطيط لاقتصاد ما بعد النفط بقصد حماية دولهم وتحصينها من الوقوع في الأزمات المالية والاقتصادية.
إن ما يفرح شعوب المنطقة هو أن الملف الاقتصادي دائماً يكون على رأس اهتمامات القادة، وأن اهتمامهم بهذا الملف نابع من وعيهم العميق بأهميته في دعم مسيرة العمل الخليجي المشترك، وقد عكس البيان الصادر عن قمة المنامة توجهات القادة وحرصهم على استكمال المشروعات الاقتصادية التي تحقق هذا الهدف، وأكد المضي قدماً في استكمال المشروعات الاقتصادية المشتركة كمشروع السكة الحديد، واعتماد تشغيل منصة تبادل البيانات الجمركية، ووضع آليات لمتابعة تنفيذ تنظيم توريد تجارة الخدمات عبر الحدود بين دول المجلس. واعتماد هيئة الطيران المدني «وتنظيم منتدى صنع في الخليج» الذي من المقرر أن يعقد في عام 2026.
في الواقع أن كل المشاريع الآنفة الذكر، تصب في اتجاه الاندماج الاقتصادي بين دول الخليج، وأنها تسير وفق جدول زمني، وأن كل دولة خليجية تسعى نحو توفير البنية التحتية اللازمة لتلك المشاريع، وتعمل على تهيئة الأرضية التي تسهم في نجاحها حسب الجدول الزمني المقرر لها.
على الصعيد السياسي، كان ملف القضية الفلسطينية حاضراً بقوة في البيان الختامي للقمة حيث تضمن إدانة صريحة للعدوان الإسرائيلي، وأكد دعمه ومساندته لكل المسارات السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية التي تفضي إلى إقامة الدولة الفلسطينية، والدعوة إلى تنفيذ جميع البنود الواردة في خطة الرئيس ترامب للسلام في غزة.
من جانب آخر، كان البيان واضحاً وصريحاً إزاء إيران؛ حيث دعا الأخيرة إلى احترام سيادة دول المجلس، ومراعاة حسن الجوار، ورفض التدخل، مع إدانة الاحتلال الإيراني للجزر الإمارتية، ولكل الإجراءات التي تقوم بها في الجزر كالمناورات العسكرية، وتغيير البنية السكانية في الجزر المحتلة. اللافت للنظر في هذه المسألة تأكيد الثوابت التي تطالب بحل هذه المشكلة عن طريق الحلول الدبلوماسية، وفي الوقت ذاته التمسك بالحقوق السيادية وعدم التهاون أو التنازل عنها. وهذا موقف ثابت ولم تحد عنه دول المجلس.
ولما كانت دول المجلس حريصة على أمن محيطها العربي واستقراره، فإن الملفات العربية لم تكن غائبة عن بياناتها الختامية؛ لذلك تحدث البيان عن ملف السودان وأكد دور الوساطة السعودية، والدعم الخليجي المشترك لإنهاء الحرب والانتقال إلى حكم مدني. كما كان لسوريا ولبنان نصيب في بيان القمة حيث نص بوضوح على استمرار دعم دول الخليج لسوريا من خلال العمل على إعادة دمجها عربياً، ورفع العقوبات عنها، ودعم الاستثمار والطاقة وإعادة الإعمار. وحول موقف دول مجلس التعاون من لبنان فقد أشار البيان إلى دعم الحكومة اللبنانية في قرارها الذي اتخذته بشأن حصر السلاح بيد الدولة، وتمسكها بالإصلاح الاقتصادي، ورفض تحويل لبنان إلى ساحة صراعات إقليمية.
أما على الصعيد الدولي، فقد أشار البيان الختامي لقمة المنامة إلى موقف دول مجلس التعاون من مسألة الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا، وأذربيجان وأرمينيا، وباكستان والهند. ويأتي اهتمام المجلس بتلك القضايا انطلاقاً من الدور الدبلوماسي الفعال الذي قامت به بعض دوله في الساحة الدولية. وهذا يدل على أن دول المجلس لها حضور في الساحة الدولية، فهي تتأثر بتلك الأحداث وتؤثر فيها وهو الأمر الذي يعطيها وزناً في الساحة العالمية.
اللافت للنظر في إعلان المنامة، احتواؤه على مسألة كانت دول الخليج في السابق لا تعيرها اهتماماً كملف الحوكمة وهو ملف جداً مهم في التنمية المستدامة، وهي خطوة متقدمة وضرورية لدول الخليج تعكس الاتجاه نحو تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد من خلال اعتماد أدلة موحدة للمسؤولية القانونية والتحقيقات المالية والاستراتيجية الأمنية لمكافحة غسل الأموال.
كما احتوى البيان أيضاً على بند يتعلق «بالذكاء الاصطناعي» وهذا يثبت أن دول الخليج تواكب متغيرات العصر، وأن اهتمام دول مجلس التعاون بموضوع «الذكاء الاصطناعي» يعكس وعي القادة بأهمية هذه التقنية التي باتت تدخل في جميع مجالات الحياة، وأن التنسيق والتعاون فيما بين دول المجلس في توطين هذه التقنية أصبحت مسألة ضرورية وليس ترفاً، وأن الاستعداد للولوج في عالمها أمراً حتمياً؛ لأنها سترسم ملامح صورة العالم الجديد، وأن من المهم أن يكون لدول الخليج حضور في عالم هذه التقنية.
ختاماً، يمكن القول: إن البحرين حريصة على تعزيز مسيرة العمل الخليجي المشترك انطلاقا من إيمان القيادة السياسية، وحرصها على تماسك البيت الخليجي، من خلال وضع فلسفة جديدة للعمل الخليجي المشترك تواكب متغيرات العصر، وترسم ملامح صورة المستقبل.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك