تشهد مملكة البحرين مرحلة متقدمة من التطوير المالي المؤسسي، تعكس نضجًا واضحًا في إدارة السياسات الاقتصادية وقدرة المملكة على الموازنة بين متطلبات الاستدامة المالية ودعم النشاط الاقتصادي. وفي هذا الإطار، تأتي المبادرات المالية الحديثة التي جرى طرحها للنقاش بين السلطتين التنفيذية والتشريعية كجزء من رؤية شاملة تهدف إلى تعزيز كفاءة المالية العامة، وتوسيع قاعدة الإيرادات غير النفطية، وترسيخ أسس مالية أكثر مرونة وقدرة على مواكبة التحولات الاقتصادية الإقليمية والعالمية.
الجوهر الاقتصادي لهذه المبادرات لا ينطلق من منطق الجباية بقدر ما يستند إلى إعادة هيكلة ذكية لتدفقات الإيرادات والنفقات، بما يضمن عدالة التوزيع، ويحافظ على تنافسية الاقتصاد، ويعزز كفاءة استخدام الموارد. فالتركيز على أدوات مالية مدروسة، وتحديث بعض الرسوم والآليات التنظيمية، يعكس توجهًا استراتيجيًا نحو تحسين جودة الإيرادات، وليس فقط زيادتها، بما يخدم الاستقرار المالي على المدى المتوسط والطويل.
ومن الناحية الاقتصادية، تسهم هذه التوجهات في تخفيف الاعتماد على الإيرادات الدورية، وتعزيز القدرة على التخطيط المالي طويل الأجل، وهو ما ينعكس إيجابًا على مؤشرات التصنيف الائتماني، ويعزز ثقة المستثمرين، ويقوي مناعة الاقتصاد أمام الصدمات الخارجية. كما أن توجيه جزء من هذه الإجراءات نحو دعم كفاءة الإنفاق وتحسين إدارة المصروفات الحكومية يرسّخ مفهوم الاستدامة المالية بوصفه ركيزة للنمو، لا عائقًا أمامه.
أما على مستوى سوق العمل والإنتاجية، فإن إدماج برامج توظيف وتدريب مصاحبة لهذه التغييرات المالية يعكس فهمًا عميقًا للعلاقة بين الإصلاح المالي والنمو الاقتصادي الشامل. فرفع كفاءة سوق العمل، وتحفيز توظيف المواطنين، وتنظيم مساهمة العمالة الأجنبية ضمن أطر اقتصادية واضحة، يسهم في تعزيز الإنتاجية وتحقيق قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الوطني، من دون الإخلال بتوازن السوق أو تنافسيته.
ولضمان تحقيق الأثر الأمثل لهذه المبادرات، يبرز عنصر التواصل المسبق والشفافية كإحدى أهم الأدوات الداعمة لنجاح السياسات المالية. فإتاحة المعلومات بشكل مبكر، وشرح الأبعاد الاقتصادية والجدوى المتوقعة، وتحديد الجداول الزمنية بوضوح، يمنح الأفراد والشركات القدرة على الاستعداد والتكيف، ويحوّل أي تغيير مالي إلى فرصة للتخطيط الأفضل واتخاذ قرارات أكثر كفاءة. كما أن اعتماد آليات تقييم دورية وقياس الأثر يعزز الثقة ويضمن التطوير المستمر للسياسات بما يخدم المصلحة العامة.
وتؤكد التجربة البحرينية أن الإصلاحات المالية حين تُدار ضمن رؤية اقتصادية متكاملة، تصبح أداة لتمكين الاقتصاد لا عبئًا عليه. فالتدرج، والمرونة، وربط السياسات المالية بالأهداف التنموية الأوسع، عوامل تضمن أن تبقى هذه المبادرات محفزًا للنمو، وداعمًا للاستقرار، وجزءًا من مسار إصلاحي متوازن يضع الإنسان والاقتصاد في قلب المعادلة.
وفي هذا السياق، فإن ما تشهده مملكة البحرين من تطور في إدارة السياسات المالية يعكس توجيهات ورؤية حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، الذي أرسى دعائم اقتصاد يقوم على العدالة والاستدامة والانفتاح. كما يجسد الدور المحوري لسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، في قيادة منظومة العمل الحكومي بكفاءة عالية، وربط الإصلاح المالي بأهداف النمو الاقتصادي، وتحقيق التوازن بين متطلبات الحاضر وطموحات المستقبل. وبفضل هذه القيادة الحكيمة، تواصل البحرين ترسيخ نموذج اقتصادي متزن، قادر على تحويل التحديات إلى فرص، وبناء مستقبل مالي أكثر استدامة للأجيال القادمة.
ماجستير تنفيذي بالإدارة من المملكة المتحدة (EMBA)
عضو بمعهد المهندسين والتكنولوجيا البريطانية العالمية ((MIET

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك