تخيّل أنك في طائرة تنتظر الإقلاع، وفجأة يطل القبطان عبر الميكروفون قائلاً بنبرة واثقة: «مساء الخير أعزائي، هذه أول مرة أقود فيها طائرة لكن لا تقلقوا.. أنا بارع في لعبة الطيران على البلاي ستيشن وقد أنهيت جميع المراحل بنجاح» ينظر الركاب إلى بعضهم بين ضحكات متوترة وارتباك، بعضهم يبحث عن باب الطوارئ، وآخرون يلتقطون صوراً وكأنهم في مغامرة غير محسوبة. كلمات القبطان خرجت بثقة مفرطة كأنها ابتسامة عريضة تملأ المقصورة من دون أن تُرى. قد يبدو المشهد نكتة، لكنه في الحقيقة يشبه تماماً ما يحدث في بعض المؤسسات حين يجلس الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب.
في تلك اللحظة تتحول المنظومة إلى طائرة معلّقة بين السماء والأرض. الاجتماعات تشبه تعليمات السلامة، تُكرر بحماس لكنها لا تُستخدم فعلياً. القرارات تُتخذ بعفوية وكأنها أوامر ملاحة، لكن لا أحد يعرف إلى أين ستقود. أما الموظفون فهم الركاب الذين يبدون متماسكين من الخارج لكنهم في داخلهم يرددون: «يا رب سترك.. إلى أين سنتجه هذه المرة».
اللافت أن هؤلاء «القباطنة الإداريين» عادة ما يتمتعون بثقة لا تهتز.. يتحدثون عن الرؤية والرسالة والاستراتيجيات وكأنهم صاغوا نظريات الإدارة الحديثة بأنفسهم، بينما الفريق من حولهم يقضي وقته في إصلاح القرارات أو تلطيف آثارها أو إيجاد حلول تُبقي الطائرة في الجو.. ومع مرور الوقت يتشكل ما يشبه «شبكة إنقاذ» غير رسمية، مهمتها الأساسية منع الانهيار لا تحقيق التميز.
لكن حتى شبكة الإنقاذ هذه تنقسم إلى مجموعات.. فريق يبذل جهدا مضاعفا لتدارك القصور، وآخر متردد لا يلبي وثالث يقبع في زاوية ينتظر الفرج.. وهكذا يتحول الهدف من بلوغ محطة جديدة إلى مجرد محاولة منع الرحلة من السقوط.. وتصبح الجهة أشبه برحلة مضطربة غايتها البقاء في الجو أكثر من الوصول إلى مقصد واضح.
وماذا لو كان هذا «غير المناسب» متسلطاً بحكم المنصب؟ هنا تتحول القصة من طائرة مرتبكة إلى رحلة عاصفة.. لا يكتفي بالجهل، بل يضيف إليه صوتاً مرتفعاً وقرارات اعتباطية، فيرهب من حوله بدل أن يقودهم. ويلاه من بيئة عمل تُدار بالخوف لا بالثقة، وبالأوامر لا بالقدوة. فحين يجتمع غياب الكفاءة مع نزعة التسلط لا يبقى أمام الفريق سوى خيارين: إما مسايرة المسرحية أو الاحتماء بالصمت حتى تمر العاصفة. وفي الحالتين يضيع المقصد الأهم: خدمة المؤسسة وتحقيق أثرها الحقيقي.
ومع ذلك ليست الصورة كلها سوداء. فقد أثبتت التجارب أن بعض من جلسوا في مواقع لا تناسبهم استطاعوا تحقيق إنجازات مؤثرة.. السر لم يكن في مؤهلاتهم أو خبراتهم وحدها، وإنما في امتلاكهم مهارات ناعمة أنقذتهم: ذكاء عاطفي، مرونة في التعلم، واحترام حقيقي لعقول الآخرين. هؤلاء أدركوا أن الطريق لكسب الملفات يمر أولاً عبر كسب الفريق، وأن الانسجام والثقة قد يعوضان أحياناً نقص الأدوات الفنية.
هنا يظهر دور الكيان الواعي. فهو لا يكتفي باللوم أو النقد، بل يستثمر في تطوير مهارات موظفيه، ويمنحهم التدريب والفرص، ويعزز فيهم قيم التقدير والاحترام. فالمؤسسة التي تهيئ بيئة للنمو قد تحوّل من اعتُبر يوماً «اختياراً خاطئاً» إلى قصة نجاح ملهمة. أما الجهات التي تكتفي بملء المقاعد فإنها لا تنتج سوى نفس الكوميديا الإدارية المملة: كرسي أنيق يشغله شخص غير مناسب، وواقع باهت يزداد ابتعاداً عن الطموحات.
والمفارقة الكبرى أن الخلل لا يكمن في الفرد وحده، بل في قرار المنظومة أن تتركه هناك ومع ذلك يبقى الأمل قائماً، فحتى من بدا يوماً غير مناسب قد يصبح ملائماً إذا امتلك الوعي والمرونة، وتعلم أن القيادة ليست لعبة ولا لقباً، وإنما مسؤولية تبدأ باحترام الآخرين وتنتهي بقدرة حقيقية على تحويل الموقع من عبء إداري إلى منصة إنتاج حقيقي تصنع الفرق.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك