مع كل ثورة معرفية عاشتها البشرية، كانت الثقافة دائمًا في قلب التحولات. واليوم يقف الذكاء الاصطناعي أمامنا ليس فقط كأداة تقنية، بل كقوة قادرة على إعادة تشكيل المجتمع والهوية والذاكرة الجماعية.
شهدت المجتمعات البشرية عبر التاريخ تحولات كبرى في طريقة حفظ ونقل هويتها الثقافية، فقد اعتمدت الأجيال الماضية على التوثيق اليدوي والمحفوظات والأرشيفات، وهي وسائل محدودة الوصول ومرهقة في تداولها، مما جعل الكثير من المعارف حبيسة الزمن ومهددة بالاندثار. غير أن الثورة التكنولوجية التي عرفها العالم في العقود الأخيرة، وخاصة في ميادين الذكاء الاصطناعي، فتحت آفاقًا جديدة لإحياء التراث الثقافي واستثماره باستراتيجيات أكثر أمانًا وانتشارًا وتفاعلًا مع الإنسان المعاصر.
اليوم صار من الممكن رقمنة الذاكرة الجماعية وتحويلها إلى بيانات محفوظة على منصات إلكترونية تتيح الوصول إليها بلا قيود جغرافية أو زمنية. ولم تتوقف هذه التقنيات عند حدود الحفظ، بل تجاوزتها إلى خلق بيئات رقمية تفاعلية تعيد إنتاج التجارب الثقافية في صور تحاكي الواقع أو حتى تتخطاه. وبهذا المعنى لم يعد التراث مجرد ماضٍ محفوظ في الأرشيف، بل حاضرٌ متجدد يشكّل مصدر إلهام يعاد تأطيره بلغات المستقبل.
لقد غيّرت تطبيقات الذكاء الاصطناعي مفهوم الثقافة من كونه مجموعة جامدة من المعارف إلى بيانات حية قابلة للتحليل وإعادة البناء. إذ باتت الخوارزميات قادرة على التعامل مع النصوص الشفوية والفولكلورية، والتحليل لمضامينها، واستخلاص أنماطها اللغوية والسلوكية، ما يمنح الباحثين فهمًا أعمق للتحولات الثقافية عبر الزمن. كما أصبحت النماذج اللغوية المتقدمة قادرة على توليد القصص والشعر والأعمال الأدبية المستوحاة من الخصوصيات الثقافية المحلية، لتتحول إلى شركاء خلاقين في صياغة الإبداع الإنساني.
ويمتد هذا الأثر إلى التراث الثقافي المادي وغير المادي الذي يمثل ذاكرة الشعوب والركيزة الجوهرية لهويتها الحضارية. ومع ما يهدده من أخطار طبيعية وبشرية، يبرز الذكاء الاصطناعي كحارس رقمي قادر على إنقاذه من الفقد. فقد أتاحت تقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد والمسح بالليزر، كما في مبادرات دولية مثل CyArk، إمكانية توثيق المواقع الأثرية بدقة عالية تحفظها حتى في حالة زوالها فعليًا. كما تسهم تقنيات التعلم الآلي في فك رموز المخطوطات القديمة ومعالجة النصوص التالفة، بما يتيح استعادة معارف كانت مهددة بالاندثار.
ولا تقتصر قدرات الذكاء الاصطناعي على الحفظ والتحليل، بل تمتد إلى تفعيل الحراك الثقافي المعاصر عبر تمكين الأفراد والمؤسسات من وسائل جديدة للإبداع. إذ أصبح بالإمكان توليد الموسيقى واللوحات الفنية والنصوص الأدبية عبر نماذج قادرة على التفاعل مع الذائقة الثقافية المحلية والعالمية. كما أسهمت أدوات الترجمة الفورية مثل DeepL في كسر الحواجز اللغوية وتعزيز التواصل بين الثقافات المختلفة، وهو ما يفتح المجال أمام حوار إنساني قائم على التنوع والتعدد.
وإلى جانب هذا، أخذت المعارض الافتراضية والمتاحف الذكية مكانة رائدة، إذ تعيد تعريف تجربة الزائر من خلال الواقع الافتراضي والمعزز، لتتيح تفاعلًا حسّيًا ومعرفيًا متكاملًا مع القطع الأثرية. كما تسمح تقنيات تحليل البيانات بفهم أعمق لسلوك الجمهور واهتماماته، ما يمكّن المؤسسات الثقافية من توجيه إنتاجها بما يتلاءم مع الأذواق والتحولات المجتمعية.
وبالرغم أن الريادة العالمية في مجالات الذكاء الاصطناعي الثقافي تتمركز في يومنا هذا في الغرب، إلا أن الدول العربية ومع ما تمتلكه من إرث حضاري غني وتنوع ثقافي عميق قادرة على أن تكون فاعلًا أساسيًا في هذه الثورة الرقمية.
لتحقيق ذلك، ثمة حاجة إلى رؤى استراتيجية تدمج الذكاء الاصطناعي ضمن أولويات التنمية الثقافية الوطنية، وتشجع ريادة الأعمال في مجالات التقنية الثقافية، وتدعم مراكز أبحاث تجمع بين العلوم الإنسانية والمعارف التقنية. كذلك ينبغي رقمنة المخطوطات والروايات الشفوية والفنون الشعبية، وإتاحة الأدوات للمبدعين المحليين لتوظيف الذكاء الاصطناعي في أعمالهم.
وبهذا، فإن الذكاء الاصطناعي لا يشكل تهديدا على الثقافة كما يُظن، بل فرصة تاريخية لإعادة صياغتها بروح تتجاوز الحفظ إلى المشاركة، ومن الرتابة إلى التفاعل الخلاق. إنها فرصة لا تُمنح بل تُصنع عبر الاستثمار الواعي في القدرات المحلية وتعزيز الشراكة بين الإنسان والتقنية. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحن مدعوون للانتقال من موقع المتلقي إلى موقع المنتج، ومن مستهلكي الذكاء الاصطناعي إلى صانعيه، لنرسم مستقبلًا ثقافيًا حيًا ينبض بالهوية ويحتفي بالتجدد.
باحثة في السياسات الثقافية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك