لم تعد سياسات الهجرة في الولايات المتحدة مجرد أدوات تنظيمية، بل تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مؤشرات كاشفة عن اتجاهات أعمق تتعلق بالهوية، والسلطة، وحدود الانتماء. وفي هذا السياق، يبرز حظر السفر الجديد الذي أعادت إدارة دونالد ترامب تفعيله بوصفه حلقة متقدمة في مسار سياسي يعيد تعريف من يُرحَّب به داخل الحدود الأمريكية، ومن يُقصى خارجها، وفق معايير تتجاوز الأمن إلى اعتبارات أكثر إثارة للجدل.
خلال فترتيه الرئاسيتين في الولايات المتحدة، فرض دونالد ترامب سلسلة من سياسات حظر السفر والقيود، استهدفت جميعها مواطني دول في إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. وقد بلغ هذا النهج ذروته في ديسمبر 2025، عندما تعهّد الرئيس الأمريكي بـ«وقف الهجرة بشكل دائم» من «جميع دول العالم الثالث».
وتُعد هذه السياسة تمييزية في جوهرها، إذ قُدّمت على أنها رد فعل على حادثة إطلاق نار استهدفت اثنين من أفراد الحرس الوطني الأمريكي على يد طالب لجوء أفغاني في واشنطن العاصمة. وفي هذا السياق، أكدت لوري بول كوبر، نائبة رئيس البرامج القانونية الأمريكية في مشروع المساعدة الدولية للاجئين، أن هذا النوع من الحظر «لا يمتّ بصلة إلى الأمن القومي»، بل يمثل «محاولة مخزية جديدة لتشويه صورة الناس لمجرد أصولهم».
وتفرض الحكومة الأمريكية حاليًا قيودًا صارمة على السفر تشمل ما يقرب من 20% من دول العالم، مع استهداف خاص للشعب الفلسطيني عبر إجراءات عقابية. فقد أفادت وكالة أسوشيتد برس بأن سفر أي شخص يحمل وثائق صادرة عن السلطة الفلسطينية إلى الولايات المتحدة أصبح «شبه مستحيل»، سواء كان الغرض الهجرة أو العمل أو السياحة أو الدراسة.
وبناءً على ذلك، وكما دعمت إدارة ترامب طموحات إسرائيل في فرض السيطرة الكاملة على الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، وما صاحب ذلك من تهجير قسري للسكان، فقد أغلقت الإدارة الجمهورية أيضًا أبواب الولايات المتحدة أمام الفارين من الصراع والاضطهاد، مفضّلة تسريع إعادة توطين ملايين الأشخاص بشكل دائم في مناطق أخرى من العالم، من دون أي أفق للعودة.
ويمثل تصعيد ديسمبر 2025 المرة الثالثة التي يُصر فيها ترامب على فرض حظر واسع النطاق على السفر خلال توليه منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة. فبعد أيام قليلة من دخوله البيت الأبيض في يناير 2017، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا بإغلاق حدود الولايات المتحدة أمام اللاجئين ومنع دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة، هي سوريا والعراق وإيران وليبيا واليمن والسودان والصومال.
وقد قوبل هذا القرار بإدانة واسعة من منظمات حقوق الإنسان والمحللين، ووُصف حينها بأنه «حظر على المسلمين». وبعد نزاعات قانونية مطوّلة، أقرّت المحكمة العليا الأمريكية نسخة ثالثة من القرار، قضت بحظر دخول الإيرانيين واليمنيين والسوريين والليبيين والصوماليين.
ورغم أن إدارة جو بايدن الديمقراطية سابقا ألغت هذه السياسات فور توليها الحكم، فإن عودة إدارة ترامب إلى نهجها التمييزي كانت متوقعة. فقد أشار سيزار غارسيا هيرنانديز، أستاذ القانون في جامعة ولاية أوهايو، إلى أن واشنطن كانت تُرسّخ «مراقبة أشد كثافة وأطول أمدًا للمهاجرين» الموجودين بالفعل داخل الولايات المتحدة.
ونتيجة لذلك، فُرض في يونيو 2015 نظام جديد لحظر السفر، شمل منعًا كاملًا لدخول 12 دولة، وقيودًا جزئية على 7 دول أخرى. وفي حينه، وصفت لجنة الإنقاذ الدولية هذا الإجراء، في ظل أكبر أزمة لاجئين يشهدها العالم، بأنه «تراجع إضافي عن القيم الأمريكية».
ويُعد توسيع هذا النظام في ديسمبر 2025 ليشمل حظرًا كاملًا على ست دول إضافية، من بينها فلسطين، وقيودًا جزئية على 15 دولة أخرى، خطوة وصفها دوغ راند، كبير مستشاري مدير دائرة خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية سابقًا، بأنها «إغلاق نهائي للباب» أمام السفر والهجرة إلى الولايات المتحدة.
وأوضح تايلر بيجر وحامد العزيز من صحيفة نيويورك تايمز أن القرار، المقرر دخوله حيز التنفيذ في الأول من يناير 2026، يشمل دولًا تقع جميعها في إفريقيا أو منطقة الكاريبي أو آسيا أو الشرق الأوسط. كما أشارا إلى أن القيود لا تقتصر على الأفراد الراغبين في السفر، بل تمتد لتشمل أزواجهم وأطفالهم وآباء المواطنين الأمريكيين الحاليين.
ومع تعهد ترامب بـ«ترحيل أي شخص لا يُعد إضافة قيّمة للولايات المتحدة»، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن شروط الحظر الجديد يُرجّح أن تكون لها «تداعيات كبيرة» على مواطني تلك الدول المقيمين بالفعل في الولايات المتحدة، ولا سيما من خلال مراجعة البطاقات الخضراء الممنوحة لمواطني 19 دولة، من بينها دول في الشرق الأوسط وإفريقيا.
وكما حدث مع قرارات حظر السفر السابقة في عهد ترامب، قوبل هذا التصعيد الأخير بإدانة واسعة من منظمات المجتمع المدني، بسبب معاييره التمييزية الواضحة. ففي حين تزعم واشنطن أن هذه الدول استُهدفت بسبب «قصور مزمن في إجراءات التدقيق» و«عدم موثوقية وثائق السفر الحكومية»، أكدت أندريا ر. فلوريس، الزميلة البارزة في منظمة «فوروورد يو إس» للدفاع عن إصلاح سياسات الهجرة والعدالة الجنائية والمسؤولة السابقة في وزارة الأمن الداخلي خلال إدارتي أوباما وبايدن، أنه «لا ينبغي أن يفاجأ المراقبون» بدفع ترامب سياسات الهجرة الأمريكية «نحو حقبة الحصص العرقية»، نظرًا إلى أنه «اعتاد اختيار جنسيات معينة ككبش فداء».
كما انتقدت فلوريس لجوءه إلى الأوامر التنفيذية لفرض لوائح هجرة جديدة دون رقابة الكونغرس، مشيرة إلى أن القوانين الأمريكية «تمنحه سلطة تقديرية واسعة للغاية للتمييز» وفق «تفضيلاته الشخصية».
وفي سياق متصل، ومع تصاعد تصريحات ترامب العدائية تجاه المهاجرين مثل وصفه «عبء اللاجئين» بأنه السبب الرئيس لـ«الاختلال الاجتماعي في أمريكا»، بما يشمل «فشل المدارس وارتفاع معدلات الجريمة والتدهور الحضري واكتظاظ المستشفيات ونقص المساكن والعجز الكبير»—وهي تصريحات رددها مسؤولون آخرون في الإدارة الجمهورية، من بينهم وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم، التي اتهمت دولًا في إفريقيا ومنطقة الكاريبي والشرق الأوسط بـ«إغراق أمتنا بالقتلة والطفيليين ومدمني الاستحقاقات»، أدان كريش أومارا فيجناراجا، الرئيس التنفيذي لمنظمة «جلوبال ريفوجي»، استخدام الإدارة «لغة الأمن مجددًا لتبرير عمليات استبعاد شاملة تعاقب شعوبًا بأكملها».
وأضاف فيجناراجا أن «العديد من الأفراد المعرضين للخطر» يُتركون «من دون أي سبيل عملي للنجاة» من العنف والقمع، مؤكدًا أن القيود الأخيرة يجب فهمها بوصفها محاولة جديدة لتقويض الحقوق القانونية والإنسانية للشعب الفلسطيني. وفي هذا الإطار، وثّقت جوليا جيلات، المديرة المساعدة في معهد سياسات الهجرة، دخول أكثر من 9000 شخص يحملون وثائق سفر فلسطينية إلى الولايات المتحدة في عام 2024، كان كثير منهم يزورون أقاربهم.
غير أنه منذ أغسطس 2025، أفادت ميراندا جيريتنام من مجلة تايم بأن الحكومة الأمريكية علّقت تقريبًا جميع أنواع التأشيرات، ما حال دون التحاق الطلاب بالجامعات الأمريكية، ومنع كذلك الدبلوماسيين الفلسطينيين من حضور الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر.
وفي ظل قمع البيت الأبيض للاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية، وهو ما قضى قاضٍ فيدرالي في سبتمبر بأنه انتهاك للدستور، أدانت الرابطة الوطنية لمستشاري الطلاب الأجانب ما وصفته بـ«تراجع الحكومة الأمريكية الحالية عن الانخراط العالمي». وأكدت الرابطة أن «حظر السفر الشامل القائم على الجنسيات أو فئات التأشيرات لا يجعل الولايات المتحدة أكثر أمانًا»، بل «يُضعفها». وهو تقييم يشاركه فيجناراجا، الذي خلص إلى أن «استبدال التدقيق الدقيق بالعقاب الجماعي» يقوّض أنظمة الهجرة، مع التأكيد أن سياسات إدارة ترامب تخدم هدفًا أوسع يتمثل في التمييز الممنهج ضد الشعوب الأجنبية، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني.
لا تكمن خطورة سياسات حظر السفر الجديدة في عدد الدول المشمولة أو صرامة القيود فحسب، بل في المنطق الذي تقوم عليه؛ منطق يعيد إحياء ممارسات الإقصاء الجماعي ويُفرغ مفاهيم العدالة واللجوء من مضمونها الإنساني. فحين تُستبدل المعايير الفردية بالعقاب الجماعي، وتُوظَّف لغة الأمن لتبرير التمييز، يصبح النظام القانوني أداة فرز لا حماية.
وفي حالة الفلسطينيين على وجه الخصوص، لا يبدو الحظر إجراءً إداريًا عابرًا، بل امتدادًا لسياسة أوسع تُضيّق سبل الحركة، وتعيد رسم الجغرافيا السياسية للحقوق، ليس فقط عند الحدود، بل في تعريف من يستحق العبور أصلًا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك