العدد : ١٧٤٤٥ - السبت ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٧ رجب ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٤٥ - السبت ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٧ رجب ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

منهج التربية القويمة بالقدوة الحسنة

بقلم: د. سعد الله المحمدي

السبت ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٥ - 02:00

تمثّل‭ ‬التربية‭ ‬بالقدوة‭ ‬الحسنة‭ ‬أحد‭ ‬أعمدة‭ ‬التربية‭ ‬النبوية‭ ‬الشاملة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬الأسوة‭ ‬الأكمل‭ ‬والمثل‭ ‬الأعلى‭ ‬في‭ ‬الهَدْي‭ ‬والاقتداء،‭ ‬والنّموذج‭ ‬الأرقى‭ ‬في‭ ‬التربية‭ ‬العملية،‭ ‬فكان‭ ‬قدوة‭ ‬في‭ ‬الأخلاق‭ ‬والتعامل،‭ ‬والزهد‭ ‬والعبادة،‭ ‬والعطاء‭ ‬والسخاء،‭ ‬والشجاعة‭ ‬والشهامة،‭ ‬والتواضع‭ ‬والحلم،‭ ‬والثبات‭ ‬والعزيمة،‭ ‬والرحمة‭ ‬واللين،‭ ‬والصدق‭ ‬والأمانة‭ ‬وسائر‭ ‬معالي‭ ‬الأخلاق،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬لَقَدْ‭ ‬كَانَ‭ ‬لَكُمْ‭ ‬فِي‭ ‬رَسُولِ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬أُسْوَةٌ‭ ‬حَسَنَةٌ‮»‬‭ ‬الأحزاب‭: ‬21،‭ ‬أي‭ ‬أسوة‭ ‬في‭ ‬أقواله‭ ‬وأفعاله‭ ‬وأحواله،‭ ‬وصبره‭ ‬ومجاهدته،‭ ‬وانتظاره‭ ‬الفَرَج‭ ‬مِنْ‭ ‬ربّه،‭ ‬كما‭ ‬بيّن‭ ‬ابن‭ ‬كثير‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭.‬

إن‭ ‬القدوة‭ ‬العملية‭ ‬أعمق‭ ‬تأثيرًا‭ ‬من‭ ‬آلاف‭ ‬الكلمات،‭ ‬وأشد‭ ‬وقعًا‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬من‭ ‬أساليب‭ ‬الأمر‭ ‬والنهي،‭ ‬فالطفل‭ ‬بطبيعته‭ ‬مرآةٌ‭ ‬لوالديه؛‭ ‬يقلدهما‭ ‬ويحاكيهما‭ ‬ويتخلق‭ ‬بأخلاقهما،‭ ‬قال‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: (‬كلُّ‭ ‬مولودٍ‭ ‬يُولَدُ‭ ‬على‭ ‬الفِطْرَةِ،‭ ‬فأبواه‭ ‬يُهوِّدانِه‭ ‬أو‭ ‬يُنصِّرانِه‭ ‬أو‭ ‬يُمجِّسانِه‭) ‬أخرجه‭ ‬البخاري‭: ‬1385‭.‬

وقال‭ ‬الشاعر‭:‬

وينشأ‭ ‬ناشئُ‭ ‬الفتيانِ‭ ‬منّا‭      ‬

على‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عوّده‭ ‬أبوه

وفي‭ ‬حياة‭ ‬الصحابة‭ ‬نماذج‭ ‬عملية‭ ‬بديعة؛‭ ‬فهذا‭ ‬ابن‭ ‬عباس‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما‭ ‬وهو‭ ‬غلام‭ ‬صغير‭ ‬يرى‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬يقوم‭ ‬لقيام‭ ‬الليل،‭ ‬فيتشبه‭ ‬به‭ ‬ويقف‭ ‬بجواره‭ ‬ليصلي‭ ‬معه،‭ ‬وهكذا‭ ‬نمت‭ ‬لديهم‭ ‬الأخلاق‭ ‬بالتتلمذ‭ ‬العملي‭ ‬قبل‭ ‬التوجيه‭ ‬اللفظي‭.‬

وكان‭ ‬السلف‭ ‬يعتنون‭ ‬بانتقاء‭ ‬القدوات‭ ‬والمعلمين،‭ ‬ويهتمون‭ ‬بتهيئة‭ ‬البيئة‭ ‬الصالحة‭ ‬التي‭ ‬تُنشئ‭ ‬أبناءهم‭ ‬على‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاق‭ ‬ومحامد‭ ‬الشيم،‭ ‬وعلى‭ ‬البلاغة،‭ ‬والفروسية،‭ ‬والصدق،‭ ‬والشجاعة،‭ ‬وكانوا‭ ‬يدفعون‭ ‬أولادهم‭ ‬إلى‭ ‬أوثق‭ ‬المؤدِّبين‭ ‬خلقًا‭ ‬وعلمًا‭.‬

روى‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬البيان‭ ‬والتبيين‭ (‬2/73‭) ‬أن‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سفيان‭ ‬قال‭ ‬لمؤدِّب‭ ‬ولده‭:‬

‮«‬ليكن‭ ‬أوّلُ‭ ‬ما‭ ‬تبدأ‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬إصلاح‭ ‬بنيَّ‭ ‬إصلاحُ‭ ‬نفسك؛‭ ‬فإن‭ ‬أعينهم‭ ‬معقودةٌ‭ ‬بعينك،‭ ‬فالحسن‭ ‬عندهم‭ ‬ما‭ ‬استحسنت،‭ ‬والقبيح‭ ‬ما‭ ‬استقبحت‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬وصيةٌ‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬صلاح‭ ‬المربي‭ ‬مقدمة‭ ‬لصلاح‭ ‬المتربي،‭ ‬وأن‭ ‬أعين‭ ‬الأبناء‭ ‬تتعلق‭ ‬بأفعال‭ ‬مربيهم‭ ‬قبل‭ ‬ألفاظه‭.‬

فالمربي‭ ‬يزرع‭ ‬في‭ ‬الطفل‭ ‬القيم‭ ‬الكبرى‭ ‬بأفعاله‭ ‬قبل‭ ‬دروسه؛‭ ‬يعلّمه‭ ‬الصدق‭ ‬بصدقه،‭ ‬والأمانة‭ ‬بأمانته،‭ ‬والعطاء‭ ‬بسخائه‭ ‬وبعده‭ ‬عن‭ ‬الأنانية‭.‬

ويذكر‭ ‬المسعودي‭ ‬في‭ ‬مروج‭ ‬الذهب‭ (‬3/254‭) ‬أن‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬قال‭ ‬لمؤدِّب‭ ‬ابنه‭ ‬الأمين‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أحمر،‭ ‬إن‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬قد‭ ‬دفع‭ ‬إليك‭ ‬مهجةَ‭ ‬نفسه‭ ‬وثمرةَ‭ ‬قلبه،‭ ‬فاجعل‭ ‬يدك‭ ‬عليه‭ ‬مبسوطة‭ ‬وأدبك‭ ‬مقرونًا‭ ‬بالرفق،‭ ‬وعلّمه‭ ‬القرآن‭ ‬والشعر‭ ‬وأخبار‭ ‬العرب،‭ ‬وبصّره‭ ‬بمواقع‭ ‬الكلام‭ ‬وبدئه‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬الدولة‭ ‬الأيوبية‭ ‬كان‭ ‬القائد‭ ‬العظيم‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الايوبي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬يُلزِم‭ ‬أبناءه‭ ‬حضور‭ ‬مجالس‭ ‬المحدثين‭ ‬والفقهاء،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ (‬النوادر‭ ‬السلطانية،‭ ‬36‭) ‬ليؤكد‭ ‬أن‭ ‬العلم‭ ‬والقدوة‭ ‬هما‭ ‬أساس‭ ‬صلاح‭ ‬النفس‭ ‬والمجتمع‭. ‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬المواقف‭ ‬والوصايا‭ ‬تشترك‭ ‬جميعها‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬واحدة؛‭ ‬أن‭ ‬القدوة‭ ‬ليست‭ ‬خيارًا‭ ‬تربويًا‭ ‬مُضافًا،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬الأصل‭ ‬الذي‭ ‬تُبنى‭ ‬عليه‭ ‬التربية‭ ‬كلها،‭ ‬والإهمال‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬قد‭ ‬يورث‭ ‬أجيالا‭ ‬مضطربة،‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬قدواتها‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬لا‭ ‬تليق‭.‬

شمعة‭ ‬أخيرة‭:‬

في‭ ‬زمنٍ‭ ‬اقتحمت‭ ‬فيه‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬أطفالنا‭ ‬عبر‭ ‬الأجهزة‭ ‬اللوحية‭ ‬والهواتف‭ ‬الذكية،‭ ‬يجدر‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نسأل‭ ‬أنفسنا‭:‬

من‭ ‬قدوة‭ ‬أبنائنا‭ ‬اليوم؟‭ ‬من‭ ‬يوجّه‭ ‬رؤيتهم؟‭ ‬وبمن‭ ‬يتأثرون؟‭ ‬وماذا‭ ‬يشاهدون‭ ‬وبمن‭ ‬يُعجبون؟

فالقدوة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نزرعها‭ ‬نحن،‭ ‬ستزرعها‭ ‬الشاشات،‭ ‬والمشاهير‭!! ‬وإلى‭ ‬الله‭ ‬المشتكى‭.‬

{ دكتوراه‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬وتربوي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا