العدد : ١٧٣١٧ - الخميس ٢١ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٧ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣١٧ - الخميس ٢١ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٧ صفر ١٤٤٧هـ

مقالات

الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب

بقلم: عبير محمد دهام

الثلاثاء ١٩ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

تخيّل‭ ‬أنك‭ ‬في‭ ‬طائرة‭ ‬تنتظر‭ ‬الإقلاع،‭ ‬وفجأة‭ ‬يطل‭ ‬القبطان‭ ‬عبر‭ ‬الميكروفون‭ ‬قائلاً‭ ‬بنبرة‭ ‬واثقة‭: ‬‮«‬مساء‭ ‬الخير‭ ‬أعزائي،‭ ‬هذه‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬أقود‭ ‬فيها‭ ‬طائرة‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬تقلقوا‭.. ‬أنا‭ ‬بارع‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬الطيران‭ ‬على‭ ‬البلاي‭ ‬ستيشن‭ ‬وقد‭ ‬أنهيت‭ ‬جميع‭ ‬المراحل‭ ‬بنجاح‮»‬‭ ‬ينظر‭ ‬الركاب‭ ‬إلى‭ ‬بعضهم‭ ‬بين‭ ‬ضحكات‭ ‬متوترة‭ ‬وارتباك،‭ ‬بعضهم‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬باب‭ ‬الطوارئ،‭ ‬وآخرون‭ ‬يلتقطون‭ ‬صوراً‭ ‬وكأنهم‭ ‬في‭ ‬مغامرة‭ ‬غير‭ ‬محسوبة‭. ‬كلمات‭ ‬القبطان‭ ‬خرجت‭ ‬بثقة‭ ‬مفرطة‭ ‬كأنها‭ ‬ابتسامة‭ ‬عريضة‭ ‬تملأ‭ ‬المقصورة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تُرى‭. ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬المشهد‭ ‬نكتة،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬يشبه‭ ‬تماماً‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المؤسسات‭ ‬حين‭ ‬يجلس‭ ‬الشخص‭ ‬غير‭ ‬المناسب‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬غير‭ ‬المناسب‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬تتحول‭ ‬المنظومة‭ ‬إلى‭ ‬طائرة‭ ‬معلّقة‭ ‬بين‭ ‬السماء‭ ‬والأرض‭. ‬الاجتماعات‭ ‬تشبه‭ ‬تعليمات‭ ‬السلامة،‭ ‬تُكرر‭ ‬بحماس‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تُستخدم‭ ‬فعلياً‭. ‬القرارات‭ ‬تُتخذ‭ ‬بعفوية‭ ‬وكأنها‭ ‬أوامر‭ ‬ملاحة،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬ستقود‭. ‬أما‭ ‬الموظفون‭ ‬فهم‭ ‬الركاب‭ ‬الذين‭ ‬يبدون‭ ‬متماسكين‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬لكنهم‭ ‬في‭ ‬داخلهم‭ ‬يرددون‭: ‬‮«‬يا‭ ‬رب‭ ‬سترك‭.. ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬سنتجه‭ ‬هذه‭ ‬المرة‮»‬‭.‬

اللافت‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬‮«‬القباطنة‭ ‬الإداريين‮»‬‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يتمتعون‭ ‬بثقة‭ ‬لا‭ ‬تهتز‭.. ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬الرؤية‭ ‬والرسالة‭ ‬والاستراتيجيات‭ ‬وكأنهم‭ ‬صاغوا‭ ‬نظريات‭ ‬الإدارة‭ ‬الحديثة‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬بينما‭ ‬الفريق‭ ‬من‭ ‬حولهم‭ ‬يقضي‭ ‬وقته‭ ‬في‭ ‬إصلاح‭ ‬القرارات‭ ‬أو‭ ‬تلطيف‭ ‬آثارها‭ ‬أو‭ ‬إيجاد‭ ‬حلول‭ ‬تُبقي‭ ‬الطائرة‭ ‬في‭ ‬الجو‭.. ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬يتشكل‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬‮«‬شبكة‭ ‬إنقاذ‮»‬‭ ‬غير‭ ‬رسمية،‭ ‬مهمتها‭ ‬الأساسية‭ ‬منع‭ ‬الانهيار‭ ‬لا‭ ‬تحقيق‭ ‬التميز‭.‬

لكن‭ ‬حتى‭ ‬شبكة‭ ‬الإنقاذ‭ ‬هذه‭ ‬تنقسم‭ ‬إلى‭ ‬مجموعات‭.. ‬فريق‭ ‬يبذل‭ ‬جهدا‭ ‬مضاعفا‭ ‬لتدارك‭ ‬القصور،‭ ‬وآخر‭ ‬متردد‭ ‬لا‭ ‬يلبي‭ ‬وثالث‭ ‬يقبع‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬ينتظر‭ ‬الفرج‭.. ‬وهكذا‭ ‬يتحول‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬بلوغ‭ ‬محطة‭ ‬جديدة‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬محاولة‭ ‬منع‭ ‬الرحلة‭ ‬من‭ ‬السقوط‭.. ‬وتصبح‭ ‬الجهة‭ ‬أشبه‭ ‬برحلة‭ ‬مضطربة‭ ‬غايتها‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬الجو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مقصد‭ ‬واضح‭.‬

وماذا‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬غير‭ ‬المناسب‮»‬‭ ‬متسلطاً‭ ‬بحكم‭ ‬المنصب؟‭ ‬هنا‭ ‬تتحول‭ ‬القصة‭ ‬من‭ ‬طائرة‭ ‬مرتبكة‭ ‬إلى‭ ‬رحلة‭ ‬عاصفة‭.. ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بالجهل،‭ ‬بل‭ ‬يضيف‭ ‬إليه‭ ‬صوتاً‭ ‬مرتفعاً‭ ‬وقرارات‭ ‬اعتباطية،‭ ‬فيرهب‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يقودهم‭. ‬ويلاه‭ ‬من‭ ‬بيئة‭ ‬عمل‭ ‬تُدار‭ ‬بالخوف‭ ‬لا‭ ‬بالثقة،‭ ‬وبالأوامر‭ ‬لا‭ ‬بالقدوة‭. ‬فحين‭ ‬يجتمع‭ ‬غياب‭ ‬الكفاءة‭ ‬مع‭ ‬نزعة‭ ‬التسلط‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬أمام‭ ‬الفريق‭ ‬سوى‭ ‬خيارين‭: ‬إما‭ ‬مسايرة‭ ‬المسرحية‭ ‬أو‭ ‬الاحتماء‭ ‬بالصمت‭ ‬حتى‭ ‬تمر‭ ‬العاصفة‭. ‬وفي‭ ‬الحالتين‭ ‬يضيع‭ ‬المقصد‭ ‬الأهم‭: ‬خدمة‭ ‬المؤسسة‭ ‬وتحقيق‭ ‬أثرها‭ ‬الحقيقي‭.‬

ومع‭ ‬ذلك‭ ‬ليست‭ ‬الصورة‭ ‬كلها‭ ‬سوداء‭. ‬فقد‭ ‬أثبتت‭ ‬التجارب‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬جلسوا‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬لا‭ ‬تناسبهم‭ ‬استطاعوا‭ ‬تحقيق‭ ‬إنجازات‭ ‬مؤثرة‭.. ‬السر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬مؤهلاتهم‭ ‬أو‭ ‬خبراتهم‭ ‬وحدها،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬امتلاكهم‭ ‬مهارات‭ ‬ناعمة‭ ‬أنقذتهم‭: ‬ذكاء‭ ‬عاطفي،‭ ‬مرونة‭ ‬في‭ ‬التعلم،‭ ‬واحترام‭ ‬حقيقي‭ ‬لعقول‭ ‬الآخرين‭. ‬هؤلاء‭ ‬أدركوا‭ ‬أن‭ ‬الطريق‭ ‬لكسب‭ ‬الملفات‭ ‬يمر‭ ‬أولاً‭ ‬عبر‭ ‬كسب‭ ‬الفريق،‭ ‬وأن‭ ‬الانسجام‭ ‬والثقة‭ ‬قد‭ ‬يعوضان‭ ‬أحياناً‭ ‬نقص‭ ‬الأدوات‭ ‬الفنية‭.‬

هنا‭ ‬يظهر‭ ‬دور‭ ‬الكيان‭ ‬الواعي‭. ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬باللوم‭ ‬أو‭ ‬النقد،‭ ‬بل‭ ‬يستثمر‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬مهارات‭ ‬موظفيه،‭ ‬ويمنحهم‭ ‬التدريب‭ ‬والفرص،‭ ‬ويعزز‭ ‬فيهم‭ ‬قيم‭ ‬التقدير‭ ‬والاحترام‭. ‬فالمؤسسة‭ ‬التي‭ ‬تهيئ‭ ‬بيئة‭ ‬للنمو‭ ‬قد‭ ‬تحوّل‭ ‬من‭ ‬اعتُبر‭ ‬يوماً‭ ‬‮«‬اختياراً‭ ‬خاطئاً‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬قصة‭ ‬نجاح‭ ‬ملهمة‭. ‬أما‭ ‬الجهات‭ ‬التي‭ ‬تكتفي‭ ‬بملء‭ ‬المقاعد‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬تنتج‭ ‬سوى‭ ‬نفس‭ ‬الكوميديا‭ ‬الإدارية‭ ‬المملة‭: ‬كرسي‭ ‬أنيق‭ ‬يشغله‭ ‬شخص‭ ‬غير‭ ‬مناسب،‭ ‬وواقع‭ ‬باهت‭ ‬يزداد‭ ‬ابتعاداً‭ ‬عن‭ ‬الطموحات‭.‬

والمفارقة‭ ‬الكبرى‭ ‬أن‭ ‬الخلل‭ ‬لا‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬الفرد‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬قرار‭ ‬المنظومة‭ ‬أن‭ ‬تتركه‭ ‬هناك‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يبقى‭ ‬الأمل‭ ‬قائماً،‭ ‬فحتى‭ ‬من‭ ‬بدا‭ ‬يوماً‭ ‬غير‭ ‬مناسب‭ ‬قد‭ ‬يصبح‭ ‬ملائماً‭ ‬إذا‭ ‬امتلك‭ ‬الوعي‭ ‬والمرونة،‭ ‬وتعلم‭ ‬أن‭ ‬القيادة‭ ‬ليست‭ ‬لعبة‭ ‬ولا‭ ‬لقباً،‭ ‬وإنما‭ ‬مسؤولية‭ ‬تبدأ‭ ‬باحترام‭ ‬الآخرين‭ ‬وتنتهي‭ ‬بقدرة‭ ‬حقيقية‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬الموقع‭ ‬من‭ ‬عبء‭ ‬إداري‭ ‬إلى‭ ‬منصة‭ ‬إنتاج‭ ‬حقيقي‭ ‬تصنع‭ ‬الفرق‭.‬

 

مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا