العدد : ١٧٣١٩ - السبت ٢٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣١٩ - السبت ٢٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ صفر ١٤٤٧هـ

الثقافي

قصة قصيرة: صورة قديمة

{ بقلم: تاميران محمود

السبت ٢٣ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

بخطوات‭ ‬سريعة‭ ‬أتحرك‭ ‬وسط‭ ‬الزحام‭. ‬يعبر‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬بحركة‭ ‬شبحية‭. ‬لا‭ ‬أميز‭ ‬وجوههم،‭ ‬ولا‭ ‬ألتفت‭ ‬الى‭ ‬أحاديثهم‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬أذني‭ ‬كلمات‭ ‬متقطعة‭ ‬سريعة‭ ‬مفككة‭. ‬أتخيل‭ ‬الناقص‭ ‬من‭ ‬الحوار‭ ‬وأضع‭ ‬بين‭ ‬وجهي‭ ‬والآخرين‭ ‬نظرة‭ ‬باردة‭ ‬غير‭ ‬مهتمة‭. ‬اعتدت‭ ‬منهم‭ ‬النظرات‭ ‬الفضولية‭ ‬والكلمات‭ ‬الملتهبة‭ ‬النهايات‭. ‬مهارات‭ ‬الصياد‭ ‬تنشط،‭ ‬ويتردد‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬سؤال‭: ‬مَن‭ ‬أخبركم‭ ‬أني‭ ‬فريسة؟

أدخل‭ ‬إلى‭ ‬عيادة‭ ‬التجميل،‭ ‬أدفع‭ ‬مبلغًا‭ ‬عظيمًا‭ ‬تحت‭ ‬الحساب‭ ‬وأنتظر‭ ‬دوري‭ ‬في‭ ‬صبر‭ ‬وصمت‭ ‬داخل‭ ‬صالة‭ ‬الانتظار‭ ‬الواسعة‭ ‬المطلية‭ ‬باللون‭ ‬الأبيض،‭ ‬وتتوزع‭ ‬الإضاءة‭ ‬حولي‭ ‬دافئة‭. ‬كانت‭ ‬موظفة‭ ‬الاستقبال‭ ‬فتاة‭ ‬رقيقة‭ ‬تجلس‭ ‬خلف‭ ‬مكتبها‭ ‬البيضاوي‭ ‬تتلقى‭ ‬الاتصالات‭ ‬الهاتفية‭ ‬وترد‭ ‬بكلمات‭ ‬ودودة‭ ‬وضحكات‭ ‬بسيطة‭.‬

جاء‭ ‬دوري‭ ‬لرؤية‭ ‬الطبيب‭. ‬مغطيًا‭ ‬وجهه‭ ‬بالقناع‭ ‬الطبي‭ ‬ويديه‭ ‬بالقفازات‭ ‬وملابسه‭ ‬بزي‭ ‬معقم‭ ‬أراه‭ ‬شبحًا‭ ‬أزرق‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬مقعده‭ ‬الدوار‭. ‬أرقد‭ ‬أمامه‭ ‬على‭ ‬السرير‭ ‬وأتركه‭ ‬يتفحص‭ ‬الجرح‭ ‬القديم‭ ‬الذي‭ ‬يقطع‭ ‬فخذي‭ ‬وأسأله‭ ‬بقلق‭ ‬عن‭ ‬رأيه‭.‬

يقول‭ ‬في‭ ‬فخر‭: ‬لا‭ ‬تقلقي،‭ ‬علاج‭ ‬الجروح‭ ‬لن‭ ‬يتجاوز‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر،‭ ‬وبعدها‭ ‬ستكون‭ ‬لك‭ ‬أفخاذ‭ ‬رائعة‭.‬

يقولها‭ ‬في‭ ‬فخر‭ ‬مناسب‭ ‬لشهرته‭ ‬الواسعة‭. ‬أصبحت‭ ‬زياراتي‭ ‬للطبيب‭ ‬دائمة،‭ ‬أتبع‭ ‬تعليماته‭ ‬قبل‭ ‬العلاج‭ ‬وأثنائه‭ ‬وبعده‭. ‬يتغير‭ ‬لون‭ ‬الجلد‭ ‬وملمسه،‭ ‬تختفي‭ ‬الندوب‭ ‬والجرح‭ ‬رويدًا‭ ‬رويدًا،‭ ‬حتى‭ ‬انتهى‭ ‬وجوده‭ ‬تمامًا‭.‬

‭- ‬أظن‭ ‬أنك‭ ‬راضية،‭ ‬يقولها‭ ‬الطبيب‭ ‬وهو‭ ‬يدعك‭ ‬فخذي‭ ‬بجل‭ ‬وردي‭ ‬ناعم‭. ‬تتسع‭ ‬ابتسامتي‭ ‬وأهز‭ ‬رأسي‭ ‬موافقة‭.‬

يرفع‭ ‬ملابسي‭ ‬ويعري‭ ‬بطني‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سؤالي،‭ ‬غير‭ ‬عابئ‭ ‬بنظرة‭ ‬الاعتراض‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬بشراسة‭ ‬على‭ ‬وجهي‭. ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬بطني‭ ‬تحت‭ ‬الكشاف‭ ‬العملاق‭ ‬الذي‭ ‬قرَّبه‭ ‬من‭ ‬جسمي‭ ‬نصف‭ ‬العاري‭ ‬الراقد‭ ‬في‭ ‬توتر‭ ‬أمامه‭.‬

‭- ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬نعالج‭ ‬هذه‭ ‬التشققات‭. ‬

يقولها‭ ‬وهو‭ ‬يمرر‭ ‬أصبعه‭ ‬فوق‭ ‬جانبي‭ ‬بطني‭ ‬من‭ ‬اليمين‭ ‬لليسار،‭ ‬متحسسًا‭ ‬الآثار‭ ‬المتخلفة‭ ‬من‭ ‬العملية‭ ‬القيصرية،‭ ‬متسائلاً‭ ‬عن‭ ‬تاريخها‭.‬

‭- ‬نحتاج‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الجلسات‭ ‬لإخفاء‭ ‬هذا‭ ‬وعلاج‭ ‬السليوليت‭. ‬قالها‭ ‬وأطفأ‭ ‬كشافه‭ ‬العملاق‭ ‬الفاضح‭ ‬مكملاً‭ ‬في‭ ‬تأكيد‭: ‬‮«‬لك‭ ‬جسد‭ ‬يجب‭ ‬احترامه‮»‬‭. ‬اتسعت‭ ‬ابتسامتي‭ ‬وهززت‭ ‬رأسي‭ ‬بالموافقة،‭ ‬ووعدته‭ ‬بأن‭ ‬أعود‭ ‬لاستكمال‭ ‬ما‭ ‬بدأناه‭ ‬قريبًا‭.‬

أعود‭ ‬للبيت‭ ‬كطفل‭ ‬أنهى‭ ‬يومه‭ ‬الدراسي‭ ‬الأول،‭ ‬أقف‭ ‬أمام‭ ‬المرآة‭ ‬أتفحص‭ ‬فخذي‭ ‬وقد‭ ‬التأمت‭ ‬جروحها‭ ‬وبان‭ ‬جلدها‭ ‬جديدًا‭ ‬متماسكًا‭ ‬نضرًا‭. ‬أرفع‭ ‬فستاني‭ ‬لأنظر‭ ‬نحو‭ ‬بطني‭ ‬لأراه‭ ‬كجدارية‭ ‬قديمة‭ ‬تشقق‭ ‬طلاؤها‭ ‬وتشرخت‭ ‬أركانها‭.‬

ظلت‭ ‬العيادة‭ ‬تغريني‭ ‬بالعروض‭ ‬المميزة‭ ‬في‭ ‬سباق‭ ‬الجمال‭ ‬والشباب‭ ‬المحموم‭ ‬والمكالمات‭ ‬الودودة‭ ‬التي‭ ‬تدعوني‭ ‬الى‭ ‬استكمال‭ ‬العلاج‭ ‬والكلام‭ ‬الهادئ‭ ‬والوعود‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتم‭.‬

عدت‭ ‬إلى‭ ‬العيادة‭ ‬بعد‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭. ‬بدا‭ ‬المكان‭ ‬حميميًّا‭. ‬تزوجت‭ ‬السكرتيرة‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬ضحكاتها‭ ‬بسيطة‭ ‬ولا‭ ‬نظراتها‭ ‬خجولة‭. ‬تتبادل‭ ‬النكات‭ ‬والضحكات‭ ‬مع‭ ‬مريض‭ ‬وزوجته‭. ‬تقدم‭ ‬لي‭ ‬فنجان‭ ‬قهوة‭ ‬وتخبرني‭ ‬أن‭ ‬دوري‭ ‬قريب‭.‬

ولما‭ ‬دخلت‭ ‬إلى‭ ‬الطبيب‭ ‬في‭ ‬غرفته‭ ‬صافحني‭ ‬بطريقة‭ ‬ودودة‭ ‬ليسألني‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬زيارتي،‭ ‬فأخبره‭ ‬بما‭ ‬أريد‭ ‬في‭ ‬اقتضاب،‭ ‬ويؤكد‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬سيكون‭ ‬مجرد‭ ‬جلستين‭ ‬للبشرة‭ ‬لا‭ ‬مزيد‭.‬

أشعر‭ ‬بالرضا،‭ ‬ويشرق‭ ‬وجهي‭ ‬بلمسة‭ ‬لؤلؤية‭ ‬ناعمة‭. ‬يسألني‭ ‬في‭ ‬فضول‭ ‬عن‭ ‬تشققات‭ ‬الحمل‭ ‬المحفورة‭ ‬في‭ ‬بطني،‭ ‬أجيبه‭ ‬بلا‭ ‬اكتراث‭: ‬‮«‬كما‭ ‬هي‮»‬‭.‬

تعكس‭ ‬نظارته‭ ‬الطبية‭ ‬نظرة‭ ‬تعجب‭. ‬أتجاهلها‭ ‬تمامًا‭ ‬وأشكره‭ ‬لأخرج‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬الصاخبة‭. ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬الوجوه‭ ‬من‭ ‬حولي،‭ ‬تتواصل‭ ‬نظراتي‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬والسيارات‭ ‬وواجهات‭ ‬المحلات‭ ‬المزدحمة‭ ‬بالبضائع‭ ‬والأسعار‭ ‬دون‭ ‬مُشترٍ‭ ‬حقيقي‭. ‬

أقف‭ ‬أمام‭ ‬مرآتي‭ ‬أتامل‭ ‬وجهي‭ ‬وبشرتي‭ ‬المتلألئة،‭ ‬أعري‭ ‬فخذي‭ ‬لأراها‭ ‬جديدة‭ ‬بلا‭ ‬علامات‭. ‬أزيح‭ ‬ملابسي‭ ‬وأتعرى‭ ‬أمام‭ ‬المرآة،‭ ‬أكشف‭ ‬عن‭ ‬بطن‭ ‬عريض‭ ‬مرسوم‭ ‬فوقه‭ ‬خريطة‭ ‬من‭ ‬الألوان‭ ‬الغامقة‭ ‬القديمة‭ ‬وكأنها‭ ‬جبال‭ ‬خرت‭ ‬من‭ ‬قوتها‭ ‬لتتصل‭ ‬مع‭ ‬وادٍ‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬العضلات‭ ‬المشقوقة‭ ‬عرضيًّا‭ ‬بسكين‭ ‬حاد‭ ‬رفيع‭.‬

شبكة‭ ‬من‭ ‬الألوان‭ ‬القديمة‭ ‬تترك‭ ‬فوق‭ ‬بطني‭ ‬لوحة‭ ‬مختلطة‭ ‬الملامح‭. ‬أنقل‭ ‬عيني‭ ‬بين‭ ‬صورتي‭ ‬الجديدة‭ ‬المنعكسة‭ ‬في‭ ‬المرآة‭ ‬وصورة‭ ‬زفافي‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬تراقبني‭ ‬فوق‭ ‬ركن‭ ‬المرآة‭ ‬نفسها،‭ ‬للفتاة‭ ‬التي‭ ‬كنتها‭ ‬يومًا‭ ‬ما‭ ‬رشيقة‭ ‬بيضاء‭ ‬في‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬بينما‭ ‬تنظر‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬خيال‭ ‬المرآة‭ ‬أم‭ ‬خمسينية‭ ‬مترهلة‭ ‬المواضع،‭ ‬تكاد‭ ‬ابنتها‭ ‬تفارقها‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬زوجها‭. ‬أمرر‭ ‬أصابعي‭ ‬فوق‭ ‬الشروخ‭ ‬والعلامات،‭ ‬أتخيل‭ ‬إصبعي‭ ‬فأرًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬يعبر‭ ‬تيه‭ ‬العمر‭ ‬عبر‭ ‬شقوق‭ ‬الولادة‭ ‬القيصرية‭. ‬شقوق‭ ‬حفرها‭ ‬الحب‭ ‬والحنان‭ ‬والوجع‭ ‬الممزوج‭ ‬بالمتعة‭ ‬والألم‭. ‬شقوق‭ ‬تخبرني‭ ‬أن‭ ‬العمر‭ ‬لم‭ ‬يذهب،‭ ‬بل‭ ‬باقٍ‭ ‬ما‭ ‬أحببت‭ ‬بقاءه‭. ‬أبتسم‭ ‬لنفسي‭ ‬في‭ ‬المرآة‭ ‬وأرتدي‭ ‬ملابس‭ ‬مريحة‭.‬

أدخل‭ ‬إلى‭ ‬المطبخ‭ ‬مسرعة‭ ‬لأضع‭ ‬الطعام‭ ‬في‭ ‬موعده‭ ‬وأُخفي‭ ‬آثار‭ ‬العلب‭ ‬الكرتونية‭ ‬والشنطة‭ ‬البلاستيكية‭ ‬جيدًا‭ ‬لأتفادى‭ ‬إفساد‭ ‬جلسة‭ ‬بشرتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬وشعوري‭ ‬بالذنب‭ ‬لأسعار‭ ‬الوجبات‭ ‬الجاهزة‭ ‬التي‭ ‬تخرب‭ ‬وزني،‭ ‬وأذكر‭ ‬نفسي‭ ‬بأنني‭ ‬اليوم‭ ‬سأبتهج‭ ‬لكل‭ ‬شيء‭ ‬يُسعدني‭. ‬لن‭ ‬أسعى‭ ‬وراء‭ ‬أي‭ ‬منغص‭. ‬ولن‭ ‬أهتم‭. ‬وغدًا‭ ‬ربما‭ ‬أبدأ‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬أسأل‭ ‬نفسي‭ ‬كيف‭ ‬مر‭ ‬كل‭ ‬هذا؟

{‭ ‬قاصة‭ ‬مصرية‭ ‬مغتربة‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا