في كل مؤسسة يتشكل الأداء من وضوح الأدوار واحترام المواقع ووعي الأفراد، بما يعنيه كل مسمى وظيفي من مسؤولية لا مجرد لقب. ومع تعدد المواقع والمسميات يُفترض أن يظل الفرق واضحاً بين من يقدم المشورة ومن يتخذ القرار بين من يحلل ومن ينفذ بين الرأي التنفيذي والرأي الاستشاري، إلا أن الواقع في بعض البيئات المهنية يشهد تداخلا بين هذه الأدوار سواء كان ذلك مقصوداً أو ناتجاً عن اجتهاد غير منظم، ما يخلف ارتباكاً إدارياً يربك مسارات اتخاذ القرار ويشوش على آليات المتابعة والمساءلة.
في الأصل يفترض أن يضطلع المستشار بدور فكري تحليلي داعم للقرار من الخلف لا أن يتصدر المشهد التنفيذي أو يدير فرق العمل.. وعلى الجانب الآخر يتحمل المدير التنفيذي مسؤولية التطبيق وضبط الإيقاع وتحقيق النتائج، وهنا لا يعني الفصل بين الدورين الانفصال بل يعني التكامل المنظم؛ حيث لكل طرف حدوده التي تعزز الانسجام وتمنع التعدي أو التداخل.
ورغم أن أغلب الجهات تمتلك لوائح تنظيمية واضحة فإن الممارسة تكشف عن صور متعددة من الخلط بين المشورة والتنفيذ في بعض المؤسسات؛ فنجد مستشاراً يتصدر الاجتماعات يصدر توجيهات ويتعامل مع الموظفين كمرجع مباشر، وهو ما يتعارض مع المبدأ الأساسي لوظيفة الاستشارة ويضعف من هيبة المسؤول التنفيذي ويخلق مساراً رمادياً للمساءلة.
وفي لقاء مهني جمعني بأحد القيادات الإدارية التي أعتز برؤيتها أكد لي أن توجه العمل الحكومي اليوم يركز على دمج الجهود وتوحيد المسارات، لكنه حذر من أن التكامل لا يجب أن يتحول إلى تداخل قال إننا نحتاج إلى مستشار يفكر لا يدير، وإلى مدير يقرر ولا ينتظر. وأضاف أن العشوائية والاجتهادات الفردية لم تعد مقبولة في مؤسسات تسعى للتميز المؤسسي، بل المطلوب هو وضوح حدود كل دور وتماسك خطوط المسؤولية.
في المقابل لا يخلو المشهد من وجود مستشارين بلا دور حقيقي، لا يستشارون ولا ينتج حضورهم قيمة مضافة، بل يتحولون إلى عبء إداري بلا أثر مهني، بما يفقد المنصب الاستشاري معناه ويحوله إلى موقع رمزي أكثر منه فعّال.
جوهر المشكلة يكمن في غياب التطبيق الواعي لمفاهيم السلوك المؤسسي؛ فبحسب علم التنظيم السلوكي لا يكفي أن توزع المسميات بل يجب أن ينسجم سلوك الموظف مع دوره، وتتماهى معاييره الشخصية مع ثقافة المؤسسة؛ فالموظف الذي يتصرف وفقاً لقيم المؤسسة ويتحلى بالمسؤولية ويضبط انفعالاته ويدرك حدوده ويتعامل بإيجابية ويواجه الضغوط بمهنية هو من يعكس التزاماً مؤسسياً حقيقياً بغض النظر عن لقبه.
من يخلط بين الرأي والتنفيذ أو يتقمص دوراً لا يخصه أو يكتفي بلقب من دون مضمون جميعهم يشتركون في إنتاج بيئة مضطربة تُربك القرار وتضعف الهيكل التنظيمي وتُفاقم من معضلة غياب المرجعية الوظيفية الواضحة.
إن طرح هذه الإشكالية ليس نوعاً من النقد وإنما محاولة صادقة لتوصيف أحد التحديات التي تواجه مؤسساتنا، وهي قابلة للمعالجة متى ما التزمت الإدارات بمبدأ لكل دور حدوده ولكل مسمى مسؤوليته؛ فالالتزام بالحوكمة لا يقتصر على اللوائح بل هو نمط تفكير وسلوك يبدأ من احترام الذات الوظيفية وينتهي باحترام المسار الإداري المؤسسي.
أكتب هذا الحديث من قناعة قبل أن يكون طرحاً إدارياً؛ لأننا مهما تحدثنا عن الهياكل والمسميات تبقى المسألة في جوهرها احتراما للدور وللمسؤولية وللناس.. فكل موظف يستحق أن يعرف حدوده بوضوح لا ليقيد بل ليُنجز، وكل مؤسسة تستحق أن تبنى على الثقة لا على الظلال. لسنا بحاجة إلى مزيد من التعقيد، بل إلى وعي يجعل كل فرد أميناً على موقعه ومُنصفاً في تعامله ومؤمناً أن النظام لا يُعطلنا بل يحمينا من الفوضى.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك