في أحد الأسواق الشعبية، وبين أكداس الخردة والأشياء المستعملة، وقعت عيني على كتاب مطبوع حديثًا، لم يمرّ على صدوره سوى بضع سنوات. تفحصته بدهشة، وبين صفحاته وجدت إهداء بخط اليد من قبل الكاتب لصديقه الذي يقول فيه: الأخ الصديق (...)، تحياتي.. رواية سوف تعبر عن نفسها في سرد تاريخ المنطقة.. إلخ.. هكذا كان الإهداء، وكوني أعرف كاتب الرواية وقد كان زميل عمل سنوات قضيتها معه، وأعرف بوح هذا الكاتب وكيف كان يتعاطى بمحبة مع زملائه، ما أحزنني أن يكون أول إصداراته التي صدرت عام 2018 عن دار الفارابي، وكان تاريخ الإهداء 23-4-2022، أن تكون بين أكداس الخردة.
هذا التعاطي من قبل القراء مع الأديب ونتاجه بهذا الشكل شيء مؤلم كثيرا للأديب المبدع، ولحال الكتاب الذي عمل عليه المؤلف سنوات حتى ظهر للنور أن يرمى كما ترمى القمامة في براميل الزبالة، أو تباع كأي شيء لا حاجة لنا فيه!
مثل هذا الواقع المخزي والمؤلم، كيف لنا ككتاب أن نثق ثقة عمياء بأن عصارة عمرنا عندما نهديها لأصدقائنا لن تهمل ولن تكون كحال صاحبنا الذي لم تمض بضع سنوات من إهدائه كتابه لصديقه، يباع بفتات من الخردة في سوق ليس محل تكريم الكاتب أو مكاناً آمناً للكتاب.
وقد كان الكتاب من تأليف الكاتب الذي أعرفه من قرب، وهو اسم منشغل بالأدب قرأت له سابقًا ووقفت أمام فكره طويلاً. رأيت اليوم جهده ونتاج فكره مرميًا بين أدوات مهملة، يباع ببضعة فلوس، في مكان لا يليق بالكتاب.
وكان وقوفي أمام هذا المشهد لم يكن وقفة عابرة، كان صدمة امتزجت فيها مشاعر الحزن بالغضب. كيف لكتاب يحمل فكرًا، وربما عمرًا من التأمل، أن يُعامل كقطعة مكسورة لا قيمة لها؟
وقد أتفهم أن بعض القراء يتبادل كتبه بكتب أخرى لقراء آخرين، وربما يباع الكتاب ككتاب مستعمل في معرض الكتب المستعملة، فهذا ليس عيباً ولا تقليلاً من قيمة الكتاب والكاتب ما دام الآخرون قد يستفيدون ويفيدون، لأن المعروف للجميع بمثل هذا النوع من التبادل.
لكن المحزن أن نرى الكتاب في موضع ليس موضع احترام، كما أشرت (بين أكوام الخردة).
هذا ما يحزنني، فكم من الليالي والأيام المضنية التي سهر عليها الكاتب في تحبير كتابه؟ وكم من لحظات الإرهاق والتعب والتوجس عايشها الكاتب في أن يرى حلمه قد أنجز؟ وكم من العزلة تحملها ليُنجز هذا العمل؟ ثم يكون مصيره بين أرصفة النسيان والتجاهل!
وفي سياق هذا الألم يقول الروائي البرتغالي ساراماغو: الكتابة ليست مهنة، بل موقفا من الحياة. فكيف نجازي من يهدينا نتاجه بهذا التصرف الذي لا يحترم فيه الكاتب ولا نتاجه.
وأعتقد أن الكثيرين من الكتّاب وأنا منهم قد وقعوا في هذا الفخ، من قبل إهداء كتبهم لأناس ليسوا حريصين على حفظ الكتاب والاهتمام به، كان مصيرها بين ركام مخلفات الخردة في الأسواق الشعبية.
في هكذا تصرف على من تقع المسؤولية؟ أليس المسؤولية مشتركة بين القارئ والمؤسسة الثقافية، فالذي حصل يحصل في كل يوم، وهو تقصير في حق تجاه الكاتب وتجاهل مرير يؤشر إلى خلل أعمق في تعاملنا مع المبدعين ومع المجتمع الذي أصبح مشجعاً لمثل هذا الفعل المتكرر والمخزي.
سؤالي للقارئ الذي بمثل صاحبنا والذي استرخص في الكتاب ولم يقدر مشاعر وجهد الكاتب، كيف رضيت لنفسك أن يهدى إليك كتاب من صديق عزيز فتهمله وتدوس على مشاعر صاحب الاهداء، فهل رضيت لنفسك أن يكون الفعل عليك واقعا بمثل ما أوقعته على الآخرين؟
وهل أصبحنا ضمن واقع يلزمنا أن نقتل مبدعينا ونسوقهم كما تساق كتبهم للتجاهل والإهمال.
على القارئ ألا يكون متلقّيًا عابرًا ضعيفاً يساق كما يساق القطيع، فالقراءة ليست استهلاكًا عابرًا، بل علاقة وجدانية وفكرية ذات ابعاد فلسفية وأدبية، ذات ابعاد اجتماعية مع الكلمة ومع مبدعيها.
سمعت الكثير وعايشت واقع المبدعين مع علاقتهم بالكتاب، وبعض المبدعين وضع كتبه للبيع لحاجة ماسة يسد بها رمق جوعه، وهكذا حالة قد تكون مقبولة، لكن كحال بعض الأصدقاء الذين نهديهم بحب نتاجنا من دون مقابل، لكنهم لا يراعون وفاء الصداقة، ولا يحترمون سنوات الجهد والعمل التي اشتغل عليها الكاتب حتى يرى نتاجه النور.
فحذار، حذار أن نهدي من لا يستحق الاحترام ولا يحترم صداقتنا له باحترامنا فيما قدمناه له من إهداء، لأن من لا يحفظ عصارة عمرنا لن يحفظ احترامنا له ولنفسه.
وأخيرا اختم بقول الشاعر والفيلسوف الأمريكي، هنري دايفيد ثورو في قوله: الكتب هي ثروة العالم المخزونة، وأفضل إرثٍ للأجيال والأمم. فمن يعي قيمتها وأهميتها بأهمية مبدعيها؟
a.astrawi@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك