واحدة من تجارب السفر ذات الصفة الثقافية التي عـادة لا يعيش تجربتها سوى الكاتب وتبقى عالقة في ذاكـرته مهما تصرمت الأعـوام كونها تضعه في مناخ محـدد الملامح بحسب ظـروف البلـد الذي يسافر إليه من دون أدنى شـك.
فـذات يوم من شتاء عـام 2009 تلقيت دعـوة من دولة عـربية للمشاركة في ملتقى قصصي فحزمت حقيبة السفر ورتبت كل ما أحتاج إليه وفي اللحظات الأخيرة تذكرت أنني نسيت شراء «بنادول»، سألت نفسي يومها، وهل سأحتاج علبـة بأكملها؟ دسيت العلبـة في جوف حقيبة السفر ولم أطـل التفكير.
وصلت إلى تلك الأرض الطيبة بسلام فلقيت وجوهًـا طيبة تستقبلني بكل ترحاب، توقعت بأن أجد أمامي فندقًـا كبيرًا ككتلة خرسانية ضخمة لكن ثمة حافلة صغيرة اخذتنا في طريق طويل مدة ساعـتين من الزمن، حتى أخذ صوت محرك الحافلة بإيقاعه الرتيب يسبب لي الصداع، فأخذت حبة من علبتي. لم أفطـن إلى جاري في المقعد والذي لم أتعرف عليه بعد، كرجل في منتصف عقده السادس، فكان يحدق في علبتي الحمراء وقبل أن أدسها في جوف حقيبتي أستأذن مني بلطف إن كان الدواء مسكن ألم أجنبي؟
اكدت له ذلك، مسكن بريطاني ممتاز فأعطيته حبتين، ثم ابتسم في شيء من الإحراج المتصنع وقد برزت تلك الفجوات المظلمة في فكـه، مسكين فقد نصف فكه العلوي.. طلب مضاعفة الجرعـة فأعطيته أربع حبات، وماذا يعني أن أكون كريمًا بمسكن ألم عـادي يباع لدينا في دكاكين الحي بسعر زهيد؟!
ها نحن نبلغ مكان السكن، لم يكن فندقًـا بل مركزًا ثقافيًا من طراز قديـم ولكن نظيف يحتضن ساكنيه بود ورحابة صدر، كان كالبيت الحنون بدفئه الجميل. قضينا ما تبقى من نهار ذاك اليوم في التعارف ثم تم فصل الرجال في جناح خاص متصل بصالة كبيرة تقع من بعدها المساحة المخصصة للنساء.
كنت محبطا بعض الشيء، فإن يكون لك سرير وسط حجرة كبيرة وتكون أنت ما بين الجدران رقم سبعة أمرٌ يبعث على الضجر، لكن لا مناص من الظرف الواقع بثقله على المرء حيث يسلم أمره لله. أوه هذا جاري ذاك الستيني يبتسم وتصلني رائحة فمه الكريهة، أيعقل بأنه نسي فرشاة أسنانه قبيل السفر؟ اليوم الثاني أترقبه بفارغ الصبر واتخيلني من خلف المنصة اقرأ أفضل ما لديّ من بضاعتي السردية وأنا أرتدي عباءة دِلمون.
الحجرة للأسف يطغى عليها شخير الرجال الموسيقي الرديء، فقد كنت أنا الشاب الوحيد خارج الجوقـة وباب الحمام الجماعـي يُفتح ويُغلق فيسطع النور في وجهي فمن أين تحل عليك سكينة النوم، وفي منتصف الليل حيث تمكنت من التكيف بصعوبة مع سيمفونية الشخير الذكوري وكنت من أثر تعب الرحلة أكـاد أنام ثم... استيقظ أحدهم وهو يتألم واضعًـا يده على ركبتـه، فسأله جاري الذي يلاصق سريره عن حاله.
أخبره بأن ركبتـه اليمنى داهمتها آلام الروماتيزم وقد نسي دواءه في البيت. فتبرع جاري بالحل السريع والمجاني، قائلا.. لا تحمل همًـا أخونا أبو الشباب من البحرين لديه مسكن بريطاني ديلوكس، حبة واحدة تدعـس الألم! وعن طيب خاطر قدمت قرصين حتى يرتاح الرجل من وجعـه، بضع دقائق مرت ثم نام الرجل بسلام حتى صباح اليوم التالي.
ولما حل المساء تسابقت الوجوه على منصة السرد، جاري صاحب الأسنان المفقودة أبدع في سرده وهو يغازل الجميلات وسط صحراء رأسه القاحلة، أشفقت عليه وهو يبحث عن جنته المفقودة. أما صاحبنا الروماتيزمي فجاء سرده حزينًـا عن قرية غادرها مغتربًا وحينما عاد إليها أنكرته. أنهى فقرته ثم جاء وجلس خلفي فهمس في أذني.. أنت ولد حلال فعلا، دواؤك السحري هذا يا ليت تصرفه عندنا وزارة الصحة بدلا من منتجاتنا المحلية الرديئة، ممكن بعد إذنك تعطيني قرصين قبل النوم؟
لم أدرك ذاك اليوم أبعاد القصة التي حدثت وكان بطلها «حبوب بانادول» حيث كنت أريد التعرف على جمع الكتاب والكاتبات من حولي بينما الوجوه تنشغل بأحاديث جانبية حتى جاءت امرأة ربما تناهز الأربعين من العمر أو الثامنة الثلاثين فابتسمت وقالت: أنت الشاب البحريني صاحب مسكن الألم السحري صح؟ تصور أن أقرب صيدلية من هنا تبعد حوالي ساعة ونصف؟! ممكن تصعد معي فوق؟
ذهبت معها فهي على الأغلب ستتبادل معي بعض الكتب وهذا يروق لي أكيد.. انتظرتها في الصالة ثم جاءت وهي تحمل كتابا وقعته لي لتخبرني بأنه أول مجموعة قصصية صدرت لها. شكرتها فطلبت مني قراءة الإهداء. قرأت الإهداء الجميل بخط أناملها البيضاء المعطرة وكان ثمة ورقة صغير منفصلة مع الكتاب بها جملة مقتضبة (أحتاج دواءك السحري، دورة طمثي داهمتني اليوم بأوجاع لا تُحتمل أنقذ هذه الأنثى الحائرة أمامك). ومرة أخرى جئت بالعلبـة فأعطيتها قرصين فشهقت وقد حدقت في العلبة.. هذا دواء أجنبي! تصور لو أن الشرطة تضبط عندك علبة الدواء يترتب لك محضر وتتهم بالتهريب؟ أنا سأقبل أحميك وأكون درعا لك، فأنت ضيفنا. كدت أضحك من كلامها الحاذق المراوغ، فأخبرتها مازحًـا.. سأورطك في علبـة بحالها، فقط أحمني يا نون النسوة. احتضنت جسدي البارد، أهدتني قبلة وهي تخطف بسعادة العلبة.. فماذا فعلت بي يا «بانادول»؟!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك