يروى أن أحد القادة قرر أن يحيط نفسه بفريق «مخلص» لا يخالف له رأيا ولا يراجعه في قرار. وبعد بحث طويل وجد ضالته في أكثرهم دهاء وأقلهم وعيا. كانت البطانة تزعم أن دورها الرقابة والحماية لكنها مارستها بطريقة تثير الرهبة أكثر مما تثير الاحترام. ومع الوقت صار الموظفون يتبادلون التنهيدات بدلا من الأفكار وينتظرون التقارير كما ينتظر أحدهم نتيجة فحص مصيري. وعندما يزرع القائد الخوف بدلا من الثقة، ينهار الفريق بصمت موجع، ولا يدرك إلا متأخراً أن الخوف لا يصنع التزاماً، وأن المؤسسة التي تُدار بالرهبة تشيخ قبل أوانها مهما بدا نظامها شاباً.
هذه الصورة ليست نادرة في بيئات العمل، فالكثير من المؤسسات لا يظهر الخلل فيها فجأة، بل يبدأ بما يمكن تسميته العدائية الخفية؛ سيطرة ناعمة المظهر قاسية الجوهر تُغلف القسوة بالمهنية وتزرع الخوف باسم النظام. وحين تسود هذه الروح يتحول الحذر إلى أسلوب حياة، والصمت إلى وسيلة بقاء.
ومن هنا تتكرر القصة بأشكال مختلفة. فحين تُقيد حرية الرأي ويُساء استخدام السلطة تتحول الرقابة من أداة تطوير إلى وسيلة هيمنة. ويبدأ الخلل من البطانة المحيطة بالقائد التي تتقن صناعة الخوف أكثر من صناعة الثقة وتغذي السلطة بالأوهام بدعوى الولاء. هم لا يحمون القائد كما يظن، بل يعزلونه عن الحقيقة ويحوّلون النقد إلى خطر. ومع الوقت يصبح الخوف اللغة الرسمية للمؤسسة ويعتاد الموظفون الصمت طلباً للنجاة.
ورغم أن الموظف قد يتحمل ضغط العمل أو ضيق الموارد، إلا أنه لا يحتمل أن يعمل تحت سيف الخوف. فذلك الخوف يطفئ الحماسة ويحوّل الالتزام إلى عبء ويزرع التردد في كل مبادرة. ومع مرور الوقت يتقن فن الصمت أكثر مما يتقن فن العمل، ويصبح نجاحه مرهوناً بتجنب الخطأ لا بتحقيق الإنجاز. أما حين تُستبدل الرهبة بالاحترام ويحل التقدير محل التهديد، ينبض الموظف بطاقة لا يمكن شراؤها. فالمؤسسة التي تُقدر العامل تُحرره من الخشية وتُعيد إليه ثقته وانتماءه.
وقد قرأت مرة أن لا شيء يُفقد الإنسان احترامه لعمله أكثر من الخوف، فهو يجعل الأذكياء يبدون عاجزين والشجعان صامتين، ويحوّل بيئة العمل إلى سكون ثقيل يخنق الكلمة الصادقة ويُطفئ الحماسة في النفوس. وعندما يسود هذا المناخ تتراجع الثقة ويضعف الانتماء وتتحول المؤسسة إلى قشرة صلبة من النظام تخفي تحتها روح منهكة.
ولعل أبرز ما يؤكد ذلك ما ذكره أحد خبراء التنمية المؤسسية حين قال إن البطانة الحقيقية ليست عيونا تترصد الأخطاء، بل ضميراً يوجه نحو الصواب، تُمارس بروح الشراكة لا الخوف. فحين تُبنى على العدالة والثقة ترتفع الإنتاجية ويتجدد الانتماء، لأن المؤسسات تُقاس بإنصافها لا بصرامتها.
وهنا يبرز دور القيادة الواعية، التي تبدأ بإصلاح المناخ وتحرير دائرتها من بطانة الخوف. فالإصلاح الحقيقي لا يقوم على تعديل الأنظمة بقدر ما يقوم على تغيير طريقة التفكير. فالعبرة ليست في موقع القائد بل في وعيه، وفي قدرته على رؤية الخطأ دون أن يخاف من الاعتراف به، وعلى الإصغاء دون أن يشعر بأن الرأي الآخر ينتقص من سلطته. القائد الواعي لا يطلب التصفيق بل المشاركة، ولا يزرع الخوف بل الإلهام، ومن هنا تُستعاد الحوكمة كتوازن بين السلطة والضمير.
وحين تتغذى بيئة العمل بالعدل والثقة والتقدير الإنساني، تُشفى من توترها وتستعيد نبضها. فالكلمة الطيبة والإنصاف الصادق كفيلان بإحياء ضمير المؤسسة قبل أنظمتها. وعندما تُمارس الحوكمة بهذا الوعي تثمر عدلاً وإنسانية، وتبقى المؤسسات حيّة بروحها لا بلوائحها.
يبقى ميزان البطانة أدقّ موازين القيادة.. إما أن يزن بالحق فتنهض المؤسسة، أو يميل بالخوف فتشيخ وهي واقفة.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك