هل سألت نفسك يوماً ما الذي يمكن أن تفعله معلومة واحدة في بيئة العمل؟ قد يبدو السؤال عابراً في ظاهره، لكنه يفتح باباً داخلياً كلما مرّ أمامنا مشهد مهني يستحق التأمل. فالمعلومة ليست مجرد تفصيل عابر، بل قد تكون نقطة تحول في مسار قرار أو توجيه، أو إيقاف لمشروع كامل.. وما لم تُمحّص وتُراجع، قد تكتسب سلطة لا تستحقها، فتقودنا من مساحة الرشد إلى قفزة في الظلام.
نحن اليوم لا نعيش أزمة في الوصول إلى البيانات، فالأدوات متاحة والقنوات مفتوحة والتفاعل لحظي.. التحدي الحقيقي أصبح في التحقق: هل ما بين أيدينا معرفة مكتملة أم سياق مبتور؟ هل نملك ما يكفي من الصورة لفهم التأثير، أم أننا أسرى الانطباع الأول الذي سرعان ما يتحول إلى قناعة؟ هنا تكمن خطورة المعلومة غير الممحصة، إذ تنتقل من شاشة إلى ذهن ثم إلى إجراء من دون أن تمر بمحطة مراجعة.
وفي المؤسسات كثيراً ما يرد المحتوى في محادثة سريعة أو رسالة إلكترونية عابرة، ثم يُعامل كما لو كان تقريرا رسميا أو مصدرا موثوقا ومن يقرأ أولاً قد يقرر أولاً، لا لأن المعلومة أصدق، بل لأنها سبقت. هذه الممارسات تبتعد عن الحوكمة وتفتح الباب للمخاطرة.
من هنا تظهر الحاجة إلى سلوك مهني يمكن وصفه «باستئذان المعلومة». ليس المقصود به إجراء بيروقراطي يبطئ العمل، بل وقفة داخلية هادئة تسبق أي أثر. وقفة نسأل فيها: هل المعلومة مكتملة؟ هل طابقت أكثر من مصدر؟ ما كلفة خطئها إن ثبت عدم صحتها؟ ومن سيتأثر بها إن مضت من دون مراجعة؟ هذه الأسئلة هي جوهر الحوكمة المهنية، لأنها تضع حاجزا وقائيا بين الانطباع والقرار.
تماماً كما لا يمر منتج في خطوط التصنيع قبل اجتياز اختبارات الجودة، لا ينبغي أن تمر معلومة من دون تحقق. المنتج يخضع للفحص من حيث الشكل والمكونات والمعايير، والمعلومة بدورها تحتاج الى مراجعة خلفيتها وتوقيتها ودلالاتها. إن لم تجتز هذا الفحص، تُعلّق ولا تُفعّل، لأن قراراً قائماً على محتوى هش لا ينتج سوى ارتباك تنظيمي، وتصحيح متأخر يكلف المؤسسة وقتاً وموارد كان يمكن أن تُستثمر في المسار الصحيح.
إن غياب هذه الممارسة يحول التفسيرات الشخصية إلى مواقف، والانطباعات العابرة إلى توجهات، من دون أن يقصد أحد ذلك. ومع تراكمها تختل الموازين ويضعف الأداء العام. أما حين تتحول إلى ثقافة، فهي لا تبطئ العمل بل تسرع المسار، وتقلل من توقفات التصحيح وتحافظ على الموارد في خطها الأصيل.
«استئذان المعلومة» في جوهره ليس رفاهية ذهنية ولا تعقيدا إداريا انما ركيزة أساسية من ركائز الحوكمة. هو ما يضمن جودة التوجيه، ويحفظ كرامة العاملين، ويمنح القرار قيمة إضافية نابعة من قوة الدليل لا من حماسة اللحظة. والغاية ليست التعقيد وإنما الدقة، تلك التي تجعل من كل قرار مساحة استحقاق لا مساحة ارتجال.
في نهاية كل قرار مؤسسي، يظل سؤال التحقق هو الفيصل بين الحماسة والمهنية. فالمعلومة التي لا تمر على عقل واعٍ قبل أن تمس واقعا، قد تقود إلى أثر لا يمكن تداركه بسهولة. القرار الرشيد لا يبدأ من وفرة البيانات، بل من قدرة المؤسسة على التمييز بين ما يُقال وما ينبغي أن يُؤخذ بجدية.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك