الحربُ الدائرةُ في السودان منذُ أبريل 2023، نزاعٌ معقدٌ ومتعددُ الأبعاد، فهو صراعٌ على السلطةِ بين فصيلين عسكريين، وحربٌ أهليَّة، وصراعٌ على المواردِ والهويَّة، وكارثةٌ إنسانيَّة... صراعٌ ذو أبعادٍ داخليَّةٍ وإقليميَّة، ولا يمكنُ فصلُ أسبابِه وأهدافِه عن مشروعِ الشرقِ الأوسطِ الجديد.
التصنيفُ الأكثرُ شيوعًا للحربِ في السودان هو أنها حربٌ أهليَّة، أي نزاعٍ مسلَّحٍ داخلي، غير دوليِّ في مظاهره، نشأ كـصراعٍ على السلطةِ بين فصيلين عسكريين، ثم تحوَّل إلى نزاعٍ معقد تداخلت فيه العواملُ الجيوسياسيَّة والاقتصاديَّة والإثنية والإقليميَّة، والدوليَّة، مما أدى إلى كارثةٍ إنسانيَّةٍ طاحنة.

حرب بين طرفين قويين لديهما مواردُ داخليَّة وخارجيَّة، مما يجعل الحسمَ العسكري الكامل مُكلفًا جدًا، بل قد يحتاجُ إلى وقت طويل؛ وإن السيناريو الأكثر واقعيَّة لهذه الحرب هو احتمالُ استمرارها في حالة الجمودِ والاستنزاف، مما سيزيدُ من كارثةِ الشعبِ السوداني ويجعل إعادةَ بناء الدولة لاحقًا مهمةً شبه مستحيلة... وأي حلٍّ حقيقي قد يحتاجُ إلى تغييرٍ جذري في موازين القوى من جهة، أو ولادة واقع جديد يتماهى ما بين ولادةِ نظام سياسيٍّ شامل يحلُّ محلَ منطق السلاح، أو الدخول في معترك الانفصال، والتقسيم الثاني للسودان (بعد فصل الجنوب) لإنقاذ الشعب من كارثةٍ إنسانيَّة ومأساويَّة.
ولتنشيطِ الذاكرةِ العربية نعيدُ هنا التعريفَ بالمشروعِ الشرق أوسطي، الذي بدأت إدارةُ المحافظين الجدد تنفذه منذ تسعينياتِ القرن الماضي، وهو «إعادةُ صياغةِ منطقة الشرق الأوسط جيوسياسيا، لإنصافِ الطوائف والأثنيات التي تعيشُ في هذه المنطقة»، وهذا التعريفُ جاء على لسان وزير خارجية إدارة الرئيس بوش الأب، السيد كولن باول، في خطابه الشهير أمام الأمم المتحدة قبل أقل من 48 ساعة من غزو جيوشه للعراق في مارس 2003؛ ويعدُّ المشهدُ السوداني الدامي، التي يعيشُ شعبُ السودان تفاصيلَه المأساويَّة اليوم، فصلاً جديداً في ذلك المشروعِ الأمريكيِّ، وتفاصيله التي يتعمدُ الإعلامُ العالميُّ التعتيمَ عليه بهدف خلط الأوراق وتغييب الحقيقة وتضليل الرأي العام.
الانفصال الأول في السودان...
وصناعة الدويلات «الفاشلة»
الحربُ الجاريةُ في السودان هي الثانيةُ بعد حرب الجنوب (1983- 2005)، التي أدت إلى فصلِ النصفِ الجنوبي من السودان بما يضمُّ من ثرواتٍ نفطيَّةٍ سودانيَّة غنية، ومساحاتٍ شاسعة من المستنقعات؛ وإعلان «جمهورية جنوب السودان» عام 2011 (ويدعى عام الاستقلال)، في شمال شرق إفريقيا، وعاصمتها جوبا.
بحسب مصادر بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (UNMISS)، ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، وبرنامج الأغذية العالمي (WFP)، ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، التي توفِّر على مواقعِها الرسميَّة وتقاريرِها معلوماتٍ مباشرة عن الوضع الإنساني والأمني، فإن «جمهورية جنوب السودان»، تواجه تحدياتٍ جسيمة، منها غيابُ مؤسسات الدولة، أي عدم وجود بنية تحتية أو مؤسسات حكم راسخة، إضافة إلى ما حملت معها من تركة حرب طويلة تمثلت في مجتمع ممزق واقتصاد معتمد على المساعدات، أدت سريعاً إلى خلافاتٍ داخلية، وصراعٍ على السلطة والثروة (خاصة عائدات النفط)، وانفجار صراع قبلي مسلح في ديسمبر 2013، تحول سريعاً إلى حرب أهليَّةٍ طائفية شملت مجازرَ وتطهيرا عرقيا، أدت إلى خسائرَ بشريَّة كارثية، وأزمةٍ إنسانيَّة، ونزوح الملايين، ومجاعة وانهيار الاقتصاد.
بحسب تقارير الأمم المتحدة لا تزال دولةُ جنوب السودان، التي تتركزُ فيها 85% من احتياطي نفط السودان إضافة إلى المعادنِ الأخرى، تعيشُ واحدةً من أسوأ الأزمات الإنسانيَّة في العالم، حيث أكثر من 75% من السكان بحاجة إلى المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة؛ دولة فاشلة فعلياً، حيث السلطة الحقيقية ليست في يد الحكومة المركزية بل في يد زعماء عسكريين وقبليين ومليشيات متنافسة؛ واقتصاد منهار، حيث يعتمد بشكل شبه كلي على إيرادات النفط التي يتم تحويلُ جزء كبير منها لتمويل الصراعات وشبكات الفساد؛ مع تدهور بيئي واجتماعي، يتمثل في انتشار الجريمة المنظمة، تجنيد الأطفال، والعنف الجنسي كأدوات حرب.
دولةُ جنوب السودان التي ولدت من رحمِ حربٍ أهليَّة بقيادة زعماء قبليين وانفصاليين (ودعم دولي)، سرعان ما التهمتها آلةُ الصراع الداخلي والفساد، وتحول الحلم بالاستقلال إلى كابوسٍ من العنف الطائفي والمجاعة والنزوح، حيث فشلت النخبةُ الحاكمة تمامًا في بناء دولة، وفضلت التناحرَ على تقسيم «كعكة» الدولة الفاشلة، لتحوز الجمهورية الجديدة منذ عام 2016 على أعلى درجة في مؤشر الدول الهشة (الفاشلة سابقا)؛ إذ رغم ثراء مواردها الطبيعية تعد زراعة «الكفاف» (بحسب مفهوم تقارير الفاو ومنظمة الأغذية العالمية، هو نظام إنتاج زراعي تقليدي منخفض الإنتاجية لتوفير غذاء الأسرة، يسود بين الأسر الريفية الفقيرة في البلدان النامية، ومتبع في الدول الإفريقية المديونة لصندوق النقد الدولي) هي مصدر الدخل الرئيسي لأغلب السكان الذين يعيشون في فقر مدقع، مما دعا الأمم المتحدة إلى إضافة الجمهورية الجديدة إلى قائمة «البلدان الأقل نماءً»، ووصف الوضع بأنه مأساة إنسانيَّة مستمرة مع احتمالات ضعيفة جدًا للاستقرار الحقيقي في المدى المنظور.
ثروة النفط
ومشروع الانفصال
بإيجازٍ شديد يمكنُ التعرفُ على أسباب أي حرب في أي بقعة من وطننا العربي من خلال تقدير حجم ونوع «الثروات الطبيعية» التي تخزّنها تلك البقعة من الأرض، حيث المناطق العربية الأكثر ثراءً بمواردها الطبيعية هي الأكثر استهدافاً بالصراعات الأكثر دموية منذ نهاية الحرب الباردة، وبدء التحولات الدولية الجديدة... أما الثروات فتتفاوت ما بين النفط والذهب والمعادن والحيوية الجيوسياسية للأرض المتنازع عليها. وبجردة بسيطة نكتشف أن أهمية السودان، كما العراق وليبيا وغزة، تكمن في ثروتها النفطية أولاً ثم ثروة المعادن، ثم تفاصيل حدودها الجيوسياسية، علماً أن السودان تحتل المرتبة الثانية إفريقياً والتاسعة عالمياً في قائمة منتجي الذهب.
يتجاهلُ الإعلامُ أخبارَ السودان الجديد، إلى حد التعتيم الشامل حول ثرواته وموارده الطبيعية، والشركات المهيمنة عليها، كما تتجاهل المنظمات الحقوقية الدولية قضايا حقوق الإنسان السوداني عموماً، بما فيه الجنوبي، بعد أن كانت تلك المنظماتُ ووسائلُ الإعلام مقيمةً في الجنوب قبل «استقلالها» المزعوم لصناعة البروبغندا وليس لمد يد العون.
ثروات السودان
بحسب التقارير المفصلة الصادرة عن البنك الدولي (World Bank) حول اقتصاد النفط في السودان وجنوب السودان، حقق السودان اكتشافات نفطية تجارية منذ ثمانينيات القرن الماضي، واستحوذت الشركات الأمريكية والفرنسية والبريطانية والكندية، وشركات تشغيل مشتركة منتجة رئيسية من ماليزيا والصين والهند بجانب الشركات الإفريقية والمحلية، على حصص في تطوير حقوله في الجنوب وحقول تكريره في بورتسودان على ساحل البحر الأحمر (الشمال) قبل الانقسام في الجنوب... ومازالت العمليات النفطية تدار بين الجنوب والشمال، رغم كل ما يعانيه قطاع النفط من الحروب والفساد والقيود والعقوبات التجارية الأمريكية على الصادرات التكنولوجية لشركات النفط والغاز، والذي أدى إلى زيادة تقييد التجارة وتآكل الثقة في صفوف الشركات؛ وأدى إلى عدم تمكين الشركات المحلية السودانية من تنمية قطاعهم النفطي السوداني.
بالمحصلة يمكن القولُ إنه رغم وجود عوامل رئيسية للحرب في الجنوب، مثل التهميش التاريخي والهوية الذي مارسه الحكمُ المركزي في الخرطوم لعقود طويلة، وأدى إلى إهمال الجنوب ثقافيًّا واقتصاديًّا وتعليميًّا؛ إضافة إلى الاختلاف الديني والثقافي بين شمال ذي أغلبية مسلمة وثقافة عربية، وجنوب ذي أغلبية مسيحية وديانات تقليدية وثقافات إفريقية؛ ورغم الإرث الاستعماري الإنجليزي الذي رسم الحدود بين الشمال والجنوب في العهد الاستعماري دون مراعاة للتركيبة الثقافية والدينية، إلا أن النفط كان العامل الحاسم الذي حوَّل الصراع من نزاع على الحقوق إلى نزاع على ثروة هائلة، وجعل التسوية السياسية أصعب وزاد من إصرار الطرفين، وهو الذي جعل الانفصالَ خياراً اقتصادياً ممكناً، وهو الذي جعل الدعم الدولي له أكثر فعالية.. واليوم تدار حرب شبيهة في غرب السودان، تتجه نحو ذات النهاية المحتومة.
للغرب اليد الطولى
فـي حروب المنطقة
انطلاقاً من هذا التحليل الموجز والدقيق الذي يعكسُ قراءة واقعية لتاريخ محاولات الهيمنة الغربية الاستعمارية على موارد العالم، نحاول قراءة واقع ما خلف المشهد الإنساني الكارثي الراهن في السودان؛ واقع النفط واليد الطولى المتحكمة التي لا تتخلى عن دور حاسم في أي صراع على ثروات بهذا الحجم، وهي قراءة مدعومة بسجل تاريخي طويل.
ولاستيفاء بعض من شروط هذه القراءة، لا بد من وضع إيجاز لتفاصيل طويلة ودقيقة، حول لماذا يبقى الغرب دائماً لاعباً رئيسياً في الصراعات الجيوسياسية رغم بروز لاعبين إقليميين (كما هو الحال في المشهد السوداني)؟ في هذا يجب التعريف بقوة اللعبة التي يمارسها الغرب... سواء باللعب على المكشوف، حيث يكسب الغرب النفوذ التاريخي والمصالح الاقتصادية المباشرة ومواجهة النفوذ المنافس؛ أو باللعبة الخفية التي يلعبها الغرب عبر وكلاء محليين وإقليميين، لها معها علاقات استراتيجية واقتصادية وعسكرية عميقة، يعطي الغرب نفوذاً غير مباشر ولكنه فعَّال... حيث في نهاية المطاف تتحكم اليد الطولى في خيوط اللعبة، من البداية وحتى النهاية، سواء بوعي أو بجهل اللاعبين الوكلاء لقواعد اللعبة الحقيقية.
بإيجاز شديد، تظهر قوة الغرب في أثناء الصراع بمعايير القوة الصلبة والناعمة، وتظهر في مراحل متقدمة بمعايير أكثر أهمية، حيث هناك أهمية بالغة لدور الغرب في النظام المالي الدولي لتسهيل اندماج الكيانات المنفصلة في الاقتصاد العالمي واستثمار مواردها؛ إضافة إلى أهمية دور الغرب في الدبلوماسية الدولية للاعتراف الدولي بعاصمة جديدة، ومقعد في الأمم المتحدة، وغيرها من عمليات يحتكر الغرب فيها حق النقض (الفيتو) بشكل مباشر وغير مباشر، مما يؤكد أن أي دعم إقليمي في إدارة صراعات وحروب أطراف متنازعة، في أي إقليم كان، لن يكون ذا جدوى من دون الاعتراف والدعم الدولي (الغربي)... ومن هذا المفصل الأكثر حيوية يمكن قراءة دور الغرب في الصراعات القائمة في المنطقة منذ انتهاء الحرب الباردة.
عامل «الهندسة
الجيوسياسية» فـي السودان
إن مصطلحَ «الهندسة الجيوسياسية»، كما ذكره زبيغنيو بريجينسكي في كتابه الشهير «رقعة الشطرنج الكبرى: التفوق الأمريكي ومتطلباته الجيوستراتيجية» يعني عملية إعادة تشكيل المشهد السياسي بشكل متعمد، بما فيها الحدود والإقليم، والتحالفات السياسية والاقتصادية، والعلاقات الدبلوماسية والهياكل الحاكمة داخل الدول... وتعني أيضاً الممارسة الواعية والمنهجية لدولة ما، أو تحالفا دوليا، لإعادة تشكيل الخريطة السياسية والتحالفات والهياكل في منطقة معينة من العالم، لخدمة مصالحها الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية طويلة المدى.
وعبر هذا المصطلح يمكننا فهم بعض التحليلات التي ترى أن قوى إقليمية أو دولية قد تفضل وجود كيانات صغيرة أضعف يسهل التحكم فيها ووراثة نفوذها ومواردها، بدلاً من دولة كبيرة يصعب إدارتها وقد تكون منافسًا محتملاً. وكما ينطبق هذا المفهوم على كل ما يجري في المنطقة العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، فإنه ينطبق أيضاً اليوم على الحرب في السودان، وفي دارفور الغنية بالذهب والموارد الزراعية، كما ينطبق على ساحل البحر الأحمر الاستراتيجي في السودان، مما جعل السودان «كعكة» قد يفضل البعض تقطيعها.
المرحلة الثانية من
تقسيم السودان
أن فشل إقامة نظام سياسي شامل وعادل هو القاطرة التي تقود قطار السودان نحو منحدر التقسيم؛ وهذا السيناريو الأكثر واقعية كمحصلة، ولكن قد لا يكون الهدف من هذه الحرب انفصالًا منظمًا، بل إطالة أمد الصراع حتى ينهار الكيان تمامًا وتظهر كيانات طفيلية بشكل طبيعي (كما حدث في الصومال وليبيا إلى حد كبير)؛ في هذا السيناريو، لا حاجة لـ«إعلان انفصال»، بل يكفي الاستمرار في إمداد الأطراف المتحاربة بالسلاح والتمويل لضمان استمرار عملية الانهيار.
إذًا المشهد في السودان أكبر من مجرد نزاعٍ داخلي، أو صراعٍ إقليمي؛ وإن تحميلَ الدولِ الإقليميَّة وحدها مسؤوليةَ المشهد فيه تبسيطٌ شديد... القوى الغربيَّة، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، تتابعُ الموقفَ من كثب وعلى أرض المعركة، وتدعم في الكواليس، وتلعب بالخيوط وتتحين الفرص.
الحرب في دارفور هي حربٌ على الثروات، وعلى موقع ذي أهمية جيوسياسية؛ وفي حروب كهذه، لم ولن يتخلف الغرب يوماً عن الحضور... قد يكون حضوره اليوم أكثر دهاءً وغير مباشر (عبر شركات أمنية خاصة، وتمويل دراسات، ودعم منظمات حقوقية، وضغوط دبلوماسية ومالية) لكنه حاضر بقوة، وبإحكام... حيث المرحلة الثانية من تقسيم السودان هو الهدفُ المرسوم في كواليس اللعبة.
الدرسُ المستفادُ هو أن أي حل أو تسوية في دارفور (أو السودان ككل) سيكون مصمماً في العواصم الغربية بقدر ما هو مصمم في الخرطوم أو أي عاصمة عربية أخرى، وإن مصيرَ السودان لن يُقرر فقط محليًّا أو إقليميًّا، بل أيضاً في مكاتب صناع القرار في واشنطن، حيث تُرسم خرائطُ تدفق الثروات والهيمنة الإستراتيجية منذ قرون...
sr@sameerarajab.net

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك