العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

الثقافي

سرديات: (مائةُ عامٍ من العزلة) في أطلس السَّرد الروائي العالمي!

{ بقلم : د. ضياء عبدالله الكعبيّ

السبت ٠٩ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

‮«‬للأشياء‭ ‬حياتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬وما‭ ‬القضية‭ ‬سوى‭ ‬إيقاظ‭ ‬أرواحها‮»‬

جابرييل‭ ‬جارسيا‭ ‬ماركيز‭ ‬‮«‬مائة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬العزلة‮»‬‭.‬

ذكر‭ ‬الناقد‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬تزفيتين‭ ‬تودوروف‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المهم‭ (‬فتح‭ ‬أمريكا‭ ‬ومسألة‭ ‬الآخر‭) ‬أنَّه‭ ‬عندما‭ ‬حاصر‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬هنود‭ ‬أمريكا‭ ‬الحمر‭ ‬سفينة‭ ‬كريستوفر‭ ‬كولومبوس‭ ‬بعد‭ ‬تحطمها‭ ‬في‭ ‬جامايكا‭ ‬هدَّدهم‭ ‬بأنَّه‭ ‬سيسرق‭ ‬منهم‭ ‬القمر‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يفكوا‭ ‬حصارهم‭ ‬عن‭ ‬سفينته‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬كولومبوس‭ ‬ضليعًا‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الأنواء‭ ‬البحرية‭ ‬الذي‭ ‬ورثه‭ ‬عن‭ ‬عرب‭ ‬الأندلس،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬بموعد‭ ‬خسوف‭ ‬القمر‭. ‬وعندما‭ ‬نفّذ‭ ‬تهديده‭ ‬استسلم‭ ‬أمامه‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر،‭ ‬وتوسلوا‭ ‬إليه‭ ‬كي‭ ‬يعيد‭ ‬إليهم‭ ‬إلههم‭ ‬القمر،‭ ‬وفكوا‭ ‬حصارهم‭ ‬عن‭ ‬سفينته‭: ‬لقد‭ ‬خسروا‭ ‬قارة‭ ‬كاملة‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬احتفائهم‭ ‬الأسطوريّ‭ ‬بعودة‭ ‬الإله‭ ‬القمر‭ ‬إليهم‭! ‬لقد‭ ‬تعمّدتُ‭ ‬إيراد‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة‭ ‬التاريخيّة‭ ‬التي‭ ‬ذكرها‭ ‬تودوروف‭ ‬نقلاً‭ ‬عن‭ ‬أرشيف‭ ‬وثائقيّ‭ ‬ضخم‭ ‬خاص‭ ‬بالقارة‭ ‬الأمريكيّة‭ ‬وقدوم‭ ‬الإسبان‭ ‬إليها‭ ‬كي‭ ‬أبين‭ ‬خصوصية‭ ‬هذه‭ ‬القارة‭ ‬العجائبية‭ ‬المدهشة‭ ‬في‭ ‬احتفائها‭ ‬بأساطيرها‭ ‬التأسيسيّة‭!‬

خمسون‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬السرديّ‭ ‬اللاتينيّ‭ ‬العجائبيّ‭ ‬الواقعيّ‭ ‬السحريّ‭ ‬المدهش‭ ‬الذي‭ ‬دشّنه‭ ‬الروائيّ‭ ‬الكولومبيّ‭ ‬العالميّ‭ ‬جابرييل‭ ‬جارسيا‭ ‬ماركيز‭ ‬بروايته‭ (‬مائة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬العزلة‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬حصد‭ ‬بعد‭ ‬كتابتها‭ ‬بخمسة‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬العالميّة‭ ‬للآداب‭ ‬عن‭ ‬مجمل‭ ‬أعماله‭ ‬الروائيّة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الأنموذج‭ ‬الأمثل‭ ‬والأكمل‭ ‬والأكثر‭ ‬إتقانًا‭ ‬لتيار‭ ‬الواقعيّة‭ ‬السحرية‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬كتاب‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينيّة‭. ‬صدرتْ‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬مائة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬العزلة‮»‬‭ ‬ثلاثون‭ ‬مليون‭ ‬نسخة،‭ ‬وتُرجِمت‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثين‭ ‬لغة‭ ‬من‭ ‬لغات‭ ‬العالم‭ ‬المختلفة‭. ‬وصُنٍفَت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬بوصفها‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬المائة‭ ‬رواية‭ ‬المؤثِّرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الرواية‭ ‬العالميّة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ومن‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يقرأها‭ ‬الإنسان‭ ‬المثقف‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يموت‭. ‬هذه‭ ‬رواية‭ ‬تأسيسيّة‭ ‬عالميّة‭ ‬تستحق‭ ‬القراءة‭ ‬وبعمق،‭ ‬وتُصنف‭ ‬بكونها‭ ‬الرواية‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬السرد‭ ‬المكتوب‭ ‬باللغة‭ ‬الإسبانيّة‭ ‬بعد‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى‭ (‬دون‭ ‬كيخوتي‭ ‬دي‭ ‬لامنتشا‭) ‬للإسبانيّ‭ ‬ميغيل‭ ‬دي‭ ‬ثيربانتس‭ ‬سابيدرا‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬على‭ ‬جزأين‭ ‬بين‭ (‬1605-1615‭)‬،‭ ‬وتًعد‭ ‬أول‭ ‬رواية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الرواية‭ ‬العالمية‭. ‬

في‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬التفتْ‭ ‬بعض‭ ‬كتاب‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينيّة‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬عالمية‭ ‬أدبهم‭ ‬تكمنً‭ ‬في‭ ‬صدورهم‭ ‬عن‭ ‬تواريخهم‭ ‬المحليّة‭ ‬المعجونة‭ ‬بشغف‭ ‬بالأساطير‭ ‬والخوارق‭ ‬والعجائبيّة،‭ ‬وفي‭ ‬احتفاء‭ ‬رواياتهم‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬البسيطة‭ ‬لدى‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القارة،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬احتفائه‭ ‬الاستثنائيّ‭ ‬بكرنفالات‭ ‬الموت،‭ ‬وإقامة‭ ‬موائد‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬الشموع‭ ‬تمتدًّ‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬القرية‭ ‬كلها‭ ‬كي‭ ‬يسترشد‭ ‬بها‭ ‬الأموات،‭ ‬ويحظوا‭ ‬بوليمة‭ ‬موتهم‭ ‬الفاخرة‭. ‬إنَّ‭ ‬الزمن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القارة‭ ‬العجائبيّة‭ ‬خارج‭ ‬عن‭ ‬أزمنتنا‭ ‬الفيزيائيّة‭ ‬المحدودة‭ ‬الصارمة،‭ ‬هناك‭ ‬التواريخ‭ ‬التكرارية‭ ‬فما‭ ‬يحدث‭ ‬للجد‭ ‬يتكرّر‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬ذاتها‭ ‬عند‭ ‬الحفيد‭. ‬وعندما‭ ‬اشتغل‭ ‬الأنثروبولوجيّ‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬كليفود‭ ‬ليفي‭ ‬شتراوس‭ ‬على‭ ‬التحليل‭ ‬البنيويّ‭ ‬للأسطورة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إيجاد‭ ‬قالب‭ ‬عالميّ‭ ‬لها،‭ ‬استقى‭ ‬نظريته‭ ‬من‭ ‬تحليل‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬أساطير‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر‭.‬

إنَّ‭ ‬الجاذبية‭ ‬السردية‭ ‬المؤسّسة‭ ‬على‭ ‬عنصر‭ ‬الشغف‭ ‬في‭ ‬رواية‭ (‬مائة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬العزلة‭) ‬هي‭ ‬كونها‭ ‬تحكي‭ ‬سرديًا‭ ‬حياة‭ ‬عشرة‭ ‬عقود‭ (‬قرن‭ ‬كامل‭) ‬لسلالة‭ ‬بونديا‭ ‬في‭ ‬القرية‭ ‬المتخيّلة‭ ‬ماكوندو‭ ‬التي‭ ‬تنتهي‭ ‬حياتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أسطورة‭ ‬قديمة‭ ‬آمنت‭ ‬بها‭ ‬وبعمق‭ ‬أورسولا‭ (‬زوجة‭ ‬مؤسِّس‭ ‬القرية‭ ‬وعميد‭ ‬آل‭ ‬بونديا‭). ‬ويقوم‭ ‬زمن‭ ‬هذه‭ ‬القرية‭ ‬المتخيّلة‭ ‬على‭ ‬التواريخ‭ ‬التكرارية‭ ‬‮«‬فكلما‭ ‬تلاشت‭ ‬الأحداث‭ ‬من‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬أعادها‭ ‬الكون‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬شخصيات‭ ‬وأزمنة‭ ‬مختلفة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الرواية‭. ‬لقد‭ ‬استوحى‭ ‬ماركيز‭ ‬حوادث‭ ‬رواياته‭ ‬من‭ ‬مجتمعه‭ ‬الكولومبيّ‭ ‬بخصوصياته‭ ‬الاجتماعيّة‭ ‬والثقافيّة‭ ‬والسياسيّة‭ ‬المعقدة‭ ‬وبطبيعة‭ ‬زمنه‭ ‬اللاتيني‭ ‬الخاص‭ ‬الذي‭ ‬يفترق‭ ‬عن‭ ‬الأزمنة‭ ‬الأخرى‭ ‬لسكان‭ ‬العالم‭. ‬إنَّ‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬ماكوندو‮»‬‭ ‬لديه‭ ‬هو‭ ‬مستوحى‭ ‬من‭ ‬اسم‭ ‬مزرعة‭ ‬موز‭ ‬مرَّ‭ ‬عليها‭ ‬غابرييل‭ ‬الصغير‭ (‬غابيتو‭) ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬من‭ ‬رحلات‭ ‬طفولته‭ ‬ورد‭ ‬اسمها‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬له‭ ‬بوصفها‭ ‬قرية‭ ‬متخيّلة،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬الشهيرة‭ (‬مائة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬العزلة‭). ‬وسيعرف‭ ‬غابرييل‭ ‬ماركيز‭ ‬عندما‭ ‬يكبر‭ ‬قليلاً‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬هي‭ ‬اسم‭ ‬شجرة‭ ‬استوائية‭ ‬تشبه‭ ‬شجرة‭ ‬السيبيا‭. ‬وأنها‭ ‬لا‭ ‬تنتج‭ ‬أزهارًا‭ ‬ولا‭ ‬ثمارًا،‭ ‬وخشبها‭ ‬الإسفنجيّ‭ ‬ينفع‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬زوارق‭ ‬الكانوا‭ ‬وفي‭ ‬نحت‭ ‬أدوات‭ ‬مطبخية،‭ ‬كما‭ ‬اكتشف‭ ‬ماركيز‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬في‭ ‬الموسوعة‭ ‬البريطانيّة‭ ‬أنَّه‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬تنجانيقا‭ ‬قبيلة‭ ‬الماكوندو‭ ‬makondos‭ ‬الرحّالة‭.‬

إنَّ‭ ‬الدرس‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتعلمه‭ ‬جيدًا‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬غابرييل‭ ‬غارسيا‭ ‬ماركيز‭ ‬الروائيّة‭ ‬الممتدة،‭ ‬ومن‭ ‬كتابات‭ ‬‮«‬الواقعية‭ ‬السحرية‮»‬‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينيّة‭ ‬هي‭ ‬أنّك‭ ‬كي‭ ‬تكون‭ ‬مؤثِّرًا‭ ‬بسردك‭ ‬عالميًا‭ ‬لا‭ ‬بدَّ‭ ‬أن‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬المحلية،‭ ‬ولابدَّ‭ ‬أن‭ ‬تحتفي‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬اليوميّة‭ ‬العادية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬ولابدَّ‭ ‬أن‭ ‬تغوص‭ ‬عميقًا‭ ‬في‭ ‬متخيّلهم‭ ‬الذي‭ ‬شكّل‭ ‬شخصياتهم‭ ‬الثقافيّة،‭ ‬وحدّد‭ ‬وعيهم،‭ ‬ولابدَّ‭ ‬أن‭ ‬تلتقط‭ ‬أساطيرهم‭ ‬الثقافيّة‭ ‬التأسيسيّة‭. ‬لقد‭ ‬التفتتْ‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب‭ ‬وبعمق‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلى‭ ‬أهمية‭ ‬صدور‭ ‬المبدع‭ ‬في‭ ‬كتابته‭ ‬الإبداعية‭ ‬عن‭ ‬خصوصياته‭ ‬الثقافيّة‭ ‬المحليّة‭. ‬إنَّ‭ ‬مسحًا‭ ‬ثقافيًا‭ ‬شاملاً‭ ‬يُجرى‭ ‬عن‭ ‬فائزي‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬سيؤكد‭ ‬بشدة‭ ‬ما‭ ‬ذكرته‭. ‬ولربّما‭ ‬يستفيد‭ ‬الروائيون‭ ‬العرب‭ ‬المعاصرون‭ ‬من‭ ‬دروس‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬روايات‭ ‬استثنائية‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬التكرار‭ ‬الممل‭ ‬في‭ ‬الموضوعات‭ ‬وفي‭ ‬التقنيات‭ ‬السردية‭ ‬لإنتاج‭ ‬روايات‭ ‬تبقى‭ ‬خالدة‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬السرد‭ ‬العالمي‭.‬

 

أستاذة‭ ‬السَّرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك،‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا