العدد : ١٧٣٢٦ - السبت ٣٠ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٧ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٢٦ - السبت ٣٠ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٧ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

الثقافي

الثقافة والذكاء الاصطناعي: تشكيل المعرفة والهويّة الثقافية

{ بقلم: عائشة يوسف السادة

السبت ٣٠ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

مع‭ ‬كل‭ ‬ثورة‭ ‬معرفية‭ ‬عاشتها‭ ‬البشرية،‭ ‬كانت‭ ‬الثقافة‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬التحولات‭. ‬واليوم‭ ‬يقف‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬أمامنا‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬كأداة‭ ‬تقنية،‭ ‬بل‭ ‬كقوة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬المجتمع‭ ‬والهوية‭ ‬والذاكرة‭ ‬الجماعية‭.‬

شهدت‭ ‬المجتمعات‭ ‬البشرية‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬تحولات‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬حفظ‭ ‬ونقل‭ ‬هويتها‭ ‬الثقافية،‭ ‬فقد‭ ‬اعتمدت‭ ‬الأجيال‭ ‬الماضية‭ ‬على‭ ‬التوثيق‭ ‬اليدوي‭ ‬والمحفوظات‭ ‬والأرشيفات،‭ ‬وهي‭ ‬وسائل‭ ‬محدودة‭ ‬الوصول‭ ‬ومرهقة‭ ‬في‭ ‬تداولها،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬حبيسة‭ ‬الزمن‭ ‬ومهددة‭ ‬بالاندثار‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الثورة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬فتحت‭ ‬آفاقًا‭ ‬جديدة‭ ‬لإحياء‭ ‬التراث‭ ‬الثقافي‭ ‬واستثماره‭ ‬باستراتيجيات‭ ‬أكثر‭ ‬أمانًا‭ ‬وانتشارًا‭ ‬وتفاعلًا‭ ‬مع‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭.‬

اليوم‭ ‬صار‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬رقمنة‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجماعية‭ ‬وتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬بيانات‭ ‬محفوظة‭ ‬على‭ ‬منصات‭ ‬إلكترونية‭ ‬تتيح‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭ ‬بلا‭ ‬قيود‭ ‬جغرافية‭ ‬أو‭ ‬زمنية‭. ‬ولم‭ ‬تتوقف‭ ‬هذه‭ ‬التقنيات‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬الحفظ،‭ ‬بل‭ ‬تجاوزتها‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬بيئات‭ ‬رقمية‭ ‬تفاعلية‭ ‬تعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬التجارب‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬صور‭ ‬تحاكي‭ ‬الواقع‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تتخطاه‭. ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬التراث‭ ‬مجرد‭ ‬ماضٍ‭ ‬محفوظ‭ ‬في‭ ‬الأرشيف،‭ ‬بل‭ ‬حاضرٌ‭ ‬متجدد‭ ‬يشكّل‭ ‬مصدر‭ ‬إلهام‭ ‬يعاد‭ ‬تأطيره‭ ‬بلغات‭ ‬المستقبل‭.‬

لقد‭ ‬غيّرت‭ ‬تطبيقات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬مفهوم‭ ‬الثقافة‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬مجموعة‭ ‬جامدة‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬إلى‭ ‬بيانات‭ ‬حية‭ ‬قابلة‭ ‬للتحليل‭ ‬وإعادة‭ ‬البناء‭. ‬إذ‭ ‬باتت‭ ‬الخوارزميات‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬النصوص‭ ‬الشفوية‭ ‬والفولكلورية،‭ ‬والتحليل‭ ‬لمضامينها،‭ ‬واستخلاص‭ ‬أنماطها‭ ‬اللغوية‭ ‬والسلوكية،‭ ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬الباحثين‭ ‬فهمًا‭ ‬أعمق‭ ‬للتحولات‭ ‬الثقافية‭ ‬عبر‭ ‬الزمن‭. ‬كما‭ ‬أصبحت‭ ‬النماذج‭ ‬اللغوية‭ ‬المتقدمة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬توليد‭ ‬القصص‭ ‬والشعر‭ ‬والأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬المستوحاة‭ ‬من‭ ‬الخصوصيات‭ ‬الثقافية‭ ‬المحلية،‭ ‬لتتحول‭ ‬إلى‭ ‬شركاء‭ ‬خلاقين‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬الإبداع‭ ‬الإنساني‭.‬

ويمتد‭ ‬هذا‭ ‬الأثر‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬الثقافي‭ ‬المادي‭ ‬وغير‭ ‬المادي‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬ذاكرة‭ ‬الشعوب‭ ‬والركيزة‭ ‬الجوهرية‭ ‬لهويتها‭ ‬الحضارية‭. ‬ومع‭ ‬ما‭ ‬يهدده‭ ‬من‭ ‬أخطار‭ ‬طبيعية‭ ‬وبشرية،‭ ‬يبرز‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬كحارس‭ ‬رقمي‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إنقاذه‭ ‬من‭ ‬الفقد‭. ‬فقد‭ ‬أتاحت‭ ‬تقنيات‭ ‬التصوير‭ ‬ثلاثي‭ ‬الأبعاد‭ ‬والمسح‭ ‬بالليزر،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مبادرات‭ ‬دولية‭ ‬مثل‭ ‬CyArk،‭ ‬إمكانية‭ ‬توثيق‭ ‬المواقع‭ ‬الأثرية‭ ‬بدقة‭ ‬عالية‭ ‬تحفظها‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬زوالها‭ ‬فعليًا‭. ‬كما‭ ‬تسهم‭ ‬تقنيات‭ ‬التعلم‭ ‬الآلي‭ ‬في‭ ‬فك‭ ‬رموز‭ ‬المخطوطات‭ ‬القديمة‭ ‬ومعالجة‭ ‬النصوص‭ ‬التالفة،‭ ‬بما‭ ‬يتيح‭ ‬استعادة‭ ‬معارف‭ ‬كانت‭ ‬مهددة‭ ‬بالاندثار‭.‬

ولا‭ ‬تقتصر‭ ‬قدرات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬على‭ ‬الحفظ‭ ‬والتحليل،‭ ‬بل‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬تفعيل‭ ‬الحراك‭ ‬الثقافي‭ ‬المعاصر‭ ‬عبر‭ ‬تمكين‭ ‬الأفراد‭ ‬والمؤسسات‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬جديدة‭ ‬للإبداع‭. ‬إذ‭ ‬أصبح‭ ‬بالإمكان‭ ‬توليد‭ ‬الموسيقى‭ ‬واللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬والنصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬عبر‭ ‬نماذج‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬الذائقة‭ ‬الثقافية‭ ‬المحلية‭ ‬والعالمية‭. ‬كما‭ ‬أسهمت‭ ‬أدوات‭ ‬الترجمة‭ ‬الفورية‭ ‬مثل‭ ‬DeepL‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬الحواجز‭ ‬اللغوية‭ ‬وتعزيز‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭ ‬المختلفة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفتح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬حوار‭ ‬إنساني‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬التنوع‭ ‬والتعدد‭.‬

وإلى‭ ‬جانب‭ ‬هذا،‭ ‬أخذت‭ ‬المعارض‭ ‬الافتراضية‭ ‬والمتاحف‭ ‬الذكية‭ ‬مكانة‭ ‬رائدة،‭ ‬إذ‭ ‬تعيد‭ ‬تعريف‭ ‬تجربة‭ ‬الزائر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الواقع‭ ‬الافتراضي‭ ‬والمعزز،‭ ‬لتتيح‭ ‬تفاعلًا‭ ‬حسّيًا‭ ‬ومعرفيًا‭ ‬متكاملًا‭ ‬مع‭ ‬القطع‭ ‬الأثرية‭. ‬كما‭ ‬تسمح‭ ‬تقنيات‭ ‬تحليل‭ ‬البيانات‭ ‬بفهم‭ ‬أعمق‭ ‬لسلوك‭ ‬الجمهور‭ ‬واهتماماته،‭ ‬ما‭ ‬يمكّن‭ ‬المؤسسات‭ ‬الثقافية‭ ‬من‭ ‬توجيه‭ ‬إنتاجها‭ ‬بما‭ ‬يتلاءم‭ ‬مع‭ ‬الأذواق‭ ‬والتحولات‭ ‬المجتمعية‭.‬

وبالرغم‭ ‬أن‭ ‬الريادة‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬الثقافي‭ ‬تتمركز‭ ‬في‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬ومع‭ ‬ما‭ ‬تمتلكه‭ ‬من‭ ‬إرث‭ ‬حضاري‭ ‬غني‭ ‬وتنوع‭ ‬ثقافي‭ ‬عميق‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬فاعلًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬الرقمية‭. ‬

لتحقيق‭ ‬ذلك،‭ ‬ثمة‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬رؤى‭ ‬استراتيجية‭ ‬تدمج‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬ضمن‭ ‬أولويات‭ ‬التنمية‭ ‬الثقافية‭ ‬الوطنية،‭ ‬وتشجع‭ ‬ريادة‭ ‬الأعمال‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬التقنية‭ ‬الثقافية،‭ ‬وتدعم‭ ‬مراكز‭ ‬أبحاث‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والمعارف‭ ‬التقنية‭. ‬كذلك‭ ‬ينبغي‭ ‬رقمنة‭ ‬المخطوطات‭ ‬والروايات‭ ‬الشفوية‭ ‬والفنون‭ ‬الشعبية،‭ ‬وإتاحة‭ ‬الأدوات‭ ‬للمبدعين‭ ‬المحليين‭ ‬لتوظيف‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬في‭ ‬أعمالهم‭.‬

وبهذا،‭ ‬فإن‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬لا‭ ‬يشكل‭ ‬تهديدا‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬كما‭ ‬يُظن،‭ ‬بل‭ ‬فرصة‭ ‬تاريخية‭ ‬لإعادة‭ ‬صياغتها‭ ‬بروح‭ ‬تتجاوز‭ ‬الحفظ‭ ‬إلى‭ ‬المشاركة،‭ ‬ومن‭ ‬الرتابة‭ ‬إلى‭ ‬التفاعل‭ ‬الخلاق‭. ‬إنها‭ ‬فرصة‭ ‬لا‭ ‬تُمنح‭ ‬بل‭ ‬تُصنع‭ ‬عبر‭ ‬الاستثمار‭ ‬الواعي‭ ‬في‭ ‬القدرات‭ ‬المحلية‭ ‬وتعزيز‭ ‬الشراكة‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والتقنية‭. ‬واليوم،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى،‭ ‬نحن‭ ‬مدعوون‭ ‬للانتقال‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬المتلقي‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬المنتج،‭ ‬ومن‭ ‬مستهلكي‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬إلى‭ ‬صانعيه،‭ ‬لنرسم‭ ‬مستقبلًا‭ ‬ثقافيًا‭ ‬حيًا‭ ‬ينبض‭ ‬بالهوية‭ ‬ويحتفي‭ ‬بالتجدد‭.‬

 

باحثة‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬الثقافية

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا