تتفق جميع الأنفس السوية على أن الفراق مؤلم، وأنه لا مناص للتملص من هذا الشعور الموجع، لاسيما إذا ما كان أبديا لا لقاء محتمل فيه، ولا وجود لإمكانية حديث ولو مختصر قد يجمع ما بين أطرافه، وإذا ما أشرنا إليه بلفظ أقسى قلنا (الموت) أو الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، وهو الأمر الذي بطبيعة الحال يعجز عنده أي تدخل بشري.
وفي محاولة ليست بالضئيلة، ضمن محاولات المخترعين الجزيلة في حقول التكنولوجيا؛ لإيجاد حلول مبتكرة للمشكلات والتحديات التي تواجه البشرية، أو للمنغصات التي تؤثر على حياتهم بشكل عام، تبنى العديد من المطورين مجموعة من الأفكار لابتكار وسيلة تعيد التواصل بين الأحياء والأموات!
فهل يمكن للتكنولوجيا إحياء الموتى!؟ لا شك انه شيء غير ممكن، ولا يمكن لأي ابتكار مهما كان فائق الدهشة وخارق العادة تحقيقه بشكل فعلي؛ ولا يمكن له أن يتم إلا تحت ضوء فرضية واحدة، وذلك إذا ما كان هذا التواصل يتم على سبيل المحاكاة وبشكل افتراضي.
وبناءً على ذلك، طور عدد من الشركات الرقمية عددًا من التطبيقات باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، منها الذي يعمل على إنتاج نسخ رقمية تفاعلية للمتوفين تستخدم صورهم، وأصواتهم، وطرق تفاعلهم الإنسانية، ومنها الذي يأتي على شكل محادثات نصية توليديّة تعيد إحياء شخصية المتوفى رقميًا، وذلك بهدف البقاء على التواصل القائم بين المتوفى وأحبائه.
والجدير ذكره أن هذا الابتكار لم يمر مرور الكرام، بل تحول الى اتجاه عالمي جديد يُعرف بمسمى «الرحيل الرقمي» إبان ما أثاره من جدلٍ واسع في مختلف الأوساط، ما أجج الآراء حوله، وحول طرق استخدامه، والآثار المترتبة على هذا الاستخدام، ما بين مؤيد ومعارض.
إذ يرى الباحثون في مجال التكنولوجيا، أن هذه الظاهرة كانت بمثابة سبيل لتحول الذكاء الاصطناعي من أداة إنتاجية بحتة؛ إلى وسيلة لملامسة المشاعر البشرية العميقة، فيما يرى المشرع القانوني، أن هذا الابتكار قد يحمل مخاطر قانونية مهمة؛ وخاصة في ظل غياب التشريعات التي تحمي الهوية الرقمية من التعرض للابتزاز والاستغلال الإلكتروني.
بينما يرى الأخصائيون النفسيون، أن العيش تحت وطأة الانغماس في هذا العالم الافتراضي قد يؤول إلى عدم القدرة على التكيف مع حقيقة الموت، فيما أشارت فئة أخرى إلى أنها قد تثير لدى ذوي المتوفى «النوستالجيا» أو الحنين الإيجابي ما قد يخلق لحظات من البهجة والسرور، إلا أنها في المقابل أيضًا قد تخلق شعورا معاكسا، يؤجج الألم ويزيد من مشاعر الحزن والعزلة؛ ما قد يفاقم أمراضا جسدية ونفسية جدية، كالاكتئاب، والوسواس، ومتلازمة القلب المكسور وغيرها، ورأى آخرون أن ذلك الابتكار قد يكون بمثابة بلسم يخفف من أوجاع الفقد عند أهل المتوفى.
ومن ناحية شرعية، أبدى بعض المفتين مخاوفهم من أن يخلق هذا الابتكار مشاكل اجتماعية، تتعلق بالحقوق والواجبات مثل الميراث والالتزامات المالية، بينما عارض طيف آخر الفكرة تمامًا محرمًا إياها، فيما رأى طيف آخر أنه لا مانع من الفكرة؛ طالما كانت مبنية على أسس واضحة وصريحة لا تخالف الشرع والقانون، بحيث يتم معاملة هذه المحاكاة معاملة تسجيلات الفيديو وما شابه، إلا أن كافة الأطياف اتفقت على فكرة أن الموت نهاية حتمية لا يمكن لأي اختراع تكنولوجي تجاوزها، وأن الشرع لا يعتد في تطبيق ضوابطه بأي محاكاة للموتى.
الأكيد أن هذا الابتكار سيظل يشكل تباينا بالآراء؛ لما قد يخلفه من تحديات أخلاقية ودينية واجتماعية، ولربما لا يمكن مصادرة الحقوق الفردية في الرغبة باستخدامه من عدمها، ولكن من الضرورة بمكان أن يتم وضع ضوابط صارمة وواضحة لترشيد استخدامه، بحيث لا يتم استغلاله كأداة للتربح على حساب العاطفة والمشاعر بالمقام الأول، وألا يتعدى فكرة المحاكاة الحقيقة بشكل يخلق لدى المستخدم واقعا زائفا، ينجر الى فكرة التجسيد أو التمثيل الشخصي، أو تبني جوهر الشخصية وافتراض حيثياتها، كما يجب الالتفات إلى أن هذه المحاكاة يجب ألا تكون مشاعة للاستخدام العام؛ إنما مقصورة بأقارب المتوفى من الدرجة الأولى، وذلك للموازنة بين التمتع بما تقدمه التكنولوجيا من إمكانات يمكن الاستفادة منها للصالح العام، مع مراعاة المحافظة على كرامة الإنسان من أي هدر، وتوخي الحذر من أي سلبيات محتملة قد تنجم عن استخدامها في ذات الوقت.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك