العدد : ١٧٤٢٥ - الأحد ٠٧ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٢٥ - الأحد ٠٧ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

مقالات

‎الركود الخفي.. صدى التضخم الهيكلي وتراجع التجارة العالمية

‎بقلم: الدكتورة غنية الدرازي

الاثنين ٢٠ أكتوبر ٢٠٢٥ - 02:00

‎بينما‭ ‬تنشغل‭ ‬الأسواق‭ ‬العالمية‭ ‬بمتابعة‭ ‬تقلبات‭ ‬أسعار‭ ‬المعادن‭ ‬والأسهم،‭ ‬وقرارات‭ ‬البنوك‭ ‬المركزية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بأسعار‭ ‬الفائدة،‭ ‬يخطو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬بخطى‭ ‬ثابتة‭ ‬نحو‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬وغامضة‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬بعض‭ ‬الخبراء‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬‮«‬مرحلة‭ ‬الركود‭ ‬الخفي‮»‬‭.‬

‎لا‭ ‬تُقاس‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬المبهمة‭ ‬أو‭ ‬تتضح‭ ‬معالمها‭ ‬بالإحصائيات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التقليدية‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها،‭ ‬مثل‭ ‬انخفاض‭ ‬معدل‭ ‬نمو‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي‭ ‬للدول،‭ ‬بل‭ ‬بمؤشرات‭ ‬تُعد‭ ‬نوعاً‭ ‬ما‭ ‬مستحدثة،‭ ‬مثل‭ ‬قلة‭ ‬الثقة‭ ‬بين‭ ‬الاقتصادات‭ ‬الكبرى،‭ ‬وتباطؤ‭ ‬الزيادة‭ ‬في‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬وانخفاض‭ ‬مستويات‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تحقق‭ ‬معدلات‭ ‬نمو‭ ‬جيدة‭ ‬نوعاً‭ ‬ما،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬البنية‭ ‬العميقة‭ ‬للاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬بدأت‭ ‬تُظهر‭ ‬علامات‭ ‬أزمة‭ ‬اقتصادية‭ ‬أكثر‭ ‬غموضًا‭ ‬وتعقيداً‭ ‬مما‭ ‬تُبيّنه‭ ‬الإحصائيات‭ ‬الرسمية‭.‬

‎تشير‭ ‬التحليلات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الحديثة‭ ‬أن‭ ‬أنماط‭ ‬السلوكيات‭ ‬الجديدة‭ ‬للأفراد‭ ‬والشركات‭ ‬تعزز‭ ‬نظرية‭ ‬الركود‭ ‬الخفي‭. ‬إذ‭ ‬اقتصر‭ ‬إنفاق‭ ‬المستهلكين‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬الأساسيات،‭ ‬وقللت‭ ‬الشركات‭ ‬من‭ ‬استثماراتها،‭ ‬وأصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬تحفظاً‭ ‬في‭ ‬التوظيف‭. ‬كما‭ ‬قللت‭ ‬الدول‭ ‬الكبري‭ ‬من‭ ‬ضخها‭ ‬لرؤوس‭ ‬الأموال‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬النامية،‭ ‬مما‭ ‬خلق‭ ‬تباينا‭ ‬واضحا‭ ‬في‭ ‬معدلات‭ ‬النمو‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬العالمي،‭ ‬وزاد‭ ‬من‭ ‬تفاقم‭ ‬أزمات‭ ‬الدول‭ ‬النامية‭.‬

‎ثم‭ ‬إن‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تلقي‭ ‬بظلالها‭ ‬السلبية‭ ‬على‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬تعثر‭ ‬سلاسل‭ ‬التوريد،‭ ‬وزيادة‭ ‬أسعار‭ ‬الشحن،‭ ‬وتحول‭ ‬أعداد‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬الصناعات‭ ‬إلى‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭ ‬المحلي‭. ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬مجتمعة‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬رسم‭ ‬خريطة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬وكان‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬تغير‭ ‬معالم‭ ‬التركيبة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬للاقتصادات‭ ‬الكبري‭. ‬فمثلاً،‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الصيني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬الاقتصادات‭ ‬نمواً‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬يعاني‭ ‬هذه‭ ‬المدّة‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬أزمات‭ ‬داخلية‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬تباطؤ‭ ‬الدورة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬للاقتصاد‭ ‬الصيني،‭ ‬منها‭ ‬تراجع‭ ‬الطلب‭ ‬المحلى،‭ ‬وانخفاض‭ ‬الطلب‭ ‬العالمي‭ ‬على‭ ‬البضائع‭ ‬الصينية،‭ ‬وتدهور‭ ‬السوق‭ ‬العقاري‭.‬‮ ‬

‎على‭ ‬صعيداً‭ ‬آخر،‭ ‬تواجه‭ ‬القارة‭ ‬العجوز‭ ‬أزمة‭ ‬طاقة‭ ‬قاسية‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬كلفة‭ ‬إنتاج‭ ‬البضائع‭ ‬الأوروبية‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬وبالتالي‭ ‬انخفاض‭ ‬الطلب،‭ ‬مما‭ ‬قوض‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬على‭ ‬المنافسة،‭ ‬ودفعته‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التضخم‭ ‬المزمن‭.‬

‎أما‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الأمريكي،‭ ‬الذي‭ ‬يرتكز‭ ‬بشكل‭ ‬رئيسي‭ ‬على‭ ‬استهلاك‭ ‬المستهلكين‭ (‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬‮٧٠‬‭ ‬بالمئة‭ ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي‭) ‬والإنفاق‭ ‬الحكومي،‭ ‬فإن‭ ‬أسعار‭ ‬الفائدة‭ ‬المرتفعة‭ ‬لفترة‭ ‬ليست‭ ‬قصيرة،‭ ‬قد‭ ‬أثرت‭ ‬بالسلب‭ ‬في‭ ‬نمو‭ ‬الشركات‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وألقت‭ ‬بظلالها‭ ‬السلبية‭ ‬على‭ ‬القطاع‭ ‬العقاري‭. ‬كذلك،‭ ‬وصلت‭ ‬ديون‭ ‬الأمريكيين‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬مما‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬تباطؤ‭ ‬إنفاق‭ ‬المستهلك‭ ‬ومهد‭ ‬الى‭ ‬دخول‭ ‬أكبر‭ ‬اقتصاد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬تباطؤ‭.‬

‎من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬أسهمت‭ ‬الصراعات‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬مثل‭ ‬حرب‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬واضطرابات‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر،‭ ‬وظهور‭ ‬سياسات‭ ‬الحماية‭ ‬التجارية،‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬تضخم‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص‭ ‬يعرف‭ ‬بـ«التضخم‭ ‬الهيكلي‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬تضخم‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬زيادة‭ ‬العرض‭ ‬وليس‭ ‬الطلب‭ ‬فقط‭. ‬حيث‭ ‬فاقمت‭ ‬الصراعات‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬السابقة‭ ‬الذكر‭ ‬أسعار‭ ‬السلع‭ ‬الأساسية‭ ‬مثل‭ ‬الطاقة،‭ ‬والمعادن،‭ ‬وبشكل‭ ‬أساسي‭ ‬أسعار‭ ‬المواد‭ ‬الغذائية،‭ ‬وجعلتها‭ ‬معرضة‭ ‬لتقلبات‭ ‬كبيرة‭. ‬تداخل‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬جعل‭ ‬التضخم‭ ‬مقاوما‭ ‬لسياسات‭ ‬المعالجة‭ ‬التقليدية،‭ ‬ووضع‭ ‬البنوك‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬بين‭ ‬مكافحة‭ ‬زيادة‭ ‬الأسعار‭ ‬وكبح‭ ‬النمو‭.‬

‎تشابك‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأوضاع‭ ‬جعل‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬يحذرون‭ ‬من‭ ‬تراجع‭ ‬العولمة،‭ ‬أو‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬يتوقعون‭ ‬ظهور‭ ‬عولمة‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر،‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬العولمة‭ ‬الانتقائية،‭ ‬حيث‭ ‬تقوم‭ ‬الدول‭ ‬العظمى‭ ‬بإعادة‭ ‬رسم‭ ‬تموضعها‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تقلل‭ ‬من‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬خصومها‭ ‬السياسيين،‭ ‬مثلاً،‭ ‬قامت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬بشن‭ ‬عدة‭ ‬سياسات‭ ‬بهدف‭ ‬تشجيع‭ ‬التصنيع‭ ‬المحلي،‭ ‬وتقليل‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الصناعات‭ ‬المستوردة،‭ ‬وتشجيع‭ ‬الابتكار‭. ‬بينما‭ ‬تبنت‭ ‬الصين‭ ‬مبادرات‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تسهيل‭ ‬التجارة،‭ ‬وتعزيز‭ ‬نفوذها‭ ‬السياسي‭ ‬والتجاري،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تعمل‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬توازن‭ ‬بين‭ ‬الاستقلال‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬والانفتاح‭ ‬الاقتصادي‭.‬

‎الرسالة‭ ‬الأهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬أن‭ ‬قوة‭ ‬اقتصادات‭ ‬الدول‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تقاس‭ ‬فقط‭ ‬بالأرقام،‭ ‬بل‭ ‬بقدرتها‭ ‬على‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬المعطيات‭ ‬المحلية‭ ‬والدولية‭ ‬وتعزيز‭ ‬الابتكار‭.‬

‎‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬ستنجح‭ ‬في‭ ‬تخطي‭ ‬المرحلة‭ ‬المقبلة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تستطيع‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬نماذجها‭ ‬الإنتاجية،‭ ‬وتطوير‭ ‬الابتكار‭ ‬المحلي،‭ ‬وتعزيز‭ ‬الثقة‭ ‬بين‭ ‬الحكومة‭ ‬والقطاع‭ ‬الخاص‭. ‬أما‭ ‬البقية،‭ ‬فستظل‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬ركود‭ ‬غير‭ ‬معلن،‭ ‬تتغير‭ ‬فيه‭ ‬الأرقام‭ ‬لكن‭ ‬تبقى‭ ‬الحقائق‭ ‬الاقتصادية‭ ‬ثابتة‭: ‬تباطؤ،‭ ‬تضخم،‭ ‬وتقلص‭ ‬في‭ ‬الفرص‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا