العدد : ١٧٤٢٥ - الأحد ٠٧ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٢٥ - الأحد ٠٧ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

مقالات

ميزان البطانة

{ بقلم: عبير محمد دهام

الثلاثاء ٢١ أكتوبر ٢٠٢٥ - 02:00

يروى‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬القادة‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يحيط‭ ‬نفسه‭ ‬بفريق‭ ‬‮«‬مخلص‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يخالف‭ ‬له‭ ‬رأيا‭ ‬ولا‭ ‬يراجعه‭ ‬في‭ ‬قرار‭. ‬وبعد‭ ‬بحث‭ ‬طويل‭ ‬وجد‭ ‬ضالته‭ ‬في‭ ‬أكثرهم‭ ‬دهاء‭ ‬وأقلهم‭ ‬وعيا‭. ‬كانت‭ ‬البطانة‭ ‬تزعم‭ ‬أن‭ ‬دورها‭ ‬الرقابة‭ ‬والحماية‭ ‬لكنها‭ ‬مارستها‭ ‬بطريقة‭ ‬تثير‭ ‬الرهبة‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تثير‭ ‬الاحترام‭. ‬ومع‭ ‬الوقت‭ ‬صار‭ ‬الموظفون‭ ‬يتبادلون‭ ‬التنهيدات‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬وينتظرون‭ ‬التقارير‭ ‬كما‭ ‬ينتظر‭ ‬أحدهم‭ ‬نتيجة‭ ‬فحص‭ ‬مصيري‭. ‬وعندما‭ ‬يزرع‭ ‬القائد‭ ‬الخوف‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الثقة،‭ ‬ينهار‭ ‬الفريق‭ ‬بصمت‭ ‬موجع،‭ ‬ولا‭ ‬يدرك‭ ‬إلا‭ ‬متأخراً‭ ‬أن‭ ‬الخوف‭ ‬لا‭ ‬يصنع‭ ‬التزاماً،‭ ‬وأن‭ ‬المؤسسة‭ ‬التي‭ ‬تُدار‭ ‬بالرهبة‭ ‬تشيخ‭ ‬قبل‭ ‬أوانها‭ ‬مهما‭ ‬بدا‭ ‬نظامها‭ ‬شاباً‭.‬

هذه‭ ‬الصورة‭ ‬ليست‭ ‬نادرة‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬العمل،‭ ‬فالكثير‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬الخلل‭ ‬فيها‭ ‬فجأة،‭ ‬بل‭ ‬يبدأ‭ ‬بما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬العدائية‭ ‬الخفية؛‭ ‬سيطرة‭ ‬ناعمة‭ ‬المظهر‭ ‬قاسية‭ ‬الجوهر‭ ‬تُغلف‭ ‬القسوة‭ ‬بالمهنية‭ ‬وتزرع‭ ‬الخوف‭ ‬باسم‭ ‬النظام‭. ‬وحين‭ ‬تسود‭ ‬هذه‭ ‬الروح‭ ‬يتحول‭ ‬الحذر‭ ‬إلى‭ ‬أسلوب‭ ‬حياة،‭ ‬والصمت‭ ‬إلى‭ ‬وسيلة‭ ‬بقاء‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬تتكرر‭ ‬القصة‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة‭. ‬فحين‭ ‬تُقيد‭ ‬حرية‭ ‬الرأي‭ ‬ويُساء‭ ‬استخدام‭ ‬السلطة‭ ‬تتحول‭ ‬الرقابة‭ ‬من‭ ‬أداة‭ ‬تطوير‭ ‬إلى‭ ‬وسيلة‭ ‬هيمنة‭. ‬ويبدأ‭ ‬الخلل‭ ‬من‭ ‬البطانة‭ ‬المحيطة‭ ‬بالقائد‭ ‬التي‭ ‬تتقن‭ ‬صناعة‭ ‬الخوف‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صناعة‭ ‬الثقة‭ ‬وتغذي‭ ‬السلطة‭ ‬بالأوهام‭ ‬بدعوى‭ ‬الولاء‭. ‬هم‭ ‬لا‭ ‬يحمون‭ ‬القائد‭ ‬كما‭ ‬يظن،‭ ‬بل‭ ‬يعزلونه‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬ويحوّلون‭ ‬النقد‭ ‬إلى‭ ‬خطر‭. ‬ومع‭ ‬الوقت‭ ‬يصبح‭ ‬الخوف‭ ‬اللغة‭ ‬الرسمية‭ ‬للمؤسسة‭ ‬ويعتاد‭ ‬الموظفون‭ ‬الصمت‭ ‬طلباً‭ ‬للنجاة‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬الموظف‭ ‬قد‭ ‬يتحمل‭ ‬ضغط‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬ضيق‭ ‬الموارد،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يحتمل‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬تحت‭ ‬سيف‭ ‬الخوف‭. ‬فذلك‭ ‬الخوف‭ ‬يطفئ‭ ‬الحماسة‭ ‬ويحوّل‭ ‬الالتزام‭ ‬إلى‭ ‬عبء‭ ‬ويزرع‭ ‬التردد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مبادرة‭. ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬يتقن‭ ‬فن‭ ‬الصمت‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يتقن‭ ‬فن‭ ‬العمل،‭ ‬ويصبح‭ ‬نجاحه‭ ‬مرهوناً‭ ‬بتجنب‭ ‬الخطأ‭ ‬لا‭ ‬بتحقيق‭ ‬الإنجاز‭. ‬أما‭ ‬حين‭ ‬تُستبدل‭ ‬الرهبة‭ ‬بالاحترام‭ ‬ويحل‭ ‬التقدير‭ ‬محل‭ ‬التهديد،‭ ‬ينبض‭ ‬الموظف‭ ‬بطاقة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬شراؤها‭. ‬فالمؤسسة‭ ‬التي‭ ‬تُقدر‭ ‬العامل‭ ‬تُحرره‭ ‬من‭ ‬الخشية‭ ‬وتُعيد‭ ‬إليه‭ ‬ثقته‭ ‬وانتماءه‭.‬

وقد‭ ‬قرأت‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يُفقد‭ ‬الإنسان‭ ‬احترامه‭ ‬لعمله‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الخوف،‭ ‬فهو‭ ‬يجعل‭ ‬الأذكياء‭ ‬يبدون‭ ‬عاجزين‭ ‬والشجعان‭ ‬صامتين،‭ ‬ويحوّل‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬إلى‭ ‬سكون‭ ‬ثقيل‭ ‬يخنق‭ ‬الكلمة‭ ‬الصادقة‭ ‬ويُطفئ‭ ‬الحماسة‭ ‬في‭ ‬النفوس‭. ‬وعندما‭ ‬يسود‭ ‬هذا‭ ‬المناخ‭ ‬تتراجع‭ ‬الثقة‭ ‬ويضعف‭ ‬الانتماء‭ ‬وتتحول‭ ‬المؤسسة‭ ‬إلى‭ ‬قشرة‭ ‬صلبة‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬تخفي‭ ‬تحتها‭ ‬روح‭ ‬منهكة‭.‬

ولعل‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬أحد‭ ‬خبراء‭ ‬التنمية‭ ‬المؤسسية‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬البطانة‭ ‬الحقيقية‭ ‬ليست‭ ‬عيونا‭ ‬تترصد‭ ‬الأخطاء،‭ ‬بل‭ ‬ضميراً‭ ‬يوجه‭ ‬نحو‭ ‬الصواب،‭ ‬تُمارس‭ ‬بروح‭ ‬الشراكة‭ ‬لا‭ ‬الخوف‭. ‬فحين‭ ‬تُبنى‭ ‬على‭ ‬العدالة‭ ‬والثقة‭ ‬ترتفع‭ ‬الإنتاجية‭ ‬ويتجدد‭ ‬الانتماء،‭ ‬لأن‭ ‬المؤسسات‭ ‬تُقاس‭ ‬بإنصافها‭ ‬لا‭ ‬بصرامتها‭.‬

وهنا‭ ‬يبرز‭ ‬دور‭ ‬القيادة‭ ‬الواعية،‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬بإصلاح‭ ‬المناخ‭ ‬وتحرير‭ ‬دائرتها‭ ‬من‭ ‬بطانة‭ ‬الخوف‭. ‬فالإصلاح‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬تعديل‭ ‬الأنظمة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬طريقة‭ ‬التفكير‭. ‬فالعبرة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬القائد‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬وعيه،‭ ‬وفي‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬الخطأ‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬به،‭ ‬وعلى‭ ‬الإصغاء‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬بأن‭ ‬الرأي‭ ‬الآخر‭ ‬ينتقص‭ ‬من‭ ‬سلطته‭. ‬القائد‭ ‬الواعي‭ ‬لا‭ ‬يطلب‭ ‬التصفيق‭ ‬بل‭ ‬المشاركة،‭ ‬ولا‭ ‬يزرع‭ ‬الخوف‭ ‬بل‭ ‬الإلهام،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تُستعاد‭ ‬الحوكمة‭ ‬كتوازن‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬والضمير‭.‬

وحين‭ ‬تتغذى‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬بالعدل‭ ‬والثقة‭ ‬والتقدير‭ ‬الإنساني،‭ ‬تُشفى‭ ‬من‭ ‬توترها‭ ‬وتستعيد‭ ‬نبضها‭. ‬فالكلمة‭ ‬الطيبة‭ ‬والإنصاف‭ ‬الصادق‭ ‬كفيلان‭ ‬بإحياء‭ ‬ضمير‭ ‬المؤسسة‭ ‬قبل‭ ‬أنظمتها‭. ‬وعندما‭ ‬تُمارس‭ ‬الحوكمة‭ ‬بهذا‭ ‬الوعي‭ ‬تثمر‭ ‬عدلاً‭ ‬وإنسانية،‭ ‬وتبقى‭ ‬المؤسسات‭ ‬حيّة‭ ‬بروحها‭ ‬لا‭ ‬بلوائحها‭.‬

يبقى‭ ‬ميزان‭ ‬البطانة‭ ‬أدقّ‭ ‬موازين‭ ‬القيادة‭.. ‬إما‭ ‬أن‭ ‬يزن‭ ‬بالحق‭ ‬فتنهض‭ ‬المؤسسة،‭ ‬أو‭ ‬يميل‭ ‬بالخوف‭ ‬فتشيخ‭ ‬وهي‭ ‬واقفة‭.‬

مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا