قراءة لأبعاد الرؤية الملكية للعمل الوطني حاضرا ومستقبلا
توجيهات الملك يجب أن تكون برنامج عمل لكل المؤسسات والقوى
الأجداد أرسوا منظومة القيم والمبادئ الحاكمة للدولة والمجتمع
حين يتحدث جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ويوجه خطابا إلى الشعب، فلا يتوقف جلالته عند حدث أو تطور معين أو عند المناسبة في حد ذاتها وحسب، وإنما يحرص جلالته على أن يحدد أولويات العمل الوطني في المرحلة، والمهام الوطنية الكبرى، ويعطي التوجيهات الملكية من أجل تحقيق هذه المهام.
الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك في افتتاح دور الانعقاد الرابع من الفصل التشريعي السادس لمجلسي الشورى والنواب خطاب استثنائي يجب التوقف مطولا عنده بكثير من التأمل والتفكير.
الخطاب يقدم رؤية ملكية للعمل الوطني في المرحلة الحالية وفي المستقبل.
جلالة الملك تطرق في الخطاب إلى ثلاث قضايا كبرى:
الأولى: المبادئ المؤسسة الحاكمة للحكم وللعمل الوطني التي أرساها الأجداد.
والثانية: مصادر قوة البحرين
والثالثة: المهام الكبرى المطروحة للمستقبل.
هذه القضايا وما طرحه جلالة الملك بخصوصها تستحق قراءة دقيقة فاحصة.
***
قيم ومبادئ حاكمة
جلالة الملك تطرق إلى قيم ومبادئ نظام الحكم والعمل الوطني في البحرين وحددها في أنها مبنية على الشريعة الإسلامية الغراء، والشورى، والعدل والإحسان، والتضحية في سبيل الوطن، ومراعاة العادات والتقاليد الأصيلة.
هذه هي المبادئ والقيم المؤسسة. وحرص جلالة الملك على التذكير بأن هذه المبادئ والقيم ليست جديدة ولا حديثة في تاريخ البحرين، إذ إن جذورها تعود إلى «عهد أجدادنا من قادة البحرين» الذين أرسوها ورسخوها. وقادة مملكة البحرين لم يرسخوها وحسب، بل كانت بالنسبة إليهم وصايا يوصون بها «أولياء عهودهم طبقة بعد طبقة».
هذه المبادئ والقيم هي بالضبط القواعد التي بُني عليها ميثاق العمل الوطني الذي كان علامة تاريخية فارقة في بناء البحرين الحديثة. وحرص جلالة الملك على الإشارة خصوصا إلى ما ترتب على الميثاق من تعديلات دستورية، كان أهمها نظام المجلسين، وتحقيق مبدأ الفصل بين السلطات، وعودة الحقوق السياسية للمرأة، واستكمال بناء المؤسسات الدستورية.
جلالة الملك يقول هنا إننا حين نبني ونصنع التقدم ونستعد للمستقبل، فإننا لا ننطلق من فراغ. نحن ننطلق من أساس متين يتمثل في المبادئ والقيم التي أرساها الأجداد والتي أصبحت ثوابت مترسخة في العمل الوطني.
جلالة الملك عبَّر عن هذا المعنى بعبارة جميلة معبرة حين قال إن «هذه المبادئ الأصيلة تظل منهاجا لحياتنا، وجزءا لا يتجزأ من ثقافتنا الحامية للسيادة».
***
مصادر قوتنا
لا يمكن لأي بلد أن يتقدم ويحقق ما يريد من دون أن يعرف ما مصادر قوته في مختلف المجالات التي يستند إليها ويراهن عليها.
ومن أهم ما تطرق إليه جلالة الملك في خطابه تحديد مصادر قوة البحرين.
جلالته حدد خمسة مصادر كبرى للقوة هي على النحو التالي:
المصدر الأول: الرؤية التي تمتلكها القيادة للحكم وللإعداد للمستقبل.
هذه الرؤية التي تستند كما قال جلالته إلى منظومة من القيم والمبادئ العامة المترسخة منذ زمن طويل. كما تتجسد في الوثائق الحاكمة للعمل الوطني وقي مقمتها بالطبع الدستور وميثاق العمل الوطني. وتتجسد أيضا في ما تطرحه الحكومة من أفكار واستراتيجيات للعمل الوطني حاضرا ومستقبلا.
وبالطبع، فإن رؤية جلالة الملك نفسه وما يطرحه جلالته في مثل هذا الخطاب وغيره من الخطابات من أولويات للعمل الوطني ومن توجيهات للحاضر والمستقبل في مقدمة ما يحدد الرؤية الوطنية في البحرين.
رؤية القيادة للعمل الوطني على هذا النحو تمثِّل كما قال جلالة الملك في الخطاب نهجا ثابتا للقيادة.
هذا من أكبر عوامل القوة لسبب بسيط. إن الرؤية الواضحة للقيادة هي التي تحدد أولويات العمل الوطني، وأبعاده ومساراته، وهي التي تحكم أي استراتيجيات أو خطط للمستقبل.
المصدر الثاني: الإنسان البحريني
جلالة الملك اعتبر في خطابه أن الإنسان البحريني هو أكبر مصادر قوتها. وقال جلالته بهذا الصدد: «الإنسان البحريني هو ثروة بلادنا الحقيقية ووجهها المتحضر والمشرق بالعطاء أينما حضر. فبإسهاماته المتواصلة والجادة، استطاع أن يجعل من البحرين وجهة للخير والسلام، ومركزًا للإبداع والريادة، ليبقى صيته رمزًا للأخلاق الكريمة والقيم النبيلة» وفي إطار الحديث عن الإنسان البحريني كأكبر ثروة ومصدر قوة للبحرين حرص جلالة الملك على الحديث خصوصا عن الكوادر البحرينية الشابة القادرة بقدراتها وعطائها على مواكبة العصر والنهوض بالبلاد وقيادتها نحو مستقبل أفضل. قال جلالته: «هؤلاء الشباب، بإنجازاتهم العالمية، يؤكدون جاهزيتهم للإسهام في قيادة الحاضر والمستقبل، ويستحقون فرص المشاركة في العمل والتدريب وتحمل المسؤولية، لنحافظ على تواصل الأجيال في حمل رسالة الوطن النبيلة».
المصدر الثالث: القوة الدفاعية والأمنية
لطالما تحدث جلالة الملك عن قوة البحرين الدفاعية والأمنية باعتبارها القوة الضامنة للأمن والاستقرار والحامية للمكتسبات الوطنية، وبالتالي فهي أكبر مصادر قوة البحرين.
وفي الخطاب تطرق جلالته إلى دور القوة الدفاعية والأمنية وقال: «لأن التنمية الحقيقية لا تستقيم إلا بإرساء الأمن الشامل كضمانة لاستمرار الحياة والعمل والإنتاج، فإننا نعتبر قواتنا الدفاعية والأمنية ركيزة أساسية لتنميتنا، ونحرص على أن تتسلح بأحدث الإمكانيات وأعلى المهارات لتقوم بمهامها في حماية مكتسباتنا وسيادتنا الوطنية».
المصدر الرابع: المنجزات الوطنية
حرص جلالة الملك في الخطاب على أن يعبر عن الفخر والاعتزاز بمنجزات البحرين الوطنية على اعتبار أن هذه المنجزات هي من أكبر مصادر القوة.
في هذا السياق حرص جلالته على الإشادة بإنجازات الحكومة بقيادة سمو الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس الوزراء، وأيضا الدور الذي يقوم به سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة وخصوصا في مجالات رعاية الشباب.
كما حرص جلالته على الإشادة بالتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وما يحققه من إنجازات.
بالطبع الإنجازات التي تحققها البحرين في مجالات التنمية وفي مختلف المجالات مصدر كبير للقوة لأنها أولا تعزز مكانة البحرين في مجالات التنمية والاقتصاد والاستثمار، كما أنها تعزز الثقة في القدرة على الإنجاز وفي الإعداد للمستقبل.
المصدر الخامس: دور البحرين الإنساني الحضاري
يعدُّ دور البحرين العالمي الحضاري الإنساني من أكبر مصادر القوة.
البحرين بقيادة جلالة الملك تلعب دورا عالميا رياديا متحضرا إنسانيا.
تتلخص أبعاد هذا الدور أولا في الدعوة إلى السلام والأمن والاستقرار في العالم كشرط أساسي للتنمية ولصالح الشعوب. وللبحرين مبادرات كثيرة في هذا السياق وخصوصا فيما يتعلق بالأمن والاستقرار والسلام في المنطقة.
ولجلالة الملك والبحرين عموما مبادرات كبرى معروفة إنسانية في مختلف المجالات.
وتلعب البحرين دورا قياديا في جهود الحوار بين الحضارات والأديان.
وجلالة الملك في خطابه تحدث عن هذا الجانب في سياسة البحرين العالمية الإنسانية، وركز خصوصا على جهود إحلال السلام في المنطقة وبالأخص الجهود الأخيرة لوقف حرب غزة
هذا الدور العالمي للبحرين هو رصيد كبير يعزز سمعتها العالمية وثقة العالم فيها وفي قياداتها. وهذا مصدر كبير للقوة ينعكس إيجابيا على جهود التنمية والتقدم.
***
توجيهات للمستقبل
من أهم القضايا على الإطلاق التي تطرق إليها جلالة الملك في خطابه حديث جلالته عن مستقبل البحرين والإعداد له.
قبل كل شيء، قال جلالة الملك في خطابه عبارة تعدُّ درسا بليغا في السياسة والتفكير السياسي الحكيم. قال جلالته: «ان التقدم لا يتحقق إلا بقراءة واعية لمعطيات المستقبل ومواجهة تحولاته، والاستفادة من فرصه».
هذا التعبير لجلالة الملك يعني في التفاصيل أمورا في غاية الأهمية. يعني أولا: إننا يجب أن ندرس بعناية شديدة توقعات المستقبل واحتمالاته المختلفة في كل المجالات. يجب أن نلاحظ أن هذا جانب له أهمية حاسمة خصوصا مع حالة عدم اليقين التي تسود المنطقة والعالم والتطورات المتسارعة. ويعني أننا يجب بناء على دراسة هذه الاحتمالات أن نخطط للتعامل مع كل احتمال، وأن ندرس كيف نستفيد من كل الفرص المتاحة، ونستعد للتعامل مع أي تطورات متوقعة قد تؤثر سلبا فينا.
وعلى ضوء هذا طرح جلالة الملك توجهات محددة على اعتبار أنها تمثل كما قال جلالته أولويات للعمل الوطني.
تحديدا أصدر جلالة الملك توجيهاته في مجالين محددين كبيرين:
التوجيه الأول: العناية بالهوية الوطنية بما تشمله من مبادئ وقيم معنوية وممارسات أصيلة ترتبط بالإنسان البحريني، وكان لها أبلغ الأثر في بناء قوته الحضارية المتجددة، وقدرته الفائقة على التعلم من دروس التاريخ، وأهم هذه الدروس إعلاء الهوية الوطنية وتعزيز الوحدة الجامعة لكل أطيافه، ورفض مظاهر التعصب والكراهية والولاءات الخارجية، ولله الحمد.
جلالة الملك يعتبر أن ترسيخ الهوية الوطنية بما تقوم عليه من قيم ومبادئ وطنية أكبر ركيزة للإعداد للمستقبل. وهذه رؤية حكيمة، فأي تقدم لا معنى له إلا إذا استند إلى هوية وطنية راسخة، كما أن الهوية الوطنية بقيمها وبمبادئها وما تعنيه من ولاء وطني جامع ووحدة وطنية هي أكبر حافز للإنجاز وتحقيق التقدم الذي ننشده.
التوجيه الثاني: ضرورة التركيز على مسار التطور العلمي والمعرفي المؤدي إلى التمكين والتنويع الصناعي والإنتاجي، باعتباره رافدًا أساسيًا للنمو الاقتصادي المنشود لتقليل اعتماد الوطن على مصادره التقليدية.
هذا التوجيه الملكي ينطلق بالطبع من حقيقة أن العصر الذي نعيشه الآن ومستقبلا هو عصر التقدم العلمي والتكنولوجي الرهيب والمتسارع. كما أشار جلالته إلى أنه من دون مواكبة هذا التطور العلمي والتكنولوجي وتسخيره من أجل التنمية والتقدم في البحرين، لن يكون هناك نمو ولا تقدم.
واللافت أن جلالة الملك كان حريصا في الخطاب على تحديد بعض الجوانب الأساسية والمهام الكبرى المطروحة في هذا السياق. جلالته وجه مثلا بالتوظيف الأمثل لتقنيات الذكاء الاصطناعي وخصوصا في مجالات التعليم والصحة والتصنيع والتنمية الحضرية، وإلى الاستثمار المركز في مجال الطاقة المتجددة، واستكشاف الفرص المتاحة في الفضاء الخارجي.. وهكذا.
كما نرى، فإن رؤية جلالة الملك لمستقبل البحرين تقوم على جانبين كبيرين. الأول: إننا يجب أن نستعد للمستقبل ونخطط له بناء على دراسة تفصيلية لاحتمالاته وفرصه وتحدياته. والثاني: إن الهوية الوطنية، والتقدم العلمي والتكنولوجي هما عماد أي خطط للمستقبل.
***
كما نرى، خطاب جلالة الملك يعدُّ علامة فارقة في العمل الوطني، ويعد مرشدا ودليلا للمستقبل وكيف يجب أن نستعد له.
الخطاب هو رؤية ملكية للعمل الوطني في البحرين حاضرا ومستقبلا.
ويمكننا أن نلخص ما جاء في خطاب جلالة الملك في جوانب ثلاثة كبرى.
إننا يجب أن نعتز ونفتخر بتاريخنا وبقادتنا الذين أرسوا منظومة القيم والمبادئ المتحضرة الحاكمة للدولة والمجتمع والتي أصبحت ثقافة ثابتة.
إننا يجب أن نعي مصادر قوة البحرين الكثيرة ويجب أن نعززها وأن نراهن عليها.
إننا يجب أن نعد للمستقبل إعدادا مدروسا من كل الجوانب، وأن ندرك أن تعزيز الهوية الوطنية ومواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي عماد أي إعداد للمستقبل.
يبقى أن نؤكد أن ما طرحه جلالة الملك من رؤى وتوجيهات يجب أن تكون بمثابة برنامج عمل لكل المؤسسات والقوى في المجتمع، الرسمية وغير الرسمية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك