العدد : ١٧٣١٩ - السبت ٢٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣١٩ - السبت ٢٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ صفر ١٤٤٧هـ

الكواليس

وفاء جناحي

waffajanahi@gmail.com

رحل الغالي

رحل‭ ‬اكثر‭ ‬انسان‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬الحياة‭ ‬ويعشق‭ ‬مهنته‭... ‬رحل‭ ‬الرجل‭ ‬المعروف‭ ‬بطيبته‭ ‬وخفة‭ ‬دمه‭ ‬وابتسامته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ولم‭ ‬تفارق‭ ‬وجهه‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬الموت،‭ ‬رحل‭ ‬وترك‭ ‬وجع‭ ‬فراقه‭ ‬في‭ ‬قلوبنا،‭ ‬رحل‭ ‬والدي‭ ‬الغالي‭ ‬يوسف‭ ‬حسن‭ ‬جناحي‭ ‬صاحب‭ ‬الباص‭ ‬الذي‭ ‬ركب‭ ‬معه‭ ‬تقريبا‭ ‬ثلاثة‭ ‬ارباع‭ ‬سكان‭ ‬الحورة‭ ‬والقضيبية‭ ‬والمنامة‭ ‬ومعظم‭ ‬مدن‭ ‬البحرين‭ ‬ايام‭ ‬جيل‭ ‬الطيبين،‭ ‬رحل‭ ‬وترك‭ ‬لنا‭ ‬ميراثا‭ ‬رائعا‭ ‬من‭ ‬السمعة‭ ‬الطيبة‭ ‬ومحبة‭ ‬الناس‭ ‬له‭.‬

رحل‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬يضحك‭ ‬دائما،‭ ‬غضبه‭ ‬وحزنه‭ ‬لا‭ ‬يستمران‭ ‬اكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬ساعة،‭ ‬اما‭ ‬حبه‭ ‬للباصات‭ ‬وسياقة‭ ‬السيارات‭ ‬فقد‭ ‬استمر‭ ‬معه‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬عمره‭ ‬وهو‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬واسطة‭ ‬لتجديد‭ ‬رخصة‭ ‬سياقته‭ ‬لانه‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬ان‭ ‬يسوق‭ ‬سيارة،‭ ‬فهو‭ ‬سائق‭ ‬متمرس‭ ‬مدة‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬الخمسين‭ ‬عاما‭ ‬فكيف‭ ‬لن‭ ‬يُسمح‭ ‬له‭ ‬بالسياقة‭ ‬الان‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬التسعين؟‭ ‬اقسم‭ ‬ان‭ ‬الرجل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يغضب‭ ‬ولا‭ ‬تختفي‭ ‬الابتسامة‭ ‬من‭ ‬وجهه‭ ‬الا‭ ‬عندما‭ ‬نقول‭ ‬له‭ ‬إننا‭ ‬حاولنا‭ ‬ولكن‭ ‬القانون‭ ‬يمنع‭ ‬تجديد‭ ‬رخصته‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السن،‭ ‬فيصرخ‭ ‬ويقول‭: (‬ودوني‭ ‬المرور‭ ‬سأدخل‭ ‬على‭ ‬الضابط‭ ‬واطلب‭ ‬منه‭ ‬شخصيا‭) ‬وسأقول‭ ‬لهم‭ ‬انظروا‭ ‬الى‭ ‬عضلاتي‭ ‬القوية‭ ‬فأنا‭ ‬مازلت‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬قواي‭ ‬الصحية‭ ‬والعقلية،‭ ‬وعندما‭ ‬اخذناه‭ ‬وقال‭ ‬له‭ ‬المسؤول‭ ‬بكل‭ ‬أدب‭: ‬ان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬القانون‭... ‬لم‭ ‬يقتنع‭ ‬واتهمنا‭ ‬بأننا‭ ‬طلبنا‭ ‬منه‭ ‬ان‭ ‬يرفض‭ ‬خوفا‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الحوادث‭.‬

في‭ ‬حياتي‭ ‬كلها‭ ‬لم‭ ‬اقابل‭ ‬انسانا‭ ‬يحب‭ ‬مهنته‭ ‬كوالدي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يتكلم‭ ‬عن‭ ‬مغامراته‭ ‬ورحلاته‭ ‬واصحابه‭ ‬سائقي‭ ‬الباصات‭ ‬طوال‭ ‬عمره،‭ ‬كما‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬انسانا‭ ‬مرحا‭ ‬يكره‭ ‬الحزن،‭ ‬تعلمت‭ ‬منه‭ ‬كيف‭ ‬أحب‭ ‬الحياة‭ ‬واستمتع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬وان‭ ‬أضحك‭ ‬دائما‭ ‬ولا‭ ‬ادع‭ ‬اي‭ ‬مشكلة‭ ‬امر‭ ‬بها‭ ‬تؤثر‭ ‬على‭ ‬نفسيتي،‭ ‬وكانت‭ ‬جملته‭ ‬الوحيدة‭ (‬كل‭ ‬انسان‭ ‬له‭ ‬يومه‭ ‬وانا‭ ‬يومي‭ ‬للحين،‭ ‬بقي‭ ‬لي‭ ‬15‭ ‬سنة‭).‬

ذكرياتي‭ ‬معه‭ ‬كلها‭ ‬مرح‭ ‬وضحك‭ ‬لانه‭ ‬ترك‭ ‬حل‭ ‬مشاكل‭ ‬البيت‭ ‬للوالدة‭ ‬واخي‭ ‬الكبير‭ ‬اما‭ ‬هو‭ ‬فعليه‭ ‬ان‭ ‬يوفر‭ ‬لنا‭ ‬لقمة‭ ‬العيش،‭ ‬اتذكر‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬يصحو‭ ‬على‭ ‬اذان‭ ‬الفجر،‭ ‬ثم‭ ‬يتوجه‭ ‬الى‭ ‬المسجد‭ ‬ثم‭ ‬نسمعه‭ ‬في‭ ‬المطبخ‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬يجلب‭ ‬لنا‭ ‬الخبز‭ ‬الساخن‭ ‬والنخي‭ ‬والباجلة‭ ‬وهو‭ ‬يعد‭ ‬لنفسه‭ ‬فطوره‭ ‬المعتاد‭ (‬باجة‭ ‬الكراعين‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعشقها‭ ‬ويطلبها‭ ‬لآخر‭ ‬يوم‭)‬،‭ ‬واحيانا‭ ‬كان‭ ‬يعد‭ ‬لنفسه‭ ‬البيض‭ ‬وشاي‭ ‬الحليب‭ ‬وينادي‭ ‬علينا‭ ‬جميعا‭ ‬لنستيقظ‭ ‬للمدرسة،‭ ‬ثم‭ ‬يخرج‭ ‬ليغسل‭ ‬وينظف‭ ‬ويدلع‭ ‬حبيبته‭ (‬الباص‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يعشق‭ ‬باصاته‭ ‬ويعاملها‭ ‬معاملة‭ ‬الحبيبة‭ ‬ولن‭ ‬انسى‭ ‬ابدا‭ ‬وجهه‭ ‬يوم‭ ‬قرر‭ ‬اخيرا‭ ‬ان‭ ‬يبيع‭ ‬آخر‭ ‬باص‭ ‬له‭ ‬ويقرر‭ ‬اعتزال‭ ‬مهنته،‭ ‬فهذا‭ ‬كان‭ ‬اليوم‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬رأيت‭ ‬فيه‭ ‬الحزن‭ ‬الحقيقي‭ ‬علي‭ ‬وجهه‭ ‬وملامحه‭. ‬ولكن‭ ‬الابتسامة‭ ‬عادت‭ ‬الى‭ ‬وجهه‭ ‬وحياته‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬اشترى‭ ‬لنفسه‭ ‬سيارة‭ ‬صغيرة،‭ ‬نعم‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يتحملون‭ ‬الجلوس‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬مدة‭ ‬طويلة‭ ‬بل‭ ‬يخرج‭ ‬هو‭ ‬والوالدة‭ ‬لقضاء‭ ‬احتياجات‭ ‬المنزل‭.‬

وحبه‭ ‬لمهنته‭ ‬جعلني‭ ‬افتخر‭ ‬به‭ ‬أينما‭ ‬اذهب‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬يسألني‭ ‬عن‭ ‬اي‭ ‬فرع‭ ‬من‭ ‬الجناحي‭ ‬اقول‭ ‬له‭ ‬انا‭ ‬ابنة‭ ‬يوسف‭ ‬جناحي‭ (‬بستي‭) ‬راعي‭ ‬الباص‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬القضيبية،‭ ‬كما‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬ينقل‭ ‬طلبة‭ ‬مدارس‭ ‬الفندقة‭ ‬فيعرفه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬البحرين‭ ‬ويحبونه‭ ‬كثيرا‭ ‬لانه‭ ‬مرح‭ ‬مع‭ ‬الجميع،‭ ‬ومازلت‭ ‬اتذكر‭ ‬وجه‭ ‬احدى‭ ‬زميلاتي‭ ‬والتي‭ ‬نصحتني‭ ‬الا‭ ‬أبوح‭ ‬بوظيفة‭ ‬او‭ ‬مهنة‭ ‬والدي‭ ‬كسائق‭ ‬باص‭ ‬لمن‭ ‬يسألني‭ ‬وخصوصا‭ ‬من‭ ‬المسؤولين‭ ‬لأنني‭ ‬اصبحت‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الصحافة‭ ‬ولكنني‭ ‬نظرت‭ ‬إليها‭ ‬وقلت‭ ‬لها‭ ‬انا‭ ‬افتخر‭ ‬بأن‭ ‬راعي‭ ‬الباص‭ (‬اللي‭ ‬مو‭ ‬عاجبج‭) ‬رباني‭ ‬وجعلني‭ ‬وفاء‭ ‬جناحي‭ ‬صاحبة‭ ‬عمود‭ ‬الكواليس‭ ‬وانه‭ ‬غرس‭ ‬حب‭ ‬مهنتي‭ ‬في‭ ‬دمي‭. ‬واقولها‭ ‬دائما‭ ‬بكل‭ ‬فخر‭ ‬انا‭ ‬ابنة‭ ‬أشهر‭ ‬راعي‭ ‬باص‭ ‬في‭ ‬البحرين‭.‬

رحل‭ ‬والدي‭ ‬واخر‭ ‬مكالمة‭ ‬لي‭ ‬معه‭ ‬كنت‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬وهو‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬المستشفى‭ ‬طالبني‭ ‬وهو‭ ‬يضحك‭ ‬وجهاز‭ ‬التنفس‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬ان‭ ‬اجلب‭ ‬له‭ ‬رخصة‭ ‬سياقة‭ ‬من‭ ‬تركيا‭ ‬وسيارة‭ ‬صغيرة‭ ‬يروح‭ ‬فيها‭ ‬الى‭ ‬المسجد‭ ‬كل‭ ‬صباح‭.‬

رحلت‭ ‬يا‭ ‬ابي‭ ‬ولكنني‭ ‬اشعر‭ ‬بروحك‭ ‬المرحة‭ ‬واسمع‭ ‬ضحكاتك‭ ‬ونكتك‭ ‬كلما‭ ‬ادخل‭ ‬بيتك‭..  ‬رحلت‭ ‬وتركت‭ ‬ذكريات‭ ‬جميلة‭ ‬في‭ ‬قلوبنا‭ ‬وقلوب‭ ‬كل‭ ‬المتابعين‭ ‬الذين‭ ‬احبوك‭ ‬خلال‭ ‬الفيديوهات‭ ‬التي‭ ‬تضحك‭ ‬فيها‭.‬

رحمك‭ ‬الله‭ ‬يا‭ ‬أبي‭ ‬ويغمد‭ ‬روحك‭ ‬الجنة‭ ‬يا‭ ‬رب‭. ‬وسأظل‭ ‬ابتسم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬اتذكرك‭ ‬فيها‭.‬

إقرأ أيضا لـ"وفاء جناحي"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا