العدد : ١٧٣١٤ - الاثنين ١٨ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٤ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣١٤ - الاثنين ١٨ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٤ صفر ١٤٤٧هـ

الثقافي

فنتازيا، الحالم بالمارد.. ماذا فعلت بي يا.. بنادول؟!

بقلم: أحمد المُؤذّن

السبت ١٦ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

واحدة‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬السفر‭ ‬ذات‭ ‬الصفة‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬عـادة‭ ‬لا‭ ‬يعيش‭ ‬تجربتها‭ ‬سوى‭ ‬الكاتب‭ ‬وتبقى‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬ذاكـرته‭ ‬مهما‭ ‬تصرمت‭ ‬الأعـوام‭ ‬كونها‭ ‬تضعه‭ ‬في‭ ‬مناخ‭ ‬محـدد‭ ‬الملامح‭ ‬بحسب‭ ‬ظـروف‭ ‬البلـد‭ ‬الذي‭ ‬يسافر‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬شـك‭.‬

فـذات‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬شتاء‭ ‬عـام‭ ‬2009‭ ‬تلقيت‭ ‬دعـوة‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬عـربية‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬ملتقى‭ ‬قصصي‭ ‬فحزمت‭ ‬حقيبة‭ ‬السفر‭ ‬ورتبت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أحتاج‭ ‬إليه‭ ‬وفي‭ ‬اللحظات‭ ‬الأخيرة‭ ‬تذكرت‭ ‬أنني‭ ‬نسيت‭ ‬شراء‭ ‬‮«‬بنادول‮»‬،‭ ‬سألت‭ ‬نفسي‭ ‬يومها،‭ ‬وهل‭ ‬سأحتاج‭ ‬علبـة‭ ‬بأكملها؟‭ ‬دسيت‭ ‬العلبـة‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬حقيبة‭ ‬السفر‭ ‬ولم‭ ‬أطـل‭ ‬التفكير‭.‬

وصلت‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الأرض‭ ‬الطيبة‭ ‬بسلام‭ ‬فلقيت‭ ‬وجوهًـا‭ ‬طيبة‭ ‬تستقبلني‭ ‬بكل‭ ‬ترحاب،‭ ‬توقعت‭ ‬بأن‭ ‬أجد‭ ‬أمامي‭ ‬فندقًـا‭ ‬كبيرًا‭ ‬ككتلة‭ ‬خرسانية‭ ‬ضخمة‭ ‬لكن‭ ‬ثمة‭ ‬حافلة‭ ‬صغيرة‭ ‬اخذتنا‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬طويل‭ ‬مدة‭ ‬ساعـتين‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬حتى‭ ‬أخذ‭ ‬صوت‭ ‬محرك‭ ‬الحافلة‭ ‬بإيقاعه‭ ‬الرتيب‭ ‬يسبب‭ ‬لي‭ ‬الصداع،‭ ‬فأخذت‭ ‬حبة‭ ‬من‭ ‬علبتي‭. ‬لم‭ ‬أفطـن‭ ‬إلى‭ ‬جاري‭ ‬في‭ ‬المقعد‭ ‬والذي‭ ‬لم‭ ‬أتعرف‭ ‬عليه‭ ‬بعد،‭ ‬كرجل‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬عقده‭ ‬السادس،‭ ‬فكان‭ ‬يحدق‭ ‬في‭ ‬علبتي‭ ‬الحمراء‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬أدسها‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬حقيبتي‭ ‬أستأذن‭ ‬مني‭ ‬بلطف‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬الدواء‭ ‬مسكن‭ ‬ألم‭ ‬أجنبي؟

اكدت‭ ‬له‭ ‬ذلك،‭ ‬مسكن‭ ‬بريطاني‭ ‬ممتاز‭ ‬فأعطيته‭ ‬حبتين،‭ ‬ثم‭ ‬ابتسم‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الإحراج‭ ‬المتصنع‭ ‬وقد‭ ‬برزت‭ ‬تلك‭ ‬الفجوات‭ ‬المظلمة‭ ‬في‭ ‬فكـه،‭ ‬مسكين‭ ‬فقد‭ ‬نصف‭ ‬فكه‭ ‬العلوي‭.. ‬طلب‭ ‬مضاعفة‭ ‬الجرعـة‭ ‬فأعطيته‭ ‬أربع‭ ‬حبات،‭ ‬وماذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬كريمًا‭ ‬بمسكن‭ ‬ألم‭ ‬عـادي‭ ‬يباع‭ ‬لدينا‭ ‬في‭ ‬دكاكين‭ ‬الحي‭ ‬بسعر‭ ‬زهيد؟‭!‬

ها‭ ‬نحن‭ ‬نبلغ‭ ‬مكان‭ ‬السكن،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فندقًـا‭ ‬بل‭ ‬مركزًا‭ ‬ثقافيًا‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬قديـم‭ ‬ولكن‭ ‬نظيف‭ ‬يحتضن‭ ‬ساكنيه‭ ‬بود‭ ‬ورحابة‭ ‬صدر،‭ ‬كان‭ ‬كالبيت‭ ‬الحنون‭ ‬بدفئه‭ ‬الجميل‭. ‬قضينا‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬نهار‭ ‬ذاك‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬التعارف‭ ‬ثم‭ ‬تم‭ ‬فصل‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬جناح‭ ‬خاص‭ ‬متصل‭ ‬بصالة‭ ‬كبيرة‭ ‬تقع‭ ‬من‭ ‬بعدها‭ ‬المساحة‭ ‬المخصصة‭ ‬للنساء‭.‬

كنت‭ ‬محبطا‭ ‬بعض‭ ‬الشيء،‭ ‬فإن‭ ‬يكون‭ ‬لك‭ ‬سرير‭ ‬وسط‭ ‬حجرة‭ ‬كبيرة‭ ‬وتكون‭ ‬أنت‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الجدران‭ ‬رقم‭ ‬سبعة‭ ‬أمرٌ‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬الضجر،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬من‭ ‬الظرف‭ ‬الواقع‭ ‬بثقله‭ ‬على‭ ‬المرء‭ ‬حيث‭ ‬يسلم‭ ‬أمره‭ ‬لله‭. ‬أوه‭ ‬هذا‭ ‬جاري‭ ‬ذاك‭ ‬الستيني‭ ‬يبتسم‭ ‬وتصلني‭ ‬رائحة‭ ‬فمه‭ ‬الكريهة،‭ ‬أيعقل‭ ‬بأنه‭ ‬نسي‭ ‬فرشاة‭ ‬أسنانه‭ ‬قبيل‭ ‬السفر؟‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني‭ ‬أترقبه‭ ‬بفارغ‭ ‬الصبر‭ ‬واتخيلني‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬المنصة‭ ‬اقرأ‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬لديّ‭ ‬من‭ ‬بضاعتي‭ ‬السردية‭ ‬وأنا‭ ‬أرتدي‭ ‬عباءة‭ ‬دِلمون‭.‬

الحجرة‭ ‬للأسف‭ ‬يطغى‭ ‬عليها‭ ‬شخير‭ ‬الرجال‭ ‬الموسيقي‭ ‬الرديء،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬أنا‭ ‬الشاب‭ ‬الوحيد‭ ‬خارج‭ ‬الجوقـة‭ ‬وباب‭ ‬الحمام‭ ‬الجماعـي‭ ‬يُفتح‭ ‬ويُغلق‭ ‬فيسطع‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬وجهي‭ ‬فمن‭ ‬أين‭ ‬تحل‭ ‬عليك‭ ‬سكينة‭ ‬النوم،‭ ‬وفي‭ ‬منتصف‭ ‬الليل‭ ‬حيث‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬التكيف‭ ‬بصعوبة‭ ‬مع‭ ‬سيمفونية‭ ‬الشخير‭ ‬الذكوري‭ ‬وكنت‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬تعب‭ ‬الرحلة‭ ‬أكـاد‭ ‬أنام‭ ‬ثم‭... ‬استيقظ‭ ‬أحدهم‭ ‬وهو‭ ‬يتألم‭ ‬واضعًـا‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬ركبتـه،‭ ‬فسأله‭ ‬جاري‭ ‬الذي‭ ‬يلاصق‭ ‬سريره‭ ‬عن‭ ‬حاله‭. ‬

أخبره‭ ‬بأن‭ ‬ركبتـه‭ ‬اليمنى‭ ‬داهمتها‭ ‬آلام‭ ‬الروماتيزم‭ ‬وقد‭ ‬نسي‭ ‬دواءه‭ ‬في‭ ‬البيت‭. ‬فتبرع‭ ‬جاري‭ ‬بالحل‭ ‬السريع‭ ‬والمجاني،‭ ‬قائلا‭.. ‬لا‭ ‬تحمل‭ ‬همًـا‭ ‬أخونا‭ ‬أبو‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬البحرين‭ ‬لديه‭ ‬مسكن‭ ‬بريطاني‭ ‬ديلوكس،‭ ‬حبة‭ ‬واحدة‭ ‬تدعـس‭ ‬الألم‭! ‬وعن‭ ‬طيب‭ ‬خاطر‭ ‬قدمت‭ ‬قرصين‭ ‬حتى‭ ‬يرتاح‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬وجعـه،‭ ‬بضع‭ ‬دقائق‭ ‬مرت‭ ‬ثم‭ ‬نام‭ ‬الرجل‭ ‬بسلام‭ ‬حتى‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭.‬

ولما‭ ‬حل‭ ‬المساء‭ ‬تسابقت‭ ‬الوجوه‭ ‬على‭ ‬منصة‭ ‬السرد،‭ ‬جاري‭ ‬صاحب‭ ‬الأسنان‭ ‬المفقودة‭ ‬أبدع‭ ‬في‭ ‬سرده‭ ‬وهو‭ ‬يغازل‭ ‬الجميلات‭ ‬وسط‭ ‬صحراء‭ ‬رأسه‭ ‬القاحلة،‭ ‬أشفقت‭ ‬عليه‭ ‬وهو‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬جنته‭ ‬المفقودة‭. ‬أما‭ ‬صاحبنا‭ ‬الروماتيزمي‭ ‬فجاء‭ ‬سرده‭ ‬حزينًـا‭ ‬عن‭ ‬قرية‭ ‬غادرها‭ ‬مغتربًا‭ ‬وحينما‭ ‬عاد‭ ‬إليها‭ ‬أنكرته‭. ‬أنهى‭ ‬فقرته‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬وجلس‭ ‬خلفي‭ ‬فهمس‭ ‬في‭ ‬أذني‭.. ‬أنت‭ ‬ولد‭ ‬حلال‭ ‬فعلا،‭ ‬دواؤك‭ ‬السحري‭ ‬هذا‭ ‬يا‭ ‬ليت‭ ‬تصرفه‭ ‬عندنا‭ ‬وزارة‭ ‬الصحة‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬منتجاتنا‭ ‬المحلية‭ ‬الرديئة،‭ ‬ممكن‭ ‬بعد‭ ‬إذنك‭ ‬تعطيني‭ ‬قرصين‭ ‬قبل‭ ‬النوم؟‭ ‬

لم‭ ‬أدرك‭ ‬ذاك‭ ‬اليوم‭ ‬أبعاد‭ ‬القصة‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬وكان‭ ‬بطلها‭ ‬‮«‬حبوب‭ ‬بانادول‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬جمع‭ ‬الكتاب‭ ‬والكاتبات‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬بينما‭ ‬الوجوه‭ ‬تنشغل‭ ‬بأحاديث‭ ‬جانبية‭ ‬حتى‭ ‬جاءت‭ ‬امرأة‭ ‬ربما‭ ‬تناهز‭ ‬الأربعين‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬أو‭ ‬الثامنة‭ ‬الثلاثين‭ ‬فابتسمت‭ ‬وقالت‭: ‬أنت‭ ‬الشاب‭ ‬البحريني‭ ‬صاحب‭ ‬مسكن‭ ‬الألم‭ ‬السحري‭ ‬صح؟‭ ‬تصور‭ ‬أن‭ ‬أقرب‭ ‬صيدلية‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬تبعد‭ ‬حوالي‭ ‬ساعة‭ ‬ونصف؟‭! ‬ممكن‭ ‬تصعد‭ ‬معي‭ ‬فوق؟

ذهبت‭ ‬معها‭ ‬فهي‭ ‬على‭ ‬الأغلب‭ ‬ستتبادل‭ ‬معي‭ ‬بعض‭ ‬الكتب‭ ‬وهذا‭ ‬يروق‭ ‬لي‭ ‬أكيد‭.. ‬انتظرتها‭ ‬في‭ ‬الصالة‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬وهي‭ ‬تحمل‭ ‬كتابا‭ ‬وقعته‭ ‬لي‭ ‬لتخبرني‭ ‬بأنه‭ ‬أول‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬صدرت‭ ‬لها‭. ‬شكرتها‭ ‬فطلبت‭ ‬مني‭ ‬قراءة‭ ‬الإهداء‭. ‬قرأت‭ ‬الإهداء‭ ‬الجميل‭ ‬بخط‭ ‬أناملها‭ ‬البيضاء‭ ‬المعطرة‭ ‬وكان‭ ‬ثمة‭ ‬ورقة‭ ‬صغير‭ ‬منفصلة‭ ‬مع‭ ‬الكتاب‭ ‬بها‭ ‬جملة‭ ‬مقتضبة‭ (‬أحتاج‭ ‬دواءك‭ ‬السحري،‭ ‬دورة‭ ‬طمثي‭ ‬داهمتني‭ ‬اليوم‭ ‬بأوجاع‭ ‬لا‭ ‬تُحتمل‭ ‬أنقذ‭ ‬هذه‭ ‬الأنثى‭ ‬الحائرة‭ ‬أمامك‭). ‬ومرة‭ ‬أخرى‭ ‬جئت‭ ‬بالعلبـة‭ ‬فأعطيتها‭ ‬قرصين‭ ‬فشهقت‭ ‬وقد‭ ‬حدقت‭ ‬في‭ ‬العلبة‭.. ‬هذا‭ ‬دواء‭ ‬أجنبي‭! ‬تصور‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬الشرطة‭ ‬تضبط‭ ‬عندك‭ ‬علبة‭ ‬الدواء‭ ‬يترتب‭ ‬لك‭ ‬محضر‭ ‬وتتهم‭ ‬بالتهريب؟‭ ‬أنا‭ ‬سأقبل‭ ‬أحميك‭ ‬وأكون‭ ‬درعا‭ ‬لك،‭ ‬فأنت‭ ‬ضيفنا‭. ‬كدت‭ ‬أضحك‭ ‬من‭ ‬كلامها‭ ‬الحاذق‭ ‬المراوغ،‭ ‬فأخبرتها‭ ‬مازحًـا‭.. ‬سأورطك‭ ‬في‭ ‬علبـة‭ ‬بحالها،‭ ‬فقط‭ ‬أحمني‭ ‬يا‭ ‬نون‭ ‬النسوة‭. ‬احتضنت‭ ‬جسدي‭ ‬البارد،‭ ‬أهدتني‭ ‬قبلة‭ ‬وهي‭ ‬تخطف‭ ‬بسعادة‭ ‬العلبة‭.. ‬فماذا‭ ‬فعلت‭ ‬بي‭ ‬يا‭ ‬‮«‬بانادول»؟‭!‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا