العدد : ١٧٤٣٥ - الأربعاء ١٧ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٦ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٣٥ - الأربعاء ١٧ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٦ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

الثقافي

نبض: حين يُهمل الإبداع ويُقبر المبدع..
حذار أن نهدي كتبنا لمن لا يحترمنا باحترام نتاجنا!

بقلم: علي الستراوي

السبت ١٦ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬أحد‭ ‬الأسواق‭ ‬الشعبية،‭ ‬وبين‭ ‬أكداس‭ ‬الخردة‭ ‬والأشياء‭ ‬المستعملة،‭ ‬وقعت‭ ‬عيني‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬مطبوع‭ ‬حديثًا،‭ ‬لم‭ ‬يمرّ‭ ‬على‭ ‬صدوره‭ ‬سوى‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭. ‬تفحصته‭ ‬بدهشة،‭ ‬وبين‭ ‬صفحاته‭ ‬وجدت‭ ‬إهداء‭ ‬بخط‭ ‬اليد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الكاتب‭ ‬لصديقه‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭: ‬الأخ‭ ‬الصديق‭ (...)‬،‭ ‬تحياتي‭.. ‬رواية‭ ‬سوف‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬تاريخ‭ ‬المنطقة‭.. ‬إلخ‭.. ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬الإهداء،‭ ‬وكوني‭ ‬أعرف‭ ‬كاتب‭ ‬الرواية‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬زميل‭ ‬عمل‭ ‬سنوات‭ ‬قضيتها‭ ‬معه،‭ ‬وأعرف‭ ‬بوح‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬وكيف‭ ‬كان‭ ‬يتعاطى‭ ‬بمحبة‭ ‬مع‭ ‬زملائه،‭ ‬ما‭ ‬أحزنني‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أول‭ ‬إصداراته‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬عام‭ ‬2018‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الفارابي،‭ ‬وكان‭ ‬تاريخ‭ ‬الإهداء‭ ‬23‭-‬4‭-‬2022،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بين‭ ‬أكداس‭ ‬الخردة‭.‬

هذا‭ ‬التعاطي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬القراء‭ ‬مع‭ ‬الأديب‭ ‬ونتاجه‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ ‬شيء‭ ‬مؤلم‭ ‬كثيرا‭ ‬للأديب‭ ‬المبدع،‭ ‬ولحال‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬عليه‭ ‬المؤلف‭ ‬سنوات‭ ‬حتى‭ ‬ظهر‭ ‬للنور‭ ‬أن‭ ‬يرمى‭ ‬كما‭ ‬ترمى‭ ‬القمامة‭ ‬في‭ ‬براميل‭ ‬الزبالة،‭ ‬أو‭ ‬تباع‭ ‬كأي‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬حاجة‭ ‬لنا‭ ‬فيه‭! ‬

مثل‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬المخزي‭ ‬والمؤلم،‭ ‬كيف‭ ‬لنا‭ ‬ككتاب‭ ‬أن‭ ‬نثق‭ ‬ثقة‭ ‬عمياء‭ ‬بأن‭ ‬عصارة‭ ‬عمرنا‭ ‬عندما‭ ‬نهديها‭ ‬لأصدقائنا‭ ‬لن‭ ‬تهمل‭ ‬ولن‭ ‬تكون‭ ‬كحال‭ ‬صاحبنا‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تمض‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬إهدائه‭ ‬كتابه‭ ‬لصديقه،‭ ‬يباع‭ ‬بفتات‭ ‬من‭ ‬الخردة‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬ليس‭ ‬محل‭ ‬تكريم‭ ‬الكاتب‭ ‬أو‭ ‬مكاناً‭ ‬آمناً‭ ‬للكتاب‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬أعرفه‭ ‬من‭ ‬قرب،‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬منشغل‭ ‬بالأدب‭ ‬قرأت‭ ‬له‭ ‬سابقًا‭ ‬ووقفت‭ ‬أمام‭ ‬فكره‭ ‬طويلاً‭. ‬رأيت‭ ‬اليوم‭ ‬جهده‭ ‬ونتاج‭ ‬فكره‭ ‬مرميًا‭ ‬بين‭ ‬أدوات‭ ‬مهملة،‭ ‬يباع‭ ‬ببضعة‭ ‬فلوس،‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بالكتاب‭.‬

وكان‭ ‬وقوفي‭ ‬أمام‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وقفة‭ ‬عابرة،‭ ‬كان‭ ‬صدمة‭ ‬امتزجت‭ ‬فيها‭ ‬مشاعر‭ ‬الحزن‭ ‬بالغضب‭. ‬كيف‭ ‬لكتاب‭ ‬يحمل‭ ‬فكرًا،‭ ‬وربما‭ ‬عمرًا‭ ‬من‭ ‬التأمل،‭ ‬أن‭ ‬يُعامل‭ ‬كقطعة‭ ‬مكسورة‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها؟‭ ‬

وقد‭ ‬أتفهم‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬القراء‭ ‬يتبادل‭ ‬كتبه‭ ‬بكتب‭ ‬أخرى‭ ‬لقراء‭ ‬آخرين،‭ ‬وربما‭ ‬يباع‭ ‬الكتاب‭ ‬ككتاب‭ ‬مستعمل‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬الكتب‭ ‬المستعملة،‭ ‬فهذا‭ ‬ليس‭ ‬عيباً‭ ‬ولا‭ ‬تقليلاً‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الكتاب‭ ‬والكاتب‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬الآخرون‭ ‬قد‭ ‬يستفيدون‭ ‬ويفيدون،‭ ‬لأن‭ ‬المعروف‭ ‬للجميع‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التبادل‭.‬

لكن‭ ‬المحزن‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬ليس‭ ‬موضع‭ ‬احترام،‭ ‬كما‭ ‬أشرت‭ (‬بين‭ ‬أكوام‭ ‬الخردة‭).‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬يحزنني،‭ ‬فكم‭ ‬من‭ ‬الليالي‭ ‬والأيام‭ ‬المضنية‭ ‬التي‭ ‬سهر‭ ‬عليها‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬تحبير‭ ‬كتابه؟‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬لحظات‭ ‬الإرهاق‭ ‬والتعب‭ ‬والتوجس‭ ‬عايشها‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬حلمه‭ ‬قد‭ ‬أنجز؟‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬العزلة‭ ‬تحملها‭ ‬ليُنجز‭ ‬هذا‭ ‬العمل؟‭ ‬ثم‭ ‬يكون‭ ‬مصيره‭ ‬بين‭ ‬أرصفة‭ ‬النسيان‭ ‬والتجاهل‭!‬

وفي‭ ‬سياق‭ ‬هذا‭ ‬الألم‭ ‬يقول‭ ‬الروائي‭ ‬البرتغالي‭ ‬ساراماغو‭: ‬الكتابة‭ ‬ليست‭ ‬مهنة،‭ ‬بل‭ ‬موقفا‭ ‬من‭ ‬الحياة‭. ‬فكيف‭ ‬نجازي‭ ‬من‭ ‬يهدينا‭ ‬نتاجه‭ ‬بهذا‭ ‬التصرف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يحترم‭ ‬فيه‭ ‬الكاتب‭ ‬ولا‭ ‬نتاجه‭. ‬

وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬وأنا‭ ‬منهم‭ ‬قد‭ ‬وقعوا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفخ،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬إهداء‭ ‬كتبهم‭ ‬لأناس‭ ‬ليسوا‭ ‬حريصين‭ ‬على‭ ‬حفظ‭ ‬الكتاب‭ ‬والاهتمام‭ ‬به،‭ ‬كان‭ ‬مصيرها‭ ‬بين‭ ‬ركام‭ ‬مخلفات‭ ‬الخردة‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬الشعبية‭.‬

في‭ ‬هكذا‭ ‬تصرف‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬تقع‭ ‬المسؤولية؟‭ ‬أليس‭ ‬المسؤولية‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬القارئ‭ ‬والمؤسسة‭ ‬الثقافية،‭ ‬فالذي‭ ‬حصل‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬وهو‭ ‬تقصير‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬تجاه‭ ‬الكاتب‭ ‬وتجاهل‭ ‬مرير‭ ‬يؤشر‭ ‬إلى‭ ‬خلل‭ ‬أعمق‭ ‬في‭ ‬تعاملنا‭ ‬مع‭ ‬المبدعين‭ ‬ومع‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬مشجعاً‭ ‬لمثل‭ ‬هذا‭ ‬الفعل‭ ‬المتكرر‭ ‬والمخزي‭. ‬

سؤالي‭ ‬للقارئ‭ ‬الذي‭ ‬بمثل‭ ‬صاحبنا‭ ‬والذي‭ ‬استرخص‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬ولم‭ ‬يقدر‭ ‬مشاعر‭ ‬وجهد‭ ‬الكاتب،‭ ‬كيف‭ ‬رضيت‭ ‬لنفسك‭ ‬أن‭ ‬يهدى‭ ‬إليك‭ ‬كتاب‭ ‬من‭ ‬صديق‭ ‬عزيز‭ ‬فتهمله‭ ‬وتدوس‭ ‬على‭ ‬مشاعر‭ ‬صاحب‭ ‬الاهداء،‭ ‬فهل‭ ‬رضيت‭ ‬لنفسك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الفعل‭ ‬عليك‭ ‬واقعا‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬أوقعته‭ ‬على‭ ‬الآخرين؟

وهل‭ ‬أصبحنا‭ ‬ضمن‭ ‬واقع‭ ‬يلزمنا‭ ‬أن‭ ‬نقتل‭ ‬مبدعينا‭ ‬ونسوقهم‭ ‬كما‭ ‬تساق‭ ‬كتبهم‭ ‬للتجاهل‭ ‬والإهمال‭. ‬

على‭ ‬القارئ‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬متلقّيًا‭ ‬عابرًا‭ ‬ضعيفاً‭ ‬يساق‭ ‬كما‭ ‬يساق‭ ‬القطيع،‭ ‬فالقراءة‭ ‬ليست‭ ‬استهلاكًا‭ ‬عابرًا،‭ ‬بل‭ ‬علاقة‭ ‬وجدانية‭ ‬وفكرية‭ ‬ذات‭ ‬ابعاد‭ ‬فلسفية‭ ‬وأدبية،‭ ‬ذات‭ ‬ابعاد‭ ‬اجتماعية‭ ‬مع‭ ‬الكلمة‭ ‬ومع‭ ‬مبدعيها‭.‬

سمعت‭ ‬الكثير‭ ‬وعايشت‭ ‬واقع‭ ‬المبدعين‭ ‬مع‭ ‬علاقتهم‭ ‬بالكتاب،‭ ‬وبعض‭ ‬المبدعين‭ ‬وضع‭ ‬كتبه‭ ‬للبيع‭ ‬لحاجة‭ ‬ماسة‭ ‬يسد‭ ‬بها‭ ‬رمق‭ ‬جوعه،‭ ‬وهكذا‭ ‬حالة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مقبولة،‭ ‬لكن‭ ‬كحال‭ ‬بعض‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الذين‭ ‬نهديهم‭ ‬بحب‭ ‬نتاجنا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقابل،‭ ‬لكنهم‭ ‬لا‭ ‬يراعون‭ ‬وفاء‭ ‬الصداقة،‭ ‬ولا‭ ‬يحترمون‭ ‬سنوات‭ ‬الجهد‭ ‬والعمل‭ ‬التي‭ ‬اشتغل‭ ‬عليها‭ ‬الكاتب‭ ‬حتى‭ ‬يرى‭ ‬نتاجه‭ ‬النور‭.‬

فحذار،‭ ‬حذار‭ ‬أن‭ ‬نهدي‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬الاحترام‭ ‬ولا‭ ‬يحترم‭ ‬صداقتنا‭ ‬له‭ ‬باحترامنا‭ ‬فيما‭ ‬قدمناه‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬إهداء،‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يحفظ‭ ‬عصارة‭ ‬عمرنا‭ ‬لن‭ ‬يحفظ‭ ‬احترامنا‭ ‬له‭ ‬ولنفسه‭. ‬

وأخيرا‭ ‬اختم‭ ‬بقول‭ ‬الشاعر‭ ‬والفيلسوف‭ ‬الأمريكي،‭ ‬هنري‭ ‬دايفيد‭ ‬ثورو‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬الكتب‭ ‬هي‭ ‬ثروة‭ ‬العالم‭ ‬المخزونة،‭ ‬وأفضل‭ ‬إرثٍ‭ ‬للأجيال‭ ‬والأمم‭. ‬فمن‭ ‬يعي‭ ‬قيمتها‭ ‬وأهميتها‭ ‬بأهمية‭ ‬مبدعيها؟

 

a‭.‬astrawi@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا