كما لاحظنا في الصحف المحلية خلال الأيام الماضية، فإن بعض وكالات التصنيف الائتماني العالمية تتعامل، منذ عقود، مع ما يسمى «السقف السيادي» باعتباره قاعدة شبه مقدّسة لا يجوز تجاوزها. فوفق هذا المنطق، لا يحق لأي بنك أو مؤسسة مالية داخل دولة معينة أن تحصل على تصنيف أعلى من التصنيف الائتماني السيادي لتلك الدولة، حتى لو كانت المؤسسة تتمتع بميزانية أقوى، وإدارة مخاطر أكثر تطوراً، وملاءة مالية متينة. هذا المنهج ظل سائداً باعتباره «المنطق الحاكم» لتقييم المخاطر، لكنه اليوم لم يعد ينسجم مع واقع الأسواق المالية الحديثة، ولم يعد كافياً لتفسير الفروقات الهائلة بين المؤسسات المالية داخل الدولة الواحدة.
ونحن نود إبداء وجهة نظرنا في هذا الموضوع من زاويتين. الزاوية الأولى أنه من ينظر إلى الأسواق الخليجية اليوم سيجد أن عدداً كبيراً من البنوك والمؤسسات المالية لم يعد مرتبطاً عضوياً باقتصاد الدولة الأم كما كان قبل عشرين أو ثلاثين عاماً. بعض هذه المؤسسات يعمل بنموذج عابر للحدود، ويعتمد على أصول وعمليات وتمويل خارجي يشكل الجزء الأكبر من نشاطه مثل بنوك الجملة الموجودة لدينا في البحرين، حيث نسبة الأصول المحلية لا تتجاوز 10 إلى 20% من مجموع أصولها والبعض الآخر اتخذ كافة التدابير الاحتياطية للوقاية من التقلبات الاقتصادية المحلية ويتمتع بمصادر دخل منوعة. مثل هذه المؤسسات لا تعكس مخاطرها المخاطر السيادية للدولة التي يوجد فيها مقرها القانوني. ومع ذلك، تصر وكالات التصنيف على إخضاعها لسقف لا علاقة له بواقعها الفعلي، بحجة أن الدولة قد تفرض قيودا على التحويلات أو قد تتعرض لأزمة مالية تؤثر في القطاع.
الزاوية الثانية هي إننا لم نشهد طوال السنوات الخمسين الماضية ومنذ بدأت الحكومات الخليجية الاقتراض من الأسواق الدولية لم نشهد ولو حادثة واحدة تعثرت إحدى هذه الحكومات في سداد مستحقاتها والتزاماتها. وهذا السجل يجب أن يشفع لهذه الحكومات عند وضع التصنيفات الائتمانية لها.
ويبقى السؤال الجوهري هنا: لماذا نفترض أن المخاطر التي تواجه الدولة يجب أن تنتقل تلقائياً وبالدرجة نفسها إلى المؤسسات العاملة فيها؟ أليست هناك بنوك تمتلك ملاءة رأس مالية ذات ملاءة مالية كبيرة قد تكون أقوى من الحكومات نفسها؟ أليست هناك مؤسسات تعتمد على إيرادات من عدة مناطق بالدولار أو اليورو، وهذا ينطبق على بعض البنوك المحلية في البحرين وتتمتع بإدارة مخاطر متينة؟
ولقد شهدنا على مدار العقود الثلاثة الماضية أزمات عالمية مثل أزمة العام 2008 وتقلبات في أسعار النفط كما حدث في عام 2014 وأثناء أزمة كورونا وقد تأثرت مالية الدولة بها، لكن البنوك أثبتت صلابتها وقوتها ومناعتها.
الأمر الأكثر إثارة للجدل هو أن وكالات التصنيف لا تزال تبالغ في تقدير سيناريوهات نادرة تاريخيا، مثل فرض قيود على تحويل العملة أو أقفال أسواق النقد. هذه السيناريوهات استخدمت سنوات طويلة لتبرير السقف السيادي، لكنها في الواقع لا تعبر عن واقع كثير من الدول التي ترتبط باقتصادات عالمية وتخضع لأنظمة مالية تجعل من مثل هذه القرارات أمراً مكلفاً وغير واقعي. وفي المقابل، تتجاهل هذه الوكالات حقيقة أن البنوك اليوم تعمل تحت منظومات رقابية صارمة، مع متطلبات رسملة وسيولة تفوق بكثير ما تفرضه الأسواق على الحكومات.
إن مراجعة مفهوم السقف السيادي لم تعد رفاهية فكرية، بل ضرورة تفرضها ديناميكيات الأسواق الحديثة. فالتصنيفات التي لا تعكس الواقع الموضوعي للمؤسسات المالية تفقد تدريجياً قيمتها وصدقيتها، وتحملها أعباء مالية كبيرة خصوصا عند لجوئها إلى الاقتراض من الأسواق الدولية. ولعل الوقت قد حان لتنتقل وكالات التصنيف من منطق «التعميم» إلى منطق «التمييز»، وأن تقيّم المؤسسات بما تستحق، وأن تأخذ بالاعتبار التاريخ الائتماني للبلد الذي توجد فيه.
رئيس اتحاد المصارف العربية سابقا

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك